من الإذعان إلى التمرّد

«الشرق الأوسط» تنشر مقتطفاً من ترجمة تصدر قريباً لكتاب «العصيان» لفريديريك غرو

فريديريك غرو
فريديريك غرو
TT

من الإذعان إلى التمرّد

فريديريك غرو
فريديريك غرو

تصدر عن «دار الساقي» قريباً ترجمة كتاب جديد لأستاذ الفكر السياسي المعروف فريديريك غرو بعنوان «العصيان»، أنجزها جمال شحيد. وفي هذا الكتاب، يدعو غرو إلى الديمقراطية النقدية والمقاومة الأخلاقية عبر طرح أسئلة حول جذور الطاعة السياسية: هل هي امتثال اجتماعي أم إذعان اقتصادي أم احترام للسلطات؟
إن الفكر الفلسفي الذي يدفعنا إلى رفض الاستسلام للبديهيات يحثّنا أيضاً على إيجاد معنى للمسؤولية السياسية. وفي الوقت الذي تأتي فيه قرارات الخبراء نتيجةً لإحصاءات جامدة، يصبح العصيان تأكيداً للإنسانية. فريديريك غرو أستاذ فكر سياسي بمعهد العلوم السياسية في باريس. له إصدارات عدّة وعُرف بنشره الأعمال الكاملة لميشال فوكو في سلسلة «La Pléiade». وقد خصّت دار النشر «الشرق الأوسط» بهذا المقطع من الكتاب: «في مجال التنميط الأخلاقي، لنبدأ بما سأسميه هنا (الإذعان). الإذعان هو البديهية الأولى والنموذج البدئي.
لماذا تُطيع؟ لأنني مُذعن: ويستحيل أن أتصرّف بطريقة مغايرة. هذه العلاقة واضحة وضوح الشمس. الذي يطيع على نحو مميَّز هو العبد.
وأقصد بالإذعان طاعة إكراهية خالصة: نطيع من يحمل في يديه السلاحَ والسوط، والقدرةَ على التحكّم بالوظيفة، بل بالحياة والموت. أي إننا نطيع ربَّ العمل ورئيس العمال والكابو و(المدير) الإداري و(الرئيس)... أن أذعن يعني أنني سجين تتحكم بي علاقة قوة تُخضِع وتُرضِخ وتستلب، بالمعنى الحصري للكلمة. عندما أذعن، أكون تابعاً للآخر تماماً، فيسيّرني ويقرّر عني ويُصدر أوامره الهادرة ويمنعني من النجاح ويكسر حقوي وإرادتي. ما أفعله عندئذ هو أن أنفّذ باستسلام ما طلبه مني هذا الآخر الخارج عني والمهيمن عليّ. لا تستطيع لا الإرادة الخاصة ولا الدافع الداخلي ولا العفوية الحية ولا الحركة الشخصية أن تتدخّل في حركاتي وسكناتي.
إنني مذعن.
هذا على الأرجح هو المعنى الأدقّ والأقسى للطاعة: هو علاقة (أن أكون مسيَّراً ومسيطّراً عليّ ومأموراً ومحكوماً... إلخ) ترغمني على التصرّف وفقاً لإرادة آخر، أي إنني عندما أتصرّف أبقى عديم الحيلة. هذه عبارة إشكالية في الإذعان: أي إنني أجمع عند شخص بمفرده بين الهمود والنشاط. راقبوهم كيف يتخبّطون: العامل أمام آلته الذي تُرهقه متابعة الوتائر المستحيلة، الموظف الصغير الذي يسعى حثيثاً في مكتبه لتطبيق التعليمات الزئبقية، المستخدَم الذي يرهق نفسه في (الانفعال). جميعهم منهكون ويستنفدون قواهم. ولكن هذه الحركة المحمومة ليست سوى الوجه الآخر لانفعال تام.
لماذا يطيع المذعنُ؟ لا يستطيع أن يفعل شيئاً آخر: إنه أقل قوة، وأقل اقتداراً. لماذا تطيع؟ لأنني لا أستطيع أن أعصي. ويعود سبب الطاعة عند المذعن إلى عبثية العنف الأعمى وعلاقات القوة.
أمامنا شخص ساءله الفكرُ السياسي منذ أرسطو على الأقل: وهو العبد. قال أرسطو في كتابه (السياسات) إن العبد يملكه شخص آخر، وهو (سلعة حيّة)، (ktêma empsukhon) و(منفّذ أوامر). وهذا يعني أنه لا يمتلك نفسه. فجسده وحركاته وحياته بالذات يمتلكها سيدُه. هو أداة وآلة في أيدٍ غريبة. وهو سلعة يجري تبادلها وتُباع، وهو مُقتنى يتصرّف به مالكه على هواه، ويسيّره ويستطيع استخدامه أو يسيء استعماله.
العبد هو الذي لا يملك نفسه، و(ينفّذ الأوامرَ دون مبادرة منه. العبد لا يبادر في شيء، ولا يشرع في شيء: حركات يديه وجسده ليست سوى صدى وإجابة وردّ فعل ونتيجة لقولٍ آمر ناهٍ صدر أولاً وهيمن. العبد لا يبدأ شيئاً: إنه يتبع وينفّذ أوامر شخص آخر).
ليس نص أرسطو سوى مناسبة، ولا أتكلّم على العبودية كوضع محدّد تاريخياً، وهو في النتيجة متغيّر ومتنوّع، كما تشهد بذلك كتب التاريخ. وأبني هنا فقط أنموذجاً يقول بتقليص العجز ويرى في العبودية تبعيةً ما: (استعباد شيء ما يعني أن هذا الشيء يخضع لسبب خارجي؛ على العكس، لا تعني الحرية أنها خاضعة لهذا الشيء بل متحررة منه). بهذا المعنى الواسع، أُجْمِلُ العبيدَ في العصور القديمة الذين كان يمكن تبادلهم كما تُتبادَل الجرار، وأتكلّم على الأقنان في العصر الوسيط الذين كانوا يحصلون على قوت يومي زهيد مقابل عمل لا ينتهي على أراضي الآخرين، وأعني بهم أيضاً عمّال المصانع الكبرى إبان القرن التاسع عشر الذين كانت رواتبهم بائسة، والناس المثقلين بالديون في أيامنا ممن يشترون حقّهم في العيش والسكن والغذاء وتعليم أولادهم - «فانخرطوا في الدوّامة» كما يقال - مقابل أتعابهم المزمنة وقلقهم البالغ، في حين أن هناك نخبة لا تخجل وتستطيع أن تكسب في أيام معدودة ما لا يستطيعون الحصول عليه في حياتهم كلها.
لماذا يطيع المذعِنُ؟ لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً آخر، ولأنه عاجز عن العصيان؛ ذلك أن العقاب المبرِّح يأتي مباشرة. وإذ إنه مهان ومسرَّح ومضروب ومستبعد ومتقهقر، فإن العصيان يكلّفه غالياً جداً... وينطوي على مجازفة كبرى. يطيع المرء لأن تكلفة العصيان مرهقة. في المحصلة، يكمن السبب الوحيد للطاعة في استحالة العصيان. يستند الإذعان إلى العنصر الاعتباطي لعلاقة متخلخلة في القوى، وإلى اللاعدالة في السلّم الهرمي. ينصاع العبد بصمت لأوامر سيده، ويزرع القن؛ إذ إنه يَبقُر أراضي سيده، ويَقبل العامل أن تُفرض عليه وتائر (عمل) مجنونة، ويُصغي المستخدم لانتقادات رئيسه الهازئة وهو يُصرّ بأسنانه. كيف يسعه أن يتصرف بأسلوب مغاير؟
في الآن نفسه، يستطيع الإذعان أن يَحمل كوجهه الآخر العتيد وعداً بالتمرّد أو بالفتنة. ينتظر المذعِن أن تحين ساعتها. يراقب مواقع الضعف عند سيده، وينتبه إلى الهشاشات وخطوط الانكسار، مستعداً للانقضاض وقلب المعطيات. إنني أكثّف هنا مفهوم (الإذعان). وإذا قلت عن ميزان القوى، هذا، إنه تاريخي وطارئ ومؤقت وقابل للانقلاب - أي إنه حالة حاصلة فحسب - عندئذ ينطوي الإذعان والطاعة الجامحة على اللاإذعان فيكون بمكانة انتقام. ما إن يتوصّل المذعنون إلى توحيد أنفسهم ليتآمروا على أسيادهم، وما إن يشعروا بقوّتهم الجماعية ويبنوها، حتى تبدأ الحرب. إن كلمة (rébellion) (الفتنة) المشتقة من (re–bellum) اللاتينية تعني أن الحرب عادت، وأن المهزوم سابقاً راح يرفع رأسه.
أو إن المذعِن عندما يرى عدد الثورات التي انقلبت على الثوار، وعدد الانتفاضات الخائبة، والصراعات التي تم احتواؤها، يقول في سرّه إن عجزه غير محدود، وإن اعتقاده الممكن بقلب الظروف سيكلّفه دماء غزيرة وويلات كبرى، فلا يبقى له خيار آخر سوى أن يستبدل الخيبات الأليمة ووجع الأحلام المنكسرة بحلاوة التسليم للقدر، أي بالإذعان المقبول في استدامته.
أو يقول لنفسه - لكنه يقول لها لأنهم علّموه أن يقول ذلك وأن يكرّره ويسمعه ويتلفّظ به (في المدرسة والعائلة) - إنّ تفاوت المستويات الاجتماعية هو في المحصلة أمر طبيعي وإنّ تفوّق الزعيم راسخ بسبب مواهبه الطبيعية (الذكاء والنزاهة)، أو يقول - في الشأن الخاص بالطاعة السياسية - يجب عليه أن يذعن للقوانين العامة، حتى إذا كانت لا تناسبه، لأن العصيان يعني الفوضى والمطالبةَ الأنانية بمصلحة خاصة. أو يلقي خطاباً مروّضاً جيداً ويدعو إلى تثبيط اللاإذعان، دون إعلان الهزيمة والتسليم بها: (ولكن أخيراً استيقِظوا، يا متمردي المساء الأول، خلخلوا وهْم نسف كل شيء وانفضوا الغبار عن أحلامكم؛ هذه السلطات الهرمية التي تعارضونها، لم تُبْنَ قط إلا من أجل هذا النظام الاجتماعي، النظام الذي تشكّكون فيه مع أنكم استفدتم منه منذ ولادتكم، وتقولون الآن (لا) لأن هذا القانون أو ذاك يتعارض معكم. ولكنكم في المحصلة قد أذعنتم أنتم أنفسُكم، وبحرية ومنذ الأبد، لتطيعوا القوانين بعامة! هذا المجتمع يعطيكم حقوقاً سياسية، فكوّنوا منابرَ بالأعداد التي تريدونها للإعراب عن معارضتكم، صوّتوا لممثلين من اتجاهات أخرى، ولكن أطيعوا بخاصة، احترموا قواعد اللعبة السياسية كما وُضعتْ من أجل الوئام العام والسلام العمومي وخير الجميع).
نرى في هذا الخطاب صورة أخرى من صور الطاعة: الإذعان للميثاق الجمهوري. وإزاءه - وحتى إزاء الطاعة الموقّرة (والاعتراف بالسلطة) - نرى أن مفهوم الإذعان، بقسوته وحدّته، قد لعب دوراً في إزالة الأوهام السياسية. ما استنكره متجاوزو الأوهام السياسية الكبار (ابتداء من ثراسيماكوس عند أفلاطون وماركس، مروراً بمكيافيلي) هو إرادة إخفاء علاقة الإذعان، هذه، إخفاءً منهجياً.
في ودنا أن ندفع الناس إلى الاعتقاد بأن الطاعة السياسية هي قبول حرّ طوعي، أو أنها تستند إلى امتنان صامت ومُشِيد. إن الخطاب الصغير القائل بالتخلي عن الأوهام السياسية يتعارض مع تكذيبه: (أرجوكم أنتم منظّري الانتماء السياسي، توقفوا، وكفّوا عن التأكيد - من محراب مكتباتكم الهادئة والوثيرة - أن طاعتنا السياسية هي طاعة عقلانية وشرعية، وأن رؤساءنا يحكموننا لخيرنا، وأننا عندما نثور على تلك القوانين التي لم تسنّ إلا لمصحة نخبة معينة، نخطئ من الناحية الفلسفية في العصيان. هذه الحجج واهية، في حين أنه لا يوجد واقع آخر سوى واقع الظلم المفروض بالوسائل العنفية، وأننا لا نطيع إلا لأن تكلفة العصيان باهظة فعلاً: دماء مسفوكة، إذلال فوري، هزيمة معلنة). نعم إن الإذعان بهذا المعنى موجِّهٌ يدل على تجاوز الأوهام السياسية، لأن المسألة هي أن تُظهر رشيم واقع الظلم والعنف خلف مباني الدخان. العصيان يعني معاودة الحرب، هذه الحرب الصماء التي لم تتوقف قط والتي تستمرّ تحت غلالة السلم الأهلي.
يكمن الالتباس الجسيم في أن مفهوم الإذعان، هذا، مع أنه موجِّه يدل على تجاوز الأوهام السياسية - ويفسد مقولة المواطنة المطيعة أو الاعتراف المرن - يشكّل موجِّهاً يدلّ على تجاوز الأوهام الأخلاقية.
نستطيع استعادة عبارات أرسطو: (العبد هو «ملكية مكتسبة» و«وسيلة» (organon) و«منفّذ أوامر»)، (1254a - 1253b). ويجب أن نفهم من ذلك أن جسمه ينصاع لإرادة شخص آخر، ولكن روحه لا تشارك إطلاقا في مضمون ما ينفّذه. السبب الوحيد الذي يدفع بالعبد إلى الطاعة هو أنه أُعطي أمراً. وهذا يقتضي قطيعة وانفصالاً: أعمل ما أمرني شخص آخر بفعله. وهنا تنفتح إمكانية الاستغلال الأخلاقي لمشاركة الروح والجسد. يستطيع الإذعان الذي يستغلّ هذا الانقطاع أن يتّخذ شكلين على الأقل.
الشكل الأول هو «إذعان المسايرة». وهذا يعني ما يلي: عندما يُكثر المذعن العلامات الخارجية للاستعباد، وعندما يبالغ في انحناءاته وطأطأة رأسه، وعندما يكثّف تصنّع التصاغر، فإنه يحافظ في قرارة نفسه على حكم نقدي صارم. المذعن يصغي بجدية كبرى واحترام عميق إلى لائحة الأوامر، ويحسب في سره كيف يتخلّص من واجباته ويعوّض مسبقاً وبصورة مأتمية لزجة ودبقة عن خموله العتيد وازدرائه العميق. هذا هو إذعان المسايرة، وهو الاستغلال الأخلاقي الأول للانفصال بين الروح والجسد: هناك مسرحة لعلامات الاستعباد بغية إخفاء العصيانات المادية والحرباوية والعينية، وهناك بخاصة إخفاء للازدراء النهائي. كلا، لم يستبطن المذعن استعباده، وإنما تحمّله وأوهم رئيسه فقط أنه يعترف بتفوقه الذي سيُثلج صدرَه. إن هذه اللعبة كلها وهذه المراوغة الاجتماعية - وهي ما سماه جيمس سكوت (الخطاب الخفي) - وإن هذا الإبراز الصاخب لصور الاستعباد التي من شأنها أن تحجب صور التحرر الملموسة، يصعب عملياً تقدير وظيفتها: هل سيكون إعداداً لصراعات مقبلة؟ - السبب في ذلك أن الاحتقار الاجتماعي يخزّن بعيداً عن استبطان الدونية، وأن روح الانتقام تعتمل في الذات - وهل هو صمّام أمان وتنفيس رمزي يتيح استدامة التباينات، ما دام لم يُقْدِم أي انتقام متخيّل قط على كسر شوكة الهرمية السلطوية؟ يبقى أن الأدب، من موليير إلى بالزاك، يعجّ بأولئك الخدّام الذين يسخرون من أسيادهم عندما يديرون ظهورهم، وبتلك المخلوقات الخانعة التي تغذّي غرور الأسياد لتطيع أقل فأقل. ولكنْ هناك استغلال أخلاقي آخر للتشارك بين الروح والجسد يشكّل المنحدر السياسي الأشد خطورة. لننظر مرة أخرى في ترسيمة الطاعة: المذعِن يطيع طاعة عمياء، فلا يعلم شيئاً عن غاية ما أُمِرَ به ولا عن مآله وهدفه ومعناه، ربما لا يريد أن يعلم شيئاً عنه. ينفّذ ويعمل لحساب ومصلحة شخص آخر دون مقاصد خاصة، ويترك الإرادة والقرار يقعان تحت مسؤولية شخص آخر. هو المنفّذ وليس صاحب القرار. لا بدّ من فصل الأمور عن بعضها بعضاً: أتصرف على هذا النحو، أنفّذ هذا الشيء، ولكن الفاعل ليس أنا حقاً، لست إلا المنفّذ والساعد الآلي والدماغ المستبصر والحركة الآلية، ولكن القرار والحكم لا ينبعان مني في أي حال من الأحوال. لماذا فعلتَ هذا؟ تلقيتُ الأوامر. وهذا يعني: لم آخذ زمام المبادرة، وأكاد أفتقر إلى اختيار الوسائل. لستُ فاعل ما أفعل. أنا منفّذ فقط. ولست مسؤولاً في المحصلة.
هنا يُفهَم دور المخاتلة الأخلاقية في وقت لم أعد أخضع فيه فعلاً للإذعان، بل إنني أستغله لأجعل منه رافعة تسويغ بالنسبة إلي وإلى الآخرين وضميري والعالم والتاريخ والأجيال المقبلة.
هل يذعن الإنسان دائماً إلى هذه الدرجة؟ ألا نبالغ في كلفة العصيان كي نتخلّى عن المسؤولية بخاصة وكي نعلن ذلك لذاتنا وللآخرين؟ (إنني أساهم بلا شك في هذه المنظومة الجائرة، عندما أحرّكها على مستواي الوضيع، كمستخدَم صغير وكادر صغير وسكرتير صغير ومسيِّر صغير وشريك صغير، أي إنني (صغير) دائماً وأكاد أعتزّ بذلك (لو لمرة واحدة). ولكن الأمور تجري على هذا النحو، فلا تجادلوني؛ ما رأيكم في هامش مناورتي وأداء عملي؟ إما أن أتصرف هكذا وإما أن أسرَّح، إما الطاعة وإما الفصل، إما الانقياد وإما الصرف. كيف يسعكم أن تتصوروا أنني قادر على المشاركة في تجفيف البشرية والموافقة على ما أعمل وعلى تنمية اليأس الاجتماعي وعلى الحط المتزايد من الطبيعة المختنقة ومن تدمير الحيوات؟ ولكنني لست إلا عبدا لنظام أستنكره دون أن تتوفر لدي وسائل محاربته. يداي تتحركان، وذكائي ينشط، وجسمي يتنقّل، ودماغي يحسب حساباته. ولكن لست الذي يتكلم، ولست الذي يتحرك، ولست الذي يفكّر: ثمة شخص آخر يبثّ الحركة في أعضائي).
هذا مريح جداً في المحصلة، مريح لأنني تخلصتُ تماماً من مسؤولياتي. ترتاح نفسي عندما أقول إنني لم أستطع أن أفعل شيئاً، أو بالأحرى عندما أقول إن ما فعلتُه لست أنا الذي فعلته حقاً.
(لستُ مسؤولاً؛ أطعتُ الأوامر)».


مقالات ذات صلة

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!