«دولة الحب والمقاومة» في مراسلات تولستوي وغاندي

كتاب جديد يكشف كيف تبادل الرجلان الأفكار بشأن النضال السلمي

المهاتما غاندي (ويكيبيديا)
المهاتما غاندي (ويكيبيديا)
TT

«دولة الحب والمقاومة» في مراسلات تولستوي وغاندي

المهاتما غاندي (ويكيبيديا)
المهاتما غاندي (ويكيبيديا)

اختار المترجم المصري الدكتور أحمد صلاح الدين الرسائل المتبادلة بين قائد ثورة تحرير الهند ومؤسس دولتها الحديثة المهاتما غاندي، والكاتب والفيلسوف الروسي ليو (ليف) تولستوي، لتكون موضوعاً لكتاب «دولة الحب... مراسلات تولستوي وغاندي» الذي أعده وترجمه عن الروسية، وصدر حديثاً عن دار «الرافدين» في كلٍّ من بيروت وبغداد.
ويرجع تاريخ الرسالة الأولى التي كتبها غاندي لتولستوي إلى نهاية عام 1909، وهي الفترة التي شهدت أعلى مستويات الضغط في صراع غاندي من أجل نيل حقوق أبناء وطنه. أما آخر خطاب كتبه تولستوي فكان تقريباً قبل شهرين من وفاته، وحُفظت رسائل غاندي في الأرشيف الخاص بالمؤرخ والأثري الروسي ديميترييفيتش تشيرتاكوف، وهو واحد من المهتمين بجمع الكتب، والعملات أيضاً.

«رسالة إلى هندوسي»
ويوضح الكتاب أن تولستوي، المُهتم دائماً بالهند وعلاقاتها الاجتماعية، وصراعها مع الحكم البريطاني، والفلسفة والديانة الهندوسية، تبادل في سنواته الأخيرة الرسائل مع عدد من المفكرين والمناضلين الهندوس، وبشكلٍ رئيسي مع قادة الحركة الثورية. وذلك قبل سنتين من خطاباته مع غاندي، لكن من بين جميع الهندوس الذين تراسلوا معه، اعتبر تولستوي أن غاندي هو الأقرب إليه من الجميع.
الكتاب يحتوي على عدد من الأقسام تدور موضوعاتها حول: الاشتراكي التعبوي، ومزرعة تولستوي، وعن الاشتراكية، و«رسالة إلى هندوسي»، والأخيرة كتبها تولستوي باللغة الروسية رداً على أحد محرري «هندوستان الحرة»، ووصلت عبر أيادٍ كثيرة إلى غاندي الذي لم تعجبه ترجمتها إلى الإنجليزية، فأشرف على ترجمتها بنفسه، ونشرها بمقدمة عرّف فيها بكاتبها ومكانته الفكرية والأدبية والروحية، وأصبحت ذائعة الصيت في العالم كله، لا في روسيا والهند فقط.
وفي «رسالة إلى هندوسي» تحدث تولستوي عن الطغاة والمقهورين، وقال إنه ما من شيء أكثر وضوحاً من أن الرغبة في إقناع الشعوب الهندية بأشكال الحياة الأوروبية لا تعكس وعياً دينياً لدى القادة الهنود حالياً. وغياب الوعي الديني والإرشاد السلوكي الذي يجب أن ينبع منه، هو نقص شائع في يومنا عند شعوب الأرض كافة شرقاً وغرباً، وهو بمثابة السبب الرئيس، إن لم يكن الوحيد، لاستعباد الشعب الهندي بواسطة الإنجليز.
وتحدث صاحب رواية «الحرب والسلام» عن العنف والاستسلام له، ودعا الهنود إلى رفض جميع أشكال الخضوع للإنجليز، بما فيها الاشتراك في «الجندية»، وذكر أن ذلك هو السبيل الوحيد للخلاص من عبودية بريطانيا.

المقاومة السلمية
أما باقي الرسائل التي قام عليها الكتاب، فعددها ثمانية خطابات، وكانت الرسالة الأولى من جانب غاندي، وكتبها في أثناء وجوده في لندن، عام 1909. وشرح خلالها لتولستوي، ما يدور في مستعمرة «ترانسفال» بجنوب أفريقيا ضد الهنود من تمييز وعنصرية وعملهم على مدى سنوات تحت وطأة معوقات قانونية مهينة، ولفت إلى أن الخضوع للقانون الذي صدر عام 1906 يقيّد وجود وحركة الهنود في جنوب أفريقيا، ولا يتوافق مطلقاً مع روح الدين الحقيقي.
وتحدث غاندي في رسالته عن إيمانه وبعض أصدقائه الراسخ بمبدأ المقاومة السلمية للشر، وقال إن الهدف من رحلته إلى بريطانيا ينحصر في لقاء السلطات الإمبراطورية، ليعرض القضية عليهم، راجياً إعادة النظر في القانون، وتدارك الأخطاء. وأشار غاندي في خطابه إلى أن الكتابة عن أخلاق وفعالية المقاومة السلمية ستؤدي إلى رواج الحركة وتدفع الناس نحو التفكير فيها. ودعا تولستوي لأن يدلي برأيه في مسألة الأخلاق، وذيّل غاندي رسالته بـ«خادمك المطيع»، مهاتما غاندي، في إشارة إلى مدى حبه العميق لتولستوي.
وقد كتب تولستوي في يومياته عن الرسالة التي تلقاها من غاندي، وبعث لصديقه تشيرتاكوف يقول إنها رسالة مؤثرة من هندوسي من «ترانسفال»، وفي أكتوبر (تشرين الأول) 1909، رد تولستوي على غاندي، واصفاً خطابه بأنه مثير للاهتمام، وذكر أن ما يدور في معسكر جنوب أفريقيا من جانب الحكومة البريطانية ضد الهنود هناك، «صراعٌ بين الوداعة والوحشية، بين التواضع والحب من جانب، والغرور والعنف من جهة أخرى، مما يجعل شعورنا به هادراً أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً في ظل الصراعات الحادة بين الواجبات الدينية وقوانين الدولة التي يعبّر عنها ذلك الرفض النابع من الضمير لتأدية الخدمة العسكرية. تحدث هذه الاعتراضات على نحو متكرر للغاية». وفي الشهر التالي مباشرةً أرسل غاندي خطابه الثاني إلى تولستوي من لندن، يلتمس منه قبول كتاب مرفق بالرسالة، يتعلق بحياته، كتبه أحد أصدقائه الإنجليز في جنوب أفريقيا، ويعالج الكتاب الصراع الذي اعتبر غاندي نفسه جزءاً منه، وكرَّس حياته له. وذكر غاندي أن النضال من قِبل الهنود في «ترانسفال» يعد الأعظم في العصور الحديثة، سواء بالنسبة إلى الهدف المأمول، أو الطرق المتبعة للوصول إليه.
وقال غاندي: «لست على علم بصراع لا يحاول فيه المشاركون تحقيق أي منفعة شخصية في نهاية الأمر، ولم يعانِ فيه نصف أفراده من وضعهم تحت طائلة القضاء والمحاكمة من أجل المبدأ». وطالب غاندي تولستوي بأن يستخدم قوة تأثيره بأيّ شكل يراه مناسباً للترويج للحركة التي إذا كُتب لها النجاح، فإن هذا لن يكون انتصاراً للدين والمحبة والحقيقة على الكفر والكراهية والباطل، إنما من المرجح للغاية أن يكون بمثابة قدوة للملايين في الهند، والبشر في أجزاء أخرى من العالم، ربما يكونون مضطهَدين، وبالتأكيد سيصير بإمكانهم فتح معبر عظيم باتجاه تفكيك حزب العنف، على الأقل في الهند.
وفي نهاية رسالته، أخبر غاندي تولستوي بأن مفاوضاته الجارية مع السلطات البريطانية لتسوية القضية فشلت، وأنه سيعود إلى جنوب أفريقيا، ويطلب دخول السجن، بجانب ابنه الذي انضمّ للنضال، ويخضع لعقوبة الأشغال الشاقة لمدة ستة أشهر، وهي المرة الرابعة التي يُسجن فيها من أجل المبادئ.

مفكر ومحارب
وحين عاد إلى جوهانسبرغ كتب غاندي مجدداً لتولستوي، وأخبره بأن السلطات في الهند صادرت كتاباً كتبه بنفسه عن حياته الخاصة، وأرفق برسالته كتيبا موجزاً، دعاه لتقديم نقد له.
وقد تركت الرسالة انطباعاً رائعاً لدى تولستوي، أكثر من سابقتها، وقد ذكر تولستوي في يومياته في أبريل (نيسان) عام 1910: «وصل اليوم اثنان من اليابانيين، سِمَتهما البراءة يشعران بالسعادة أمام الحضارة الأوروبية، ورسالة وكتاب من هندوسي، يعبّر عن فهم كل نواقص الحضارة الأوروبية، وربما كل خطاياها، قرأت مساءً ما كتبه غاندي عن الحضارة. رائع ومهم جداً».
وبعد ذلك كتب تولستوي رسالة لتشيرتاكوف أخبره أنه قرأ الكتاب الذي أرسله إليه غاندي، ووصفه بأنه مفكر هندي ومحارب ضد الاحتلال الإنجليزي. وهو «قريب منا، ومني»، يبشر بأن أفضل أساليب المعارضة فعالية هي المقاومة السلمية. وفي رسالته للرد على غاندي قال تولستوي إنه قرأ كتابه «الحكم الذاتي الهندي» باهتمام بالغ، ووصف القضية التي يتناولها بأنها على قدر كبير من الأهمية، لا بالنسبة إلى الهنود فحسب، ولكن إلى البشرية بأسرها، واعتذر الكاتب الروسي عن عدم استطاعته أن يجيب عن كل الأسئلة المتعلقة بالكتاب، وبنشاطات غاندي عموماً، لأنه ليس على ما يرام، ووعده بالكتابة ما إن يتعافى من وعكته الصحية. وفي أغسطس (آب) 1910، كتب غاندي من جوهانسبرغ رسالة إلى تولستوي، تحدث فيها عن صديقه «كالينباخ» الذي اشترى مزرعة هناك وأطلق عليها «مزرعة تولستوي». وقال: «تجمعني والسيد كالينباخ صداقة امتدت لسنوات عديدة. وربما يمكنني القول إنه مر بأغلب التجارب التي وصفتها بدقة شديدة في كتابك (اعترافاتي). لم يسبق لعمل أن لمس قلبه وعقله بهذا العمق كما فعل كتابك هذا، حتى إنه مثَّل له دافعاً حقيقياً للمضي قدماً نحو بذل المزيد من الجهد في سبيل جعل المُثُل التي دعوت إليها واقعاً ملموساً في العالم، لذا سمح لنفسه، بعد التشاور معي، بأن يسمّي مزرعته باسمك، وقام بمنحها للمقاومين السلميين».
ولم يتسلم تولستوي رسالة فقط بل كانت رفقتها رسالة أخرى من جيرمان كالينباخ، أخبره فيها بأن «مساحة المزرعة تبلغ نحو 1100 فدان، وضعتها تحت إمرة غاندي لاستخدامها من قبل المقاومين السلميين وعائلاتهم»، وقال: «بما أني قد سمحت لنفسي باستخدام اسمك، وجدت أني مدين لك بالتفسير، وبتبرير استخدام اسمك، وأضاف أنها تأتي كمحاولة منه كي يكون جديراً بتبني أفكار غاندي، تلك التي منحها بشجاعة للعالم».
المدهش في أمر هاتين الرسالتين أنهما، حسب ما أشار المترجم أحمد صلاح الدين، كان لهما بالغ الأثر على تولستوي والذي زاد اهتمامه بغاندي. وقد كتب في يومياته في 6 سبتمبر (أيلول) عام 1910: «أخبار سارة من ترانسفال عن مستعمرة للمقاومين السلميين»، كان في ذلك الوقت يعاني من حالة نفسية سيئة للغاية نتيجة خلافات مع زوجته، تسببت له في متاعب جسدية، ورغم ذلك، رد فوراً على رسالة غاندي، في اليوم الذي تلقاها فيه، قائلاً: «إن ما يمكن أن نطلق عليه المقاومة السلمية، ليس في الواقع سوى مبدأ الحب الصافي الذي لا يشوهه تفسير مزيف، فالحب هو التطلع إلى التوحد والتضامن مع أرواح أخرى، وهو بمثابة إطلاق العنان لأفعال نبيلة. إنه القانون الأسمى الفريد للحياة الإنسانية».


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية
TT

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري تتعلق بفترة الحملة الفرنسية على مصر وما قبلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

ويعد الكتاب الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة بمثابة قراءة نقدية لسيرة واحد من أشهر المؤرخين المصريين في العصر الحديث عموماً والحملة الفرنسية التي عاصرها بشكل خاص وهو عبد الرحمن الجبرتي (1756 - 1825) صاحب الكتابين الشهيرين «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» و«مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس».

يشير عيسى في البداية إلى أن الصعوبات في اكتشاف منهج الجبرتي كمؤرخ تتحدد من خلال عدد من الحقائق، منها أن بعض الباحثين يصنفون الرجل في خانة «الإخباريين» ويرون أن كتابيه مجرد «يوميات» كُتبت في أوانها أو هي «إضمامة» تضم جهد مخبر صحافي غير نشيط.

والجبرتي عند هؤلاء صحافي تلك الأيام التي أرخ لها، وبينما يتحفظ بعضهم فيكتفون بإطلاق الحكم مع بعض قيود على كتاب «مظهر التقديس» فيقولون إن الجبرتي كان فيه كاتب مذكرات أكثر منه مؤرخاً، فإن هذا الحكم يشمل عند آخرين «عجائب الآثار» وبلا تحفظات فهو عندهم كتاب ليس من التاريخ في شيء إنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء. ولأن «الإخباريين» في رأي البعض ليسوا أصحاب منهج أو موقف، فإن البحث في ذلك عند الجبرتي أمر غير وارد.

ويتفرع عن هذه الصعوبة أن الجبرتي كان معاصراً لمرحلة تزيد على خمسة وأربعين عاماً، كما تشكل أكثر من ثلث الزمن الذي أرخ له، فبعض من ترجم لهم كانت تربطه بهم وشائج وصلات بين صديق له وشيخ تلقى عنه العلم، فضلاً عن تلامذة أبيه وأنداده، حتى أن بعض الحوادث التي أرخها كان طرفاً فيها. وهو ما يجعل جهده كمؤرخ معيباً بالمعاصرة، وهي حجاب يحول دون الرؤية الموضوعية وينقله إلى حيث يصبح مجرد «شهادة معاصر» وليس تأريخاً، وبالتالي فلا محل لاكتشاف منهج أو رؤية، إضافة إلى أن الموقف يتعقد لأن الجبرتي نفسه قليل التعليقات ومعظم أخباره صماء لا يتجاوزها إلى مقارنتها أو تحقيقها أو تفسيرها، وهو يصوغ أحكامه غالباً في كلمات مبتسرة تنطوي تحت مظلة الأحكام الأخلاقية، من مثل: هذا التصرف «ظلم» أو «سخافة» أو «خزعبلات»، وهذا الأمر «شنيع جداً». وهذا الشخص «لعين» أو «كافر»، وبعضها عبارات لا تعكس رأياً في الحدث ولكن استكمالاً للخبر.

لكن صلاح عيسى الذي كتب هذا الكتاب في السبعينيات، وينشر لأول مرة بعد وفاته يعود بحسه كمؤرخ ويؤكد أن تصنيف الجبرتي في خانة «الإخباريين» بشكل مطلق هو خطأ بلا جدال، ولكننا مع افتراض صحته لا نرى أن الإخباريين ليسوا أصحاب منهج أو موقف. والواقع أن اختيار أخبار معينة وإهمال غيرها والحرص على الترجمة لأفراد معينين وترك الآخرين، لهو سلوك يعكس بحد ذاته وجهة نظر ضمنية. وعلى سبيل المثال، فإن الجبرتي في «مظهر التقديس» أغفل من حوادث شهر ربيع الأول 1216. وفق التقويم الهجري، وشهر ربيع الثاني من العام نفسه أكثر من نصف حوادثهما. وعاد في كتابه الثاني «عجائب الآثار» فأورد حوادث الشهرين متكاملة بحسب جهده في التجميع.

ويفسر حجب هذه الأخبار ثم إيرادها موقفاً له، فقد كانت كلها تسجيلاً لقبائح وجرائم ارتكبها العثمانيون عندما دخلوا القاهرة مرة أخرى. وبصرف النظر عن دلالة هذا فيما يتعلق بموقفه من العثمانيين، فهو أيضاً يعكس دلالة على أن الخبر ليس دائماً عرضاً لواقع أصم، ولكنه اختيار من هذا الواقع وما يتحكم فيه هو وجهة النظر أو المنهج، بل إن ترتيب بعض مباحث الكتاب نفسها يمكن أن يكون ذا دلالة.

ويرى صلاح عيسى أنه برغم أن معاصرة المؤلف للحقبة التي يرويها عنصر له تأثيره، فإن هذا التأثير يقل كثيراً هنا، لأننا نعلم أن الجبرتي لم يسجل أخباره هكذا في حينها تاركاً إياها مادة خام دون تنسيق أو تعديل. لافتاً إلى أن الدافع للجبرتي على كتابة تاريخه معروف فقد كلفه أستاذه الزبيدي في عام 1779 حين كان الجبرتي في الخامسة والعشرين من عمره بمساعدته في الترجمة لأعلام المائة المنصرمة من مصريين وحجازيين، والمراحل التي مر بها تاريخ القرن الثالث عشر الهجري، ثم دوّن بعد ذلك يوميات للمراحل التي عاصرها. المهم في هذا كله ّأن النص الذي تركه لنا الجبرتي ليس هو نص تدويناته اليومية التي كان يسجلها، ولكنه عمل تفرغ له فيما بعد لإعادة تنسيق ما كتب وتبويبه وكان وقتها قد جاوز الخمسين من عمره.

كما أن بعض الظواهر التاريخية كانت قد استكملت ملامحها، وهو بالقطع ما أتاح للجبرتي فرصة للتخلص من تأثير المعاصرة في حدودها الضيقة ومكنه من استخلاص نتائج ربما لم تكن واضحة أمامه وهو يسجل الأحداث اليومية وقت حدوثها ونقل عمله بدرجة محدودة من إطار الأخبار الأصم إلى أفق أكثر رحابة.

ولأن التاريخ عند الجبرتي هو تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها وكل ما حدث له من مظالم هو «انتقام سماوي» لخروجه عن الناموس، فقد كان طبيعياً أن ينظر إلى التكوين الاجتماعي باعتباره خاضعاً لتركيب طبقي حديدي يخضع فيه الصغير للكبير والدنيء للشريف والأدنى للأعلى. في هذا الصدد يبدو الجبرتي أكثر تزمتاً من أي شيء آخر، فكل شيء لا يداني عنده الإخلال بالتصميم الاجتماعي المستقر، فعلى المماليك وهم القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية والقادمة من خلفية العبودية والرق أن يتبعوا التقاليد تجاه أمرائهم، فإذا ما خرجوا عنها أثاروا غضبهم. ومن ثم يرى الجبرتي أن من الأحداث التي تستحق الرواية أن المماليك قد تزوجوا وصار لهم بيوت وخدم ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون وفي أيديهم شبكات الدخان من غير إنكار وهم في الرق ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم إنكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور.

لم يكن غريباً أن يكون من أعمال «هيئة الديوان»، التي كان الجبرتي من أعضائها على عهد قيادة الجنرال مينو للحملة الفرنسية، أن يحذر القائد الفرنسي الذي خلف نابليون بونابرت من الثورة الشعبية، وأن يصوغ تحذيره في أن الثورة يقوم بها الدهماء فلا يخسرون شيئاً، وإنما يخسر الذين يملكون المال أو النفوذ، فقد ذكر أن أعضاء الديوان المذكور دعوا مشايخ الحارات والأخطاط وحذروهم مما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأن مشايخ الحارات هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم، فالعاقل يشتغل بما يعنيه.

ومع ذلك، لا يبدو الجبرتي في تأريخه لثورة 1805 التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، معارضاً لها، بل إننا نستشعر روحاً من التعاطف في روايته لأحداثها، فقد خلت عباراته من أوصاف «الأشرار» و«أوباش الناس» في وصف الجماهير. وفي كل المناقشات التي دارت بين قادة الثورة والوالي العثماني والتي كان الثوار فيها يستندون إلى أن من حقهم بمقتضى الشريعة أن يعزلوا ولي الأمر إذا سار فيهم بالظلم، بدا الجبرتي موافقاً على هذا الرأي ووصف رفض الوالي له بأنه «خلاف وعناد».