غزة: الطريق إلى اللامكان

تاريخ من المواجهة واتفاقات التهدئة ومخاوف الحرب المدمرة لا تروّع أحداً

غزة: الطريق إلى اللامكان
TT

غزة: الطريق إلى اللامكان

غزة: الطريق إلى اللامكان

لا تعرف إسرائيل ماذا ستفعل مع حماس في قطاع غزة غداً. فالحركة التي تحكم سيطرتها على القطاع من 2007 ليست دولة يمكن هزيمتها في حرب كلاسيكية. إذ لا مقرات لرئيس ولا وزارة للدفاع... لا مطارات، لا ثكنات للجيش. ثم إنه ليس لها عملة يمكن أن تهوي في أي حرب. إنها مثل شبح يوجد في كل مكان،... في كل شخص في كل بيت وشارع وزقاق وتحت الأرض، ولا تبدو هزيمتها أو التخلص منها فكرة ممكنة.
هذه المعضلة هي التي جعلت واحداً من أقوى الجيوش في الشرق الأوسط، بعد عدة حروب كبيرة ومواجهات أصغر، وكرٍّ وفرّ وكمّ كبير من الاغتيالات، محتاراً في كيفية هزيمة فصيل مسلح بدأ بمجموعات عسكرية صغيرة، وظل ينمو حتى بنى قوات شبه منظمة وليست نظامية.
تريد إسرائيل كبح جماح حماس، إلا أنها في المقابل، تريد «لحكمها» أن يبقى في غزة، وذلك لأنه يعني استمرار الانقسام. لكن إسرائيل أيضا تعاني من أن بقاء حماس هناك يعني تطوراً مستمراً للقدرات العسكرية.
إنها معضلة. لكن قبل حماس وبعد حماس، كانت غزة وستبقى عقدة مستعصية على الحل.

بعد 13 سنة من انسحاب إسرائيل أحاديا من قطاع غزة، ما زال القطاع الصغير والمحاصر عقدة تستعصي على الحل. لقد جربت إسرائيل كل شيء في غزة. أبقتها قديماً مع الحكم المصري، ثم احتلتها، ثم سلمتها إلى السلطة الفلسطينية، ثم انسحبت، ثم شنت عدة حروب طاحنة ومدمرة. كل هذا من دون أن يتضح أن إسرائيل نجحت مرة واحدة في التخلص من صداع القطاع الصغير والمكتظ بالسكان.
على مدار سنوات طويلة من جولات المواجهة في القطاع، ظلت غزة التي يحلو للإعلام الإسرائيلي تسميتها بـ«طنجرة الضغط» تغلي على نار هادئة، فلا هي انطفأت ولا هي انفجرت، بل ظلت مثل قنبلة تحتمل الانفجار.
تعود مشكلة إسرائيل مع غزة حتى ما قبل احتلالها عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري. إذ تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948. ثم شن أول هجوم إسرائيلي عليها في 14 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1948، أي بعد ثلاثة أيام من إعلان الاستقلال في إسرائيل. وعاد بعد 7 سنوات، أثناء حملة سيناء، لاحتلال القطاع الذي لم يدم طويلا، قبل أن يعود وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان لاحتلال القطاع عام 1967.
في العام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا «ساحة حرب» صغيرة مزعجة للدولة النووية إلى الحد الذي تمنى معه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين لو تغرق غزة في البحر.

- في أيدي عرفات
هربت إسرائيل من غزة عام 1993. وسلمتها للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وحتى العام 2005 شنت إسرائيل 4 حروب، حتى قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون في 2005، الانسحاب من غزة ضمن خطة عُرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب»، وبموجبها أخلت إسرائيل 21 مستوطنة في القطاع، ومعها معسكرات الجيش الإسرائيلي.
أجبر شارون 8.600 إسرائيلي على ترك المستوطنات متعهداً بأن خطته هذه «ستحقق أقصى مستوى من الأمن». لكن بعد ذلك، اضطرت إسرائيل لشن حروب كبيرة وصغيرة، ومواجهات لا تحصى، أثبتت آخر جولاتها - التي بقيت يومين فقط - أن الإسرائيليين لم ينعموا أبدا بالأمن، وإنما لفرط الرعب راحوا يتظاهرون ضد حكوماتهم لأنها تفشل في جلب حياة عادية لهم.
إنها مظاهرات جعلت السياسيين الإسرائيليين في انقسام، يتبادلون اتهامات قديمة حول الفشل في التعامل مع غزة. وبينما ما زال النقاش محتدماً داخل إسرائيل حول كيفية التعامل مع القطاع، يعيش سكانه البالغ عددهم 1.8 مليون مأساة متواصلة، بفعل حصار مستمر منذ 11 سنة، جعل «طنجرة الضغط» تغلي بتسارع كبير نحو مواجهة غير مسبوقة.

- هدوء أم حرب؟
لن يستطيع شخص واحد في حماس أو إسرائيل الإجابة عن هذا السؤال، غير أن الأكيد بالنسبة لهما أنهما سيكونان يوما ما أمام حرب ضروس.
لكن متى؟
ربما قربت المواجهة الأخيرة التي انتهت قبل أيام من هذه الحرب المنتظرة، إذا أرسل الطرفان ما يكفي من رسائل حول جاهزيتهما لهزيمة الآخر.
وخلال يومين فقط دمر الجيش الإسرائيلي، وفق الناطق باسمه يوناثان كورنيكوس، أكثر من 150 هدفاً عسكرياً، تشمل «أهدافاً استراتيجية مهمة... وذات قيمة بالنسبة لحماس ولها تأثير نفسي». وشملت الأهداف التي قصفتها إسرائيل مباني كبيرة، بينها مبنى قناة «الأقصى» التابعة لحماس، ومقر جهاز الأمن الداخلي، ومجمّع وزارات، بالإضافة إلى بناية قالت إسرائيل بأنها تابعة لاستخبارات الحركة.
قابل ذلك إطلاق الفصائل الفلسطينية نحو 400 صاروخ وقذيفة باتجاه مستوطنات وبلدات إسرائيلية قريبة من الحدود، مجبرة عشرات آلاف الإسرائيليين في الجنوب بالبقاء بالقرب من الملاجئ. وشكل هذا العدد بالنسبة للطرفين أكثر من ضعفي أي عدد لغارات وصواريخ شنت أو أطلقت خلال هذه الفترة (يومين) في أي حرب سابقة.
لقد استعرضت إسرائيل قدرتها على قصف مبانٍ مهمة، في حين استعرضت حماس قدرتها على إسقاط صواريخ على المستوطنات، وزادت على ذلك بفيديو يظهر قدرة مقاتليها على اصطياد حافلة إسرائيلية بصاروخ «كورنيت».
لم يتردد مراقبون في الطرفين بالقول إنها كانت بروفة المواجهة الصعبة. وقال يحيى السنوار، رئيس حركة حماس في قطاع غزة، بأن «الحركة وفصائل المقاومة لن تسمح للاحتلال بتكرار الاعتداء على قطاع غزة»، في إشارة إلى أن زمن الاعتداءات بلا مقابل انتهى. وهذا التهديد قابله وزير الإسكان الإسرائيلي يوآف غالانت بالتأكيد على «أن إسرائيل لن تسمح لحماس مجدداً بتحديد قواعد اللعبة»، في إشارة إلى أن إسرائيل لن تسمح لحماس بإطلاق صواريخ ثم العودة إلى تهدئة.
وهكذا، في حين يهدد الطرفان بحرب لا يريدانها، يظل السؤال القائم هو... إلى متى سيتجنبان ذلك؟
يقول أليكس فيشمان، المحلل العسكري في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، بأن «إسرائيل وحماس تجدان أنفسهما، في رحلة جوية خطيرة إلى اللامكان»، مضيفا «كلا الجانبين عالق في وضع يتعين عليهما فيه إعطاء تفسير لجمهورهما وإعادة بناء الردع». وهذا الردع، الذي سعت إليه كل من إسرائيل وحماس، وصفه بن كسبيت، المحلل السياسي في صحيفة «معاريف»، بأنه «فخ». وقال إن إسرائيل وحماس علقتا في «فخ ردع متبادل... ومن كثرة حالات أن الجميع في هذه القصة يردعون الجميع، لم يعد أحد يرتدع من أي شيء!».

- حيرة وفشل وخوف
على الأقل، يبدو أن التهديدات الإسرائيلية الكثيرة والحروب المتتالية وعدد الهدن التي عقدت في وقت قصير تشير إلى حيرة إسرائيلية كبيرة في التعامل مع القطاع، وربما إلى عجز. ويترجم ذلك ما قاله الكاتب والمؤرخ الإسرائيلي توم سيغيف، ذات مرة، بقوله إن «القصة بين إسرائيل وغزة طويلة ومستمرة منذ عام 1948. كانت وما زالت وستبقى علاقة عنف وضغط وإحباط ويأس واتفاقيات وفرص ضائعة». ويرى الكاتب أن سلسلة الحروب الطويلة التي شنتها إسرائيل على غزة في السنوات الأخيرة تثبت ما ذهب إليه بن غوريون نفسه عام 1948، بما معناه «لو غزونا غزة ألف مرة، فإنها لن تخضع».
وحقاً، ليس أكثر دلالة على هذا الواقع سوى أن جولة حرب من يومين كانت كفيلة بإسقاط وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان ووضع حكومة إسرائيل في مهب الريح.
في الحقيقة لم تكن جولة اليومين هي السبب بل المعضلة الأساس وهي كيف نتعامل مع غزة؟

- غزة التي أطاحت ليبرمان
بعد ساعات قليلة فقط على موافقة الحكومة الإسرائيلية على تهدئة أخرى في غزة، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان استقالته من الحكومة، قائلا إنه استقال بسبب «الاستسلام أمام الإرهاب». وأردف «نحن نشتري الهدوء على المدى القصير، لكن ثمنه الأمن القومي على المدى البعيد». وجاءت الاستقالة بعد يوم من دخول هدنة بين حماس وإسرائيل حيز التنفيذ إثر جولة قتال عنيفة تخللها إطلاق مئات الصواريخ على مستوطنات غلاف غزة وتنفيذ إسرائيل عشرات الغارات على أهداف في القطاع.
انسحاب حزب ليبرمان من الائتلاف الحاكم ترك القاعدة البرلمانية للحكومة هشة (61 مقعداً من مجموع 120 مقعداً في البرلمان)، ولذلك فإن انسحاب أي شخص فيها يهدد بسقوطها. ومن ناحية ثانية، أشعلت الاستقالة خلافات طاحنة في إسرائيل وردود فعل متباينة. وخرج الوزير نفتالي بنيت، رئيس حزب المستوطنين، بهجوم كاسح على ليبرمان، واصفاً إياه بأنه «وزير الدفاع الأفشل في تاريخ إسرائيل». وللعلم، يسعى بنيت إلى تولي حقيبة ليبرمان «من أجل الإطاحة بغزة» كما يقول. لكن المشكلة في غزة ليست مشكلة وزراء وأشخاص.
لقد خرج آلاف المستوطنين في مظاهرات ضد نتنياهو هاتفين «ارحل يا بيبي» محتجين على الفشل في معالجة صواريخ غزة. وأظهرت استطلاعات الرأي الإسرائيلية غداة الجولة التصعيدية الأخيرة في القطاع، أن معظم الجمهور الإسرائيلي غير راضٍ عن أداء رئيس الوزراء، إذ قال 74 في المائة من المستفتين إنهم غير راضين عن أداء نتنياهو الأمني، مقابل 17 في المائة أعربوا عن رضاهم.
وفي استطلاع آخر للرأي، قال 64 في المائة من الإسرائيليين إنهم يعتقدون أنه كان يتوجب مواصلة العملية العسكرية ضد قطاع غزة، وقال 49 في المائة بأنهم يعتبرون أن «حماس انتصرت»، مقابل 14 في المائة يعتقدون أن إسرائيل هي المنتصرة. في حين قال 15 في المائة إن أيا من الأطراف لم يخرج منتصرًا من هذه الجولة القتالية القصيرة. واتضح من الاستطلاع، الذي أجرته هيئة البث الإسرائيلية الجديدة «كان»، أن 21 في المائة من الإسرائيليين يؤيدون وقف إطلاق النار مع القطاع مقابل 64 في المائة يرون أنه كان يتوجب مواصلة العملية العسكرية، وربما توسيع الضربات والغارات.
والى جانب ذلك، وجه مسؤولو دفاع في إسرائيل انتقادات حادة لتعامل الحكومة مع التصعيد في غزة، وقالوا إن الاعتبارات الأمنية في إسرائيل أصبحت «مسيّسة بصورة متزايدة». وأشار مسؤولون لم تُذكر أسماؤهم أن حكومة نتنياهو فشلت في إبلاغ مجلس وزرائها الأمني بالسياسة الرسمية حول العمل العسكري في غزة. واعتبر مسؤول لهيئة البث الإسرائيلية «أن قيمة عقد جلسة للكابينت [الأمني] هي صفر». وكان «الكابينت الأمني» قد وافق على اتفاق غير رسمي لوقف إطلاق النار مع حركة حماس في قرار عارضه عدد من وزرائه. وذكرت «القناة 10» أن ليبرمان، ووزيرة العدل أييليت شاكيد، ووزير حماية البيئة زئيف إلكين، ووزير التربية والتعليم نفتالي بنيت، طرحوا رداً بديلاً، لكن الوزراء الآخرين رفضوه. وكان الرد هو توجيه ضربة قاسية لحماس.
ولكن هذا التهديد قديم عمره سنوات طويلة، ورفضه وزير التعاون الإقليمي الإسرائيلي تساحي هنغبي، معتبراً أن توجيه «ضربة قاسية يعني شللا في تل أبيب مع مئات الصواريخ في كل يوم. سيشل مطار بن غوريون لأسابيع، فلا حرب من دون ثمن، وفي نهاية هذه الحرب وبعد المئات من الجنائز للشبان الصغار سنعود إلى النقطة الراهنة نفسها».

- خيارات الإنقاذ «مصالحة»
قد لا يكون أمام إسرائيل وحماس سوى خيار واحد الآن هو عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة. وهذا خيار قد يؤجل الحرب إلى أجل غير مسمى، غير أنه صعب ومعقّد إلى حد كبير، لأنه مرهون بمصالحة ما زالت تراوح مكانها. لكن، ربما من محاسن الجولة الأخيرة للحرب، أنها فتحت أبواباً جديدة لهذه المصالحة. ولم يتردد الرئيس الفلسطيني محمود عباس في القول، قبل يومين فقط، بأن «الطريق مفتوح الآن من أجل إزالة أسباب الانقسام وتحقيق المصالحة»، مطالباً حماس «بتنفيذ أمين ودقيق لاتفاق القاهرة» الذي وقع في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
عباس أكد، لدى ترؤسه اجتماعات للقيادة الفلسطينية واللجنة العليا المكلفة بتنفيذ متابعة قرارات المجلس المركزي، أن «الطريق سالكة اليوم لتحقيق إزالة أسباب الانقسام عبر التنفيذ الدقيق والأمين للاتفاق الذي وقع في 12-10-2017 بشكل شمولي، وبما يضمن تحقيق الوحدة الوطنية والسياسية والجغرافية، واستنادا إلى العودة إلى إرادة الشعب وصناديق الاقتراع». وأضاف «وحدتنا الوطنية هي الأساس، والتعالي عن الخاص لصالح العام، والانعتاق من التعصب التنظيمي ووضع استقلال فلسطين والقدس فوق أي اعتبار، يجب أن تكون نقطة الارتكاز لجميع أبناء شعبنا».
وأمس ترأس عباس اجتماعاً طارئاً للقيادة خصص لبحث العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وأيد وقف جولة المواجهة هناك مؤكدا أن هدفه دائماً كان «تجنيب الشعب المزيد من المجازر وجرائم الحرب التي ترتكبها سلطة الاحتلال الإسرائيلي».
وأدان عباس «العدوان الإجرامي على قطاع غزه، محملا الحكومة الإسرائيلية (سلطة الاحتلال) المسؤولية الكاملة عن نتائج وتداعيات هذا العدوان». وجاء الاجتماع في رام الله بعد يومين على تحقيق اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، الذي رعته مصر وشاركت فيه دول أخرى. ولقد أعاد الاتفاق الحالي الوضع إلى ما كان عليه سابقا بما يضمن تحقيق الهدوء، مقابل إدخال أموال ووقود إلى القطاع، والسماح بتخفيف الحصار وإقامة مشاريع إنسانية.
وكان عباس هدد باتخاذ إجراءات قريبة فيما يخص العلاقة مع هذه الأطراف بما في ذلك حماس، لكن جولة القتال الأخيرة في غزة قد تجعل قراراته أبعد فيما يخص حماس. ويريد الرئيس الفلسطيني الآن العودة لحكم غزة، ثم توقيع اتفاق مع إسرائيل بشأن القطاع.
ومن جانبه، قال أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير صائب عريقات، إن القيادة تركز على وجوب تثبيت التهدئة، «لكن الطريق إلى التهدئة يجب أن تتم عبر منظمة التحرير والفصائل الوطنية والإسلامية على غرار ما حصل في التهدئة التي وقعت عام 2014. لأن إسرائيل تحاول أن تستفرد بهذا الفصيل أو ذاك وتحويلنا بدلا من سلطة واحدة إلى مجموعة سلطات وهذا ما نرفضه جملة وتفصيلاً». وتابع «الطريق إلى التهدئة هي بالوحدة الوطنية وإزالة أسباب الانقسام».
صحيح أن الطرفين يريدان مصالحة، لكن عقبات كثيرة تقف أمام ذلك. فحركة فتح تصرّ على تسلم كامل لقطاع غزة يشمل الأمن والمعابر والجباية المالية والقضاء وسلطة الأراضي، ووضع اتفاق حول سلاح الفصائل، رافضة ربط المصالحة بالقرارات التي اتخذها الرئيس محمود عباس ضد قطاع غزة. ولقد رفضت دفع رواتب موظفي حماس العسكريين، وأي نقاش حول ملف منظمة التحرير قبل إنهاء الانقسام. وردّت حماس، في المقابل، برفض تسليم غزة من دون رفع العقوبات، واشترطت تشكيل «حكومة وحدة وطنية» جديدة، ودفع رواتب موظفيها بالكامل، رافضة أي نقاش متعلق بالسلاح، ومصرة على فتح ملف منظمة التحرير وإجراء انتخابات للمنظمة.
في ظل هذا الواقع، لا توجد حرب في غزة ولا هدنة... ولا توجد هناك مصالحة كذلك. إنما «طنجرة ضغط» ما زالت تغلي.

- غزة الأكثر كثافة في العالم: 1.76 مليون نسمة في 360 كيلومترا مربعا
في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد عن 360 كيلومترا مربعا، بطول 41 كلم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كلم، يعيش في قطاع غزة أكثر من 1.76 مليون نسمة، وهو ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم. وهو يسمى بقطاع غزة نسبة لأكبر مدنه... غزة.
تبلغ نسبة الكثافة فيه وفقاً لأرقام حديثة 26 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 55 ألف ساكن تقريبا بالكيلومتر المربع.
ويشكل القطاع مع الضفة الغربية، وهي الجزء الفلسطيني من الأراضي التي احتلتها إسرائيل في 5 يونيو (حزيران) 1967، الأراضي التي تسعى السلطة الفلسطينية لإنشاء دولة ضمن حدودها.
وحالياً، يوجد في القطاع 44 تجمعاً سكانياً، أهمها: غزة ورفح وخان يونس وبني سهيلا وخزاعة وعبسان الكبيرة وعبسان الجديدة ودير البلح وبيت لاهيا وبيت حانون وجباليا. ويقول البنك الدولي إن القطاع يمثل الآن أسوأ اقتصادات العالم أداء، وفيه أعلى معدل بطالة في العالم إذ يبلغ أكثر من 50 في المائة، ويمثل من هم في سن 20 - 24 سنة نسبة 68 في المائة بين العاطلين.

- حكاية غزة مع مسلسل العمليات العسكرية
كانت إسرائيل تعتقد أن تسليم غزة إلى السلطة الفلسطينية عام 1994 سيحوّلها إلى شرطي على الحدود، وكان هذا بمثابة وهم جديد. إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليم السلطة لها بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.
وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005. انسحبت إسرائيل فعلا من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب». وفي 25 سبتمبر (أيلول) 2005 شنت إسرائيل عملية «أول الغيث» وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين.
بعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006. شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد»، ثم في فبراير (شباط) 2008، عادت من جديد لتنفذ عملية «الشتاء الساخن». وفي نهاية العام، وتحديداً في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، شنت إسرائيل إحدى كبرى عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية، وعُرفت باسم «الرصاص المصبوب».
وبعد أربع سنوات، عام 2012. شنت إسرائيل عملية «عمود السحاب». وفي 2014 شنت حربا دموية باسم «الجرف الصامد» ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من ألف قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً. وقبل أيام في نوفمبر (تشرين الثاني) 2018 خاضت جولة قاسية مع حماس. ولا أحد يعرف متى ستكون المواجهة التالية.


مقالات ذات صلة

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.