فتح الله غولن.. خلاف المعلم وتلميذه

فتح الله غولن.. خلاف المعلم وتلميذه
TT

فتح الله غولن.. خلاف المعلم وتلميذه

فتح الله غولن.. خلاف المعلم وتلميذه

ينشغل الرأي العام العالمي حاليا بالصراع الدائر في تركيا بين رمزين من أبرز رموز تركيا الإسلامية، هما رئيس الوزراء رجب طيب إردوغان الذي يمثل «إسلام الأمة»، والداعية فتح الله غولن الذي يمثل «الإسلام القومي» التركي. الرجلان كانا معا في معركة وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا، وازدهار النموذج التركي، قبل أن يتباعدا وصولا إلى حافة المواجهة المباشرة بين التلميذ والأستاذ الذي بينت الأحداث الراهنة أن له قوة لا يمكن الاستهانة بها داخل النظام، جمعها خلال سنوات التوافق، ليستعملها الآن في مواجهة إردوغان على طريقة «خبئ قرشك الأبيض ليومك الأسود».
فالمواجهة القائمة الآن في تركيا، بعد انطلاق موجة «محاربة الفساد» الذي يتهم أنصار الحزب الحاكم جماعة غولن في داخل الشرطة والقضاء بتنفيذه، تظهر أن الأمور وصلت إلى أبواب المعركة، وهي معركة سوف يستخدم فيها الطرفان كل ما لديهما من إمكانات. وبينما يسود على نطاق واسع تعبير يصف نجم الدين أربكان بأنه أستاذ رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان، إلا أن العارفين ببواطن الأمور يقولون إن غولن هو الأستاذ الحقيقي لرئيس الوزراء، ومنظر مشروعه في الحكم. وكان إردوغان وصف غولن في أكثر من مرة بـ«أستاذي».
بخلاف نجم الدين أربكان الذي يعد أبا الإسلام السياسي في تركيا، فإن غولن هو أبو الإسلام الاجتماعي. فحركته تمتلك مئات المدارس في تركيا، ومئات المدارس خارج تركيا، بدءا من جمهوريات آسيا الوسطى، وروسيا وحتى المغرب وكينيا وأوغندا، مرورا بالبلقان والقوقاز. كما تملك الحركة صحفها ومجلاتها وتلفزيوناتها الخاصة، وشركات خاصة وأعمالا تجارية ومؤسسات خيرية.
ويعتبر غولن من المنظرين الأساسيين للإسلام التركي الحديث القائم على «المرونة والبعد عن التعصب والتشنج». ووصلت هذه الحركة إلى ذروتها في الاجتماع الذي عقد في الفاتيكان بين الشيخ غولن و‏البابا إثر دعوة من الأخير. يقول غولن إنه «آمن بأن العالم أصبح - بعد تقدم وسائل الاتصالات - قرية عالمية، لذا فإن أي ‏حركة قائمة على الخصومة والعداء لن تؤدي إلى أي نتيجة إيجابية، وإنه يجب الانفتاح على العالم بأسره، ‏وإبلاغ العالم كله بأن الإسلام ليس قائما على الإرهاب، كما يصوره أعداؤه، وأن هناك مجالات واسعة ‏للتعاون بين الإسلام والأديان الأخرى». وقد صورت الكثير من الصحف الغربية غولن كزعيم حركة اجتماعية إسلامية قومية غير معاد للغرب، ووجه المستقبل للإسلام الاجتماعي في الشرق الأوسط.
وهكذا لقيت حركة غولن ترحيبا غربيا تميزت به حركته عن باقي الحركات الإسلامية في المنطقة والعالم. فبينما كان أربكان يرى أميركا عدوا للعالم الإسلامي بسبب تحكم «الصهيونية العالمية» في صنع القرار فيها، فإن غولن يرى أن أميركا والغرب عموما قوى عالمية لا بد من التعاون معها. ويرى أربكان ضرورة الوحدة بين العالم الإسلامي، بينما لا ينظر غولن إلى العالم العربي وإيران بوصفهما المجال الحيوي لتركيا، بل يعتبر القوقاز وجمهوريات آسيا الوسطى والبلقان هي المجال الحيوي لتركيا، فهذه البلدان تضم أقليات تركية هامة، وهو يرى أنه إذا كان لتركيا يوما ما أن تعود لمكانتها بوصفها واحدة من أهم دول العالم، كما كانت خلال الدولة العثمانية، فلا بد من نفوذ قوي لها وسط الأتراك في كل مكان في العالم.
ويرى رئيس معهد الفكر الاستراتيجي البروفسور ياسين أكتاي، أحد منظري حزب العدالة والتنمية، أن التأييد الغربي سببه أن تلك المدارس والمؤسسات لا تؤثر سلبيا على النظام الأميركي العولمي، وبما أنهم لا يعملون أي شيء يضر المصالح الأميركية في تلك المدارس والمؤسسات فلمِ لا؟ كما أننا لا نعرف إذا كانت هناك علاقات سرية بين الجماعة وأميركا. ورغم أن أكتاي يرفض الخوض في «نظرية المؤامرة» التي تقول بأن غولن يعمل لصالح الولايات المتحدة، فإنه يطرح أسئلة كثيرة على هذا الصعيد، خصوصا وأنهم يبتعدون ليس فقط عن الصدام مع إسرائيل بل يبتعدون كل البعد عن حتى الانتقاد لها أو التلميح بالانتقاد لإسرائيل لما تقوم به من أعمال إرهابية في المنطقة.
ولا يفضل غولن تطبيق الشريعة في تركيا، فهو يقول إن «الغالبية العظمى من قواعد الشريعة تتعلق بالحياة الخاصة للناس، بينما الأقلية منها تتعلق بإدارة الدولة وشؤونها، وإنه لا داعي لتطبيق أحكام الشريعة في الشأن العام». ولهذا يرى أن «الديمقراطية هي أفضل حل»، ويعادي «الأنظمة الشمولية في العالم الإسلامي. ولد محمد فتح الله غولن في 27 أبريل (نيسان) عام 1941 في قرية كوروجك التابعة لقضاء حسن قلعة‏ بمحافظة أرضروم. ويبدو جليا تأثير والدته، السيدة رفيعة، على ابنها. وهي كانت معروفة بتدينها والتزامها الديني العالي، وهي من بث التدين فيه منذ أيامه الأولى، علمته القرآن وهو لما يتجاوز الرابعة من العمر، إذ كانت توقظه منتصف الليل لتدرسه إياه. ويقال إنه ختمه في شهر واحد.
أما والده، رامز أفندي، فكان بدوره من المتدينين، وكان بيته يعج بضيوف من العلماء والمتصوفين المعروفين في تلك المنطقة، لذا تعود محمد فتح الله مجالسة ‏الكبار والاستماع إلى أحاديثهم. وقام والده بتعليمه اللغة العربية والفارسية.
درس في المدرسة الدينية في طفولته وصباه، وكان يتردد إلى التكية أيضا، ودرس على أيدي علماء معروفين أبرزهم عثمان بكطاش الذي كان من أبرز ‏فقهاء عهده، حيث درس عليه النحو والبلاغة والفقه وأصول الفقه والعقائد. وفي أعوام دراسته قرأ أبرز مؤلفات العلامة بديع الزمان سعيد النورسي، المعروفة برسائل النور، وتأثر بها كثيرا، وقد وصفها لاحقا بأنها «حركة تجديدية وإحيائية ‏شاملة». السبب في إعجابه بأفكار النورسي - كما يقول مصطفى يشيل، وهو رئيس وقف الصحافيين والكتاب، الذي أنشأه غولن - هو أن النورسي من أبناء هذه الأرض وهو أيضا ركز على المعضلات التي تعيشها وأيضا أوجد الحلول التي تتلاءم مع تلك المنطقة، كما استفاد من أفكار الرومي ويونس آمرة والكثير من المفكرين منذ بداية العهد الإسلامي.
عندما بلغ العشرين من عمره عين إماما في جامع أوج شرفلي في مدينة أدرنة حيث ‏قضى فيها مدة سنتين ونصف سنة في جو من الزهد، حيث قرر المبيت في الجامع وعدم الخروج إلى ‏الشارع إلا لضرورة.‏ بدأ عمله الدعوي في أزمير في جامع «كستانه بازاري» في مدرسة تحفيظ القرآن التابعة للجامع. ثم عمل ‏واعظا متجولا، فطاف في جميع أنحاء غرب الأناضول. كما كان ‏يرتب المحاضرات العلمية والدينية والاجتماعية والفلسفية والفكرية.‏ ويقول مصطفى يشيل إنه في تلك الفترة لم يكن من المألوف أن يدخل أبناء جيله من الشباب في مثل هذه المعمعة ليعيشوا على أصول وتعاليم دينهم، فهذا شيء ليس بالبسيط ولا بالسهل في تلك الفترة». ويقول إن زملاءه الذين عايشوه في تلك الفترة يذكرون بأنه كان ذكيا جدا ولا يضيع فرصة للقراءة مهما كان نوع الكتب، إلى جانب أنه لم يهمل الطرف الاجتماعي في حياته حيث كان يزور من حوله من الأصدقاء، وكان محبوبا من محيطة ومن أبناء الحي الذي يقيم به، وأيضا كان يقيم علاقات جيدة من كبار المسؤولين ووجهاء تلك المناطق التي يعين بها».
يتركز معظم نشاط غولن في مجالي التعليم والإعلام، فهو أنشأ الكثير من المدارس وأصدر الجرائد والمجلات وإنشاء المطابع، بالإضافة إلى محطة إذاعة وقناة تلفزيونية. وبعد انهيار الاتحاد ‏السوفياتي انتشرت هذه المدارس في دول آسيا الوسطى. ولا يقتصر نشاط الحركة على ذلك، بل يمتد إلى إقامة مراكز ثقافية خاصة بها في عدد كبير من دول العالم، وإقامة مؤتمرات سنوية في بريطانيا والاتحاد الأوروبي وأميركا، بالتعاون مع كبريات الجامعات العالمية من أجل دراسة الحركة وتأثيرها وجذورها الثقافية والاجتماعية.
ويقول أكتاي إن غولن يميل إلى التصوف في عبادته أكثر من اللزوم، مشيرا إلى أن زهده وتصوفه جعله يترك حياة الدنيا ووهب نفسه للعبادة والتصوف ولم يتزوج قط، بمعني آخر أوقف نفسه بكل معنى الكلمة للدين والعبادة، موضحا أنه يقتدي في ذلك بملهمه بديع الزمان سعيد النورسي لأنه هو أيضا وهب حياته للدين والعلم ولم يتزوج».
ويرى أكتاي أن هذه «خطوة تتناقض مع سنة النبي محمد الذي أوصى بالزواج والتكاثر ليتباهى بنا يوم القيامة أمام ربنا». وغولن لا يطلب من أتباعه عدم الزواج ولكنه يطلب من الذين يردون أن يهبوا أنفسهم للدعوة أن يحذوا حذوه على هذا الصعيد». ويشير أكتاي إلى أن عدم زواج النورسي «كانت له أسبابه الخاصة»، مشيرا إلى أنه خرج بعد سعيد النورسي الكثير من أتباع الطريقة النورية الذين التزموا عدم الزواج، وكان من بينهم فتح الله غولن.
ويقول أكتاي: «لو نظرنا إلى فتح الله غولن سنرى بأنه يعتنق إسلاما خاصا على الطريقة التركية يكون أقرب إلى الإسلام القومي أكثر منه إلى إسلام الأمة، مثله مثل سعيد النورسي الذي اختار نهجا في الإسلامي يختلف عن الإسلام العربي وإسلام أهل السنة. وهنا تظهر نقاط الاختلاف بينه وبين رجب طيب إردوغان الذي ينتمي فكرا وتطبيقا إلى مذهب أهل السنة وينظر إلى الإسلام من منظور الأمة جميعا بخلاف جماعة غولن التي تعتبر نفسها هي الممثلة للإسلام في تركيا وتلغي جميع الجماعات الأخرى، وهذا يمنعهم من تطوير أي فكر يشمل الأمة جميعا، ولهذا نرى بأنهم غير ممتنين لتقارب تركيا مع العالم العربي، كما أنهم أعلنوا جهارا عن امتعاضهم من تضامن تركيا مع حقوق الشعوب العربية وعلى رأسها الشعب الفلسطيني، وأعلنوا عن رفضهم لإرسال تركيا سفينة مرمرة إلى غزة وانتقدوا سياسة حيال إسرائيل وأعلنوا أنه ليس من صالح تركيا أن تخوض صراعا مع إسرائيل، معتبرا أن مصالح الجماعة مرتبطة مباشرة مع إسرائيل ويعتبرون أنفسهم أقرب إلى إسرائيل من العرب، والسبب في أخذ الجماعة مثل هذه المواقف يأتي بتعليمات من فتح الله غولن نفسه، الذي يحثهم على عدم المساس بالمصالح الإسرائيلية أو الابتعاد عن انتقادها والدخول معها في صراع».
وفي المقابل يقول يشيل إن اتهام جماعة غولن بالابتعاد عن السنة النبوية يصدر عن من «لم يقرأ كتب وفكر غولن». ويقول: «لو نظرنا إلى الفكر وأسلوب حياته لوجدنا أنها تتوافق تماما مع السنة النبوية التي كانت تطبق أيام السلف الصالح، وهو يتابع ويحاول بكل السبل أن يطبق أسلوب حياة الحبيب المصطفى (عليه الصلاة والسلام)».
ويرد أكتاي السبب الحقيقي لخلاف غولن مع الحكومة إلى أن «الجماعة تريد أن تكون هي المتحكمة الأساسية، وبأن تكون السلطة الفعلية في البلاد، ولهذا تريد أن تقيم أو تنشئ دولة موازية (خفية) في تركيا على أنقاض الدولة الخفية القديمة التي جفف منابعها إردوغان، ولهذا كانوا يرغبون في الإطاحة بـ(رئيس الاستخبارات التركية) هاكان فيدان لتعيين رجل مقرب من الجماعة، لافتا إلى تقاطع بين الجماعة وإسرائيل التي كانت من أكثر الدول التي تنتقد فيدان... وهذا دليل آخر على نوع العلاقة بين الطرفين». وتوقع أكتاي أن يسحب إردوغان كل المرشحين المنتمين إلى الجماعة من لوائح الحزب، مشيرا إلى أن الاستقالات التي حصلت من الحزب قد ترتفع، لكنها لن تتجاوز 10 نواب.
* مشكلات المنطقة في فلسفة غولن: الجهل والافتراق والفقر
* يقول يشيل إن غولن يرى أن المشكلات التي تعاني منها منطقتنا تعود إلى ثلاثة أسباب: الأول منها هو الجهل، والثاني هو «الافتراق» وعدم الوحدة، والثالث هو الفقر، ولهذا نرى أنه في جميع مراحل حياته طور أساليبه حسب الظروف الموضوعية لمحاربة تلك المعضلات الثلاث. فكان يحاول تدريس التلاميذ على شكل حلقات في الأماكن التي يوجد بها ودعمهم ماديا لإكمال دراستهم الجامعية، ومن ثم فتح مدارس الدروس الخصوصية لتقوية من يرغب في الحصول على مساعدة للالتحاق بالكلية التي يطمح إلى الدراسة بها، وبهذه الطريقة حقق أول هدف وهو الحرب على الجهل، مشيرا إلى أن هذه الفعالية لم تنتهِ داخل الحدود التركية، بل تعدتها إلى أكثر من 160 دولة حول العالم، تحمل نفس التوجه والإيمان على أساس منطق دحر الجهل».
أما بالنسبة إلى الافتراق فقد قام بتقريب وجهات النظر بين الفرقاء المختلفين والمنتمين إلى قوميات وثقافات مختلفة، فالحضارات والثقافات التي لا يعرف بعضها بعضا تتصارع، فإذا جرى التعرف في ما بينهم فإن الصراع سينتهي فورا، ولهذا أقام منتدى الحوار الذي يوجد له فروع في أكثر من 100 دولة في العالم. أما بالنسبة للمعضلة الثالثة فقد عمل على محاربتها (الفقر) من جانبين، الأولى تأسيس جمعية «كيمسى يوكمو» لمساعدة المحتاجين في السلم والحرب والكوارث الطبيعية، والخطوة الثانية تجميع رجال الأعمال تحت راية واحدة لأن في الاتحاد قوة لاستثمار أموالهم بطريقة صحيحة سواء في داخل أو خارج البلاد، وكانت مؤسسة «توسكم» هي المظلة التي تجمع تحتها العشرات من المؤسسات ورجال الأعمال لإقامة مشاريع إنسانية خارج الحدود.
ولفتح الله غولن 60 كتابا، وقد حصل على الكثير من الجوائز على كتبه هذه، وأغلبها حول التصوف في الإسلام ومعنى التدين، والتحديات التي تواجه الإسلام اليوم. ألف في السيرة النبوية كتابا حديثا سماه «النور الخالد»، الدراسة العلمية للسيرة النبوية.

* علاقته مع العسكر: شهر عسل تلاه ندم
* يفضل البقاء في الولايات المتحدة خوفا من أن يؤذي وجوده أنصاره
* احتفظ غولن بعلاقة جيدة مع العسكر، خصوصا بعد انقلاب عام 1980، حيث ازدهرت حركته مع إعلان السلطات آنذاك إلغاء الحظر عن نشاطات الجمعيات الدينية، وإطلاق حرية الإعلام، وهو ما استفاد منه كثيرا غولن. لكن هذه العلاقة ما لبثت أن ساءت وصولا إلى حد تحرك القضاء ضده. ويقول رئيس معهد الفكر الاستراتيجي البروفسور ياسين أكتاي، الذي يعتبر واحدا من أبرز المنظرين لحزب العدالة والتنمية، إن «سبب انقلاب الجيش عليه هو أنه حاول إدخال رجاله إلى المؤسسة العسكرية باستخدام أساليب ملتوية اكتشفها العسكر بعد فترة، ولهذا كان يطرد من صفوف الضباط سنويا المئات نتيجة اتهامهم بالرجعية، واعتبر الجيش أنه وجماعته يشكلون خطرا على النظام العلماني في البلاد، مع أنه كان من الذين يدعمون الجيش بتصديه لنجم الدين أربكان، بل كان ينتقد سياسته في كل مناسبة، وطالب حكومة أربكان بالاستقالة لأنها تسير في الطريق الخطأ، ولهذا كان يعتبر ابن العسكر المدلل في البداية ولكن في النهاية فإن الطغمة العسكرية كانت ضد أي تيار ديني في البلاد». ويشير يشيل إلى أن غولن تعرض للاعتقال لمدة 9 أشهر في انقلاب 1960 وانقلاب 1971، كما أنه تعرض للملاحقة لمدة 6 سنوات بعد انقلاب عام 1980، ولكن رغم تلك الصعوبات والملاحقات إلا أنه لم يهمل إعطاء الدروس لمن يرغبون.
بدأت متاعب كولن مع السلطات التركية بدأت في 18 يونيو (حزيران) عام 1999 عندما تحدث في التلفزيون التركي، وقال كلاما اعتبره البعض انتقادا ضمنيا لمؤسسات الدولة التركية. وبعد ذلك بدأ المدعي العام للدولة تحقيقا في تصريحات غولن. وقد تدخل رئيس الوزراء التركي آنذاك بولند أجاويد ودعا الدولة إلى معالجة الأمر بهدوء. ودافع عن كولن وعن مؤسساته التعليمية قائلا إنها «تنشر الثقافة التركية حول العالم، وتعرف تركيا بالعالم. مدارسه تخضع لإشراف متواصل من السلطات». بعد ذلك اعتذر كولن علانية عن تصريحاته، إلا أن بعض العلمانيين ظلوا متشككين في أهدافه، ولاحقا وجهت إليه اتهامات بمحاولة تحقيق مكاسب سياسية على حساب مؤسسات الدولة بما في ذلك الجيش.
ثم أتت لقطة الفيديو الشهيرة التي بثت على «يوتيوب» وظهر فيها كولن وهو يقول لعدد من أنصاره إنه سيتحرك ببطء من أجل تغيير طبيعة النظام التركي من نظام علماني إلى نظام إسلامي، كما تحدث عن نشر الثقافة التركية في أوزبكستان، مما أثار موجة غضب في الجيش التركي وباقي المؤسسات العلمانية في البلاد. كما أدى إلى أزمة دبلوماسية بين تركيا وأوزبكستان دفعت بولند أجاويد إلى التدخل مجددا في محاولة لحلها. لكن أوزبكستان قررت إغلاق عدد من المدارس التابعة لكولن، بينما أصدرت هيئة التعليم العالي في تركيا قرارا يقضي بعدم الاعتراف بالشهادات العلمية التي تعطيها مدارس كولن، فانتقل كولن إلى الخارج من أجل «العلاج» ولا يزال منذ ذلك الحين مقيما في الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من أن المحاكمة انتهت في وقت لاحق إلى إعلان براءته، إلا أن غولن فضل البقاء في الولايات المتحدة حيث إنه «يدير أعمال وعلاقاته من الولايات المتحدة أفضل وبشكل آمن من تركيا»، كما يقول أكتاي. ويشير إلى أن إردوغان دعاه للعودة إلى البلاد لأنه لا يوجد أي مانع من ذلك، ولكن السبب الحقيقي من وراء عدم العودة أنه لا يريد أن يزج بنفسه في الصراعات السياسية ويحبذ أن يوجه السياسة من بعد، فلو كان اليوم هنا فإنه كان سيكون في قلب الحدث، كما أنه لا يستطيع ترك مؤسساته ومدارسه ولوبياته التي تعمل في الولايات المتحدة».
لكن يشيل يقول إن الجميع يعرف بأنه ذهب للعلاج إلى أميركا، وبعد تعافيه نظر إلى الوضع الذي كانت تعيشه تركيا آنذاك حيث كانت في حالة من عدم الاستقرار، ففضل أن لا يعود لأنه إذا عاد فإن الجماعة ستصاب بأذى نتيجة عودته وسيتضرر العشرات بل المئات من مناصريه». كما أن تركيا كانت تعيش مرحلة العودة أو الانطباق مع الديمقراطية وكان مخاضها صعبا، مشيرا إلى أنه عندما سئل غولن عن سبب عدم عودته مع وصول العدالة والتنمية إلى الحكم قال إن تركيا ما زالت تعيش مرحلة انتقالية غير مستقرة، وإن عودتي في مثل هذه الأيام أيضا ستلحق الضرر بالدعوة وبالمناصرين سواء ماديا أو معنويا»، مضيفا: «إذا كان وجودي في تركيا سيتسبب في استغلال البعض واستفزازهم فإنني أفضل أن أعيش في الغربة على أن أكون سببا لهذا»، معتبرا أن ما تعيشه تركيا الآن «من مرحلة لتطهير البلاد من الفساد لهو دليل قاطع لصحة نظرته ورؤيته». ويقول: «القوانين التي تصدر في دقائق والتعيينات وإقالة العشرات من مديري الأمن وسحب الملفات من الادعاء لهي أكبر دليل على أن تركيا ما زالت في مرحلة انتقالية ولم تنتقل إلى مرحلة الديمقراطية بعد».



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».