قضايا حظر النشر... حماية خصوصيات أم عرقلة لحرية المعلومات؟

أضعفتها فوضى الإنترنت

طالبت صحيفة «التلغراف» السير غرين بإسقاط الحظر القضائي  بعد أن أصبحت قضية التحرش المتهم بها شائعة إعلامياً
طالبت صحيفة «التلغراف» السير غرين بإسقاط الحظر القضائي بعد أن أصبحت قضية التحرش المتهم بها شائعة إعلامياً
TT

قضايا حظر النشر... حماية خصوصيات أم عرقلة لحرية المعلومات؟

طالبت صحيفة «التلغراف» السير غرين بإسقاط الحظر القضائي  بعد أن أصبحت قضية التحرش المتهم بها شائعة إعلامياً
طالبت صحيفة «التلغراف» السير غرين بإسقاط الحظر القضائي بعد أن أصبحت قضية التحرش المتهم بها شائعة إعلامياً

أثيرت في الأوساط الإعلامية البريطانية، أخيراً، قضية رجل أعمال مشهور يحمل لقب «سير» رفع دعوى قضائية ضد صحيفة «التلغراف» يمنعها من نشر اسمه في قضية تحرش وعنصرية ببعض العاملين والعاملات في شركاته. والتزمت الصحيفة بأمر المحكمة الذي يسمى في القانون الإنجليزيInjunction» »، لكن القضية اتخذت منحى معاكساً بالمرة عندما صرّح اللورد هين، عضو مجلس اللوردات البريطاني، باسم رجل الأعمال سير فيليب غرين وبأنه هو المقصود بقرار المنع القضائي في حالة صحيفة «التلغراف»، مستخدماً في ذلك امتيازات برلمانية تحميه من المحاسبة القضائية.
وبدلاً من السرية التي كان يريدها، غرين تحولت القضية إلى أمر شائع نشرته كل الصحف البريطانية، واضطر غرين إلى إصدار بيان ينفي فيه التهم المنسوبة إليه. وطالبت صحيفة «التلغراف» غرين بإسقاط الحظر القضائي بعد أن أصبحت القضية شائعة إعلامياً.
يفتح ملف هذه القضية ظاهرة منع النشر التي ظلت سائدة منذ عقود لحماية المشاهير والنبلاء، وحتى العائلة المالكة من نشر خصوصيات تتراوح بين تصرفات غير لائقة وفضائح على أساس أنها معلومات شخصية ذات خصوصية لا تهم الرأي العام.
وهناك سابقة من لاعب كرة مشهور اسمه براين غيغز استصدر أمراً قضائياً لمنع صحيفة بريطانية من نشر مذكرات عشيقة قررت أن تبيع قصتها معه إلى الصحافة. ولم يكتفِ اللاعب بمنع الصحيفة من نشر الفضيحة، بل منعها أيضاً من نشر وجود أمر قضائي يمنعها من النشر، وهو ما أطلق عليه قانوناً لفظ «Super Injunction». ومع ذلك تكفلت تغريدات «تويتر» بالكشف عن هوية اللاعب، وتبع ذلك إعلان النائب البرلماني جون هيمينغز، من حزب الأحرار الديمقراطيين، اسم اللاعب تحت قبة البرلمان؛ وبذلك انعدمت قيمة المنع القضائي الذي حصل عليه اللاعب.
وجاءت الاتهامات ضد سير فيليب غرين ضمن حملة غربية اسمها »#MeToo» من نساء تعرضن للتحرش من رجال في مراكز قوة بدأت من هوليوود بإفصاح الكثير من الممثلات عن حالات تحرش واعتداء جنسي من المنتج هارفي واينستين، وانتقلت بعدها إلى أوساط ودول أخرى تشجعت فيها النساء على إعلان حالات التحرش التي إصابتهن في مجالات أعمالهن.

حماية الخصوصيات
يأتي دور القضاء في حالات منع النشر «لحجب معلومات تعتبر شخصية وخصوصية»، وهي في الغالب تخص أشخاصاً لا يرغبون في نشر معلومات تؤثر على سمعتهم، وتكون في الغالب صحيحة وعليها شهود أحياء. لكن هذا الحجب يكون أحياناً لفترات محددة كما يمكن أيضاً الاستئناف من أجل إلغاء الحظر. وهي في الواقع حالات نادرة نسبياً، وفي الغالب لا تدوم طويلاً في العصر الحديث، حيث تتكفل بالكشف عنها وسائط التواصل الاجتماعي بعيداً عن المحاذير القضائية المفروضة على الإعلام.
ومع ذلك، تعترض الصحف على أسلوب فرض القضاء لأوامر منع النشر في كشف حالات وقضايا حقيقية عليها شهود وتلتزم بالقواعد الصحافية في التحقق من المعلومات قبل نشرها.
وما يؤكد ذلك، أن أعضاء البرلمان ومجلس اللوردات البريطاني يضطرون أحياناً إلى استخدام الامتياز البرلماني الذي يعفيهم من المساءلة للكشف عن الأشخاص الذين يسعون إلى منع أسمائهم قضائياً من الظهور الإعلامي.
ويلجأ المشاهير إلى منع النشر القضائي لحماية السمعة، أو للحفاظ على تعاقدات رعاية إعلانية مثل حالة تايغر وودز، لاعب الغولف العالمي، الذي فقد تعاقدات إعلانية بملايين الدولارات بعد كشف خيانته الزوجية إعلامياً. وتشمل قائمة الأشخاص الذين سعوا لحجب النشر سياسيين وفنانين ورياضيين وشخصيات عامة.

قضايا الفساد
الخطير في مسألة المنع القضائي، أنها لا تقتصر على قضايا التحرش أو الفضائح، بل تشمل أيضاً قضايا فساد وقضايا جنائية. ومن أبرز القضايا السابقة التي حصلت على منع نشر قضائي، شركة نفط هولندية لوّثت شاطئ ساحل العاج بنفايات وحاولت التهرب من المسؤولية عبر منع النشر. لكن القضية انكشفت بعد حين واضطرت الشركة إلى دفع تعويض إلى حكومة ساحل العاج قيمته مائة مليون إسترليني من أجل تنظيف الشواطئ، بالإضافة إلى 30 مليون إسترليني لمواطنين تأثروا بالتلوث بلغ عددهم 30 ألف مواطن في ساحل العاج. وبعد ذلك، فرضت محكمة هولندية غرامة على الشركة قيمتها مليون يورو.
وعلى رغم صدور أمر قضائي «سوبر» بعدم النشر وعدم ذكر قرار منع النشر، فإن عضواً برلمانياً بريطانياً كشف القضية في عام 2009. وبعد هذه القضية هاجم الإعلام البريطاني القضاء لمحاولة الحفاظ على سرية هذه الفضيحة بمنع النشر.
وما زالت الصحافة البريطانية تهاجم قرارات المنع من النشر؛ لأنها تقتصر على بريطانيا.
وتذكر الصحافة أمثلة كثيرة لمنع صور ملكية بريطانية من النشر في التسعينات من القرن الماضي، والتزمت جميع الصحف البريطانية عدم النشر، لكن الصور طبعت ونشرت في مجلات أوروبية. وتتهم الصحف قرارات المحاكم بمنع النشر بأنها تمنح صكوكاً للغشاشين في كل الأحوال بدلاً من موازنة الصالح العام مقابل حق الخصوصية.

خطوط رمادية

وليست هناك خطوط واضحة بعد بين حرية المعلومات وحقوق الخصوصية. من ناحية، توجد قوانين الصحافة المتعارف عليها من منع السب والقدح والتشهير وضرورة نشر وجهة نظر جميع الأطراف في أي قضية ونشر الدلائل ومصادر المعلومات. من ناحية أخرى، هناك مخاوف من الشخصيات العامة من ورود أسمائهم في تحقيقات أو قضايا مغرضة ليس لهم علاقة بها، لكنها تضر بسمعتهم.
وقد حصل المغني البريطاني كليف ريتشارد على تعويض من هيئة الإذاعة البريطانية على قيامها ببث تصوير بطائرة هليكوبتر لهجوم الشرطة على منزله الشاغر بينما هو في عطلة أوروبية؛ بدعوى البحث عن دلائل لاتهامه بجرائم جنسية. وعلى رغم البراءة التامة من هذه الادعاءات، فإن القضية كان لها تأثير عميق على ريتشارد الذي بكى أثناء الدفاع عن نفسه. وهي قضية تعلل أهمية عدم النشر قبل التحقق من الوقائع رسمياً.

الفوضى الإلكترونية

من ناحية أخرى، يتساءل إعلاميون عن أهمية حظر النشر في عصر الإنترنت، حيث لا تلتزم مواقع الأخبار والتدوينات والتغريدات والتعليقات الشخصية من متابعي الشبكة غير المحترفين صحافياً بالقواعد والقيود التي يلتزم بها المحترفون صحافياً.
هذه المعلومات الإلكترونية لا توجد عليها قيود إعلامية ولا حدود جغرافية، ويمكنها أن تنتشر على نطاق عالمي في غضون ساعات قليلة بالمشاركات والاطلاع. فهل أصبحت قرارات منع النشر عديمة الفاعلية في عصر الإنترنت؟
مكتب المحاماة «مانليز» المتخصص في قضايا الخصوصية يختلف في الرأي، ويقول مارك مانلي: إن عمليات اختراق الخصوصية بوسائل متعددة زادت في السنوات الأخيرة عن طريق مراقبة الهواتف وبيع قصص الخيانة الزوجية والابتزاز، وهي قضايا تحتاج إلى ضبط قانوني تقدمه المحاكم لضحايا هذه الحالات. ويضيف أن المكتب نجح في التصدي لوسائل إعلام استخدمت هذه الوسائل من أجل نشر فضائح بغض النظر عن تأثيرات كارثية على ضحاياها وأعمالهم.
وتعمل مكاتب المحاماة في هذه القضايا على مدار الساعة، وتجتهد لمنع مقالات كاذبة أو مغرضة في غضون ساعة من إعلان أي صحيفة نية نشرها. ويضيف مانلي، أن مكتبه حصل على منع نشر مقال ضد لاعب كرة في الوقت الذي كان فيه اللاعب يكمل مباراة على أرض الملعب في الدوري الإنجليزي.

الحظر عربياً
على الصعيد العربي، تكون قرارات منع النشر عادة من المدعي العام بنسبة أكبر من المحاكم، وتصدر في معظم الأحوال في قضايا سياسية أو حساسة أو تشغل الرأي العام. وتكون هذه القرارات موجهة لمنع التكهنات أو إصدار أحكام مسبقة من صحافة تتلهف على نشر خبطات صحافية لزيادة توزيعها أو عدد مستمعيها أو مشاهديها.
وكانت آخر قرارات منع النشر عربياً صادرة من الأردن في فاجعة البحر الميت، التي أصدر المدعي العام فيها قراراً بمنع نشر أي معلومات أو تعليقات على مسار التحقيق في القضية.
وفي مصر، أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في شهر يوليو (تموز) الماضي قراراً بعدم النشر في قضية حول مستشفى لعلاج سرطان الأطفال. وظل الرأي العام المصري مشغولاً بهذه القضية قبل حظر النشر فيها لشبهات فساد في عملية جمع التبرعات والتصرف فيها.
وبعد أن أصدر المجلس هذا القرار أحال النائب العام رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام مكرم محمد أحمد إلى التحقيق؛ لأنه اعتبر القرار غير قانوني ويتعدى على اختصاصات النيابة العامة والنائب العام.
وصدرت قبل هذه القضايا قرارات منع نشر كثيرة، ربما كان أشهرها إصدار المدعي العام العسكري في مصر قراراً بمنع النشر في قضية مقيدة ضد الفريق سامي عنان لإعلانه الترشح لرئاسة الجمهورية من دون الحصول على موافقة القوات المسلحة، أو اتخاذ ما يلزم من إجراءات لإنهاء استدعائها له.
وقد أصدر المركز المصري لدراسات السياسات العامة دراسة حول قرارات حظر النشر في مصر، جاء فيها: إن عدد قضايا النشر التي يصدر فيها قرارات حظر يبلغ 12 سنوياً، بواقع قضية كل شهر تقريباً. وكانت أحدث قضية رصدتها الدراسة تخص حرق مخزن يحتوي على أحراز خاصة بنيابة الهرم. وصدر أمر النيابة العامة بحظر النشر والاكتفاء ببيانات النيابة الصادرة بخصوص القضية.


مقالات ذات صلة

السعودية: تطوير حوكمة الإعلام بدليل شامل للمهن

إعلام الدليل يحدد متطلبات ومسؤوليات ومهام جميع المهن الإعلامية (واس)

السعودية: تطوير حوكمة الإعلام بدليل شامل للمهن

أطلقت «هيئة تنظيم الإعلام» السعودية «دليل المهن الإعلامية» الذي تهدف من خلاله إلى تطوير حوكمة القطاع، والارتقاء به لمستويات جديدة من الجودة والمهنية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق مبنى التلفزيون المصري «ماسبيرو» (تصوير: عبد الفتاح فرج)

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

أثار إعلان «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي تساؤلات بشأن دوافع هذا القرار.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
شمال افريقيا الكاتب أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام (موقع الهيئة)

مصر: «الوطنية للإعلام» تحظر استضافة «العرّافين»

بعد تكرار ظهور بعض «العرّافين» على شاشات مصرية خلال الآونة الأخيرة، حظرت «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر استضافتهم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» أثارت جدلاً (تصوير: عبد الفتاح فرج)

​مصر: ضوابط جديدة للبرامج الدينية تثير جدلاً

أثارت قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» بمصر المتعلقة بالبرامج الدينية جدلاً في الأوساط الإعلامية

محمد الكفراوي (القاهرة )
الولايات المتحدة​ ديبورا والدة تايس وبجانبها صورة لابنها الصحافي المختفي في سوريا منذ عام 2012 (رويترز)

فقد أثره في سوريا عام 2012... تقارير تفيد بأن الصحافي أوستن تايس «على قيد الحياة»

قالت منظمة «هوستيدج إيد وورلدوايد» الأميركية غير الحكومية إنها على ثقة بأن الصحافي أوستن تايس الذي فقد أثره في سوريا العام 2012 ما زال على قيد الحياة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.