تكهنات بـ«غربلة وشيكة» في الإدارة الأميركية

قد تشمل كبير موظفي البيت الأبيض ووزيرة الأمن الداخلي

كيلي ونيلسن يغادران البيت الأبيض في أكتوبر 2017 (رويترز)
كيلي ونيلسن يغادران البيت الأبيض في أكتوبر 2017 (رويترز)
TT

تكهنات بـ«غربلة وشيكة» في الإدارة الأميركية

كيلي ونيلسن يغادران البيت الأبيض في أكتوبر 2017 (رويترز)
كيلي ونيلسن يغادران البيت الأبيض في أكتوبر 2017 (رويترز)

تداول الإعلام الأميركي أخباراً حول توجُّه الرئيس الأميركي دونالد ترمب لإجراء تغييرات شاملة رفيعة المستوى في إدارته، تشمل كبير موظفي البيت الأبيض جون كيلي، ووزيرة الأمن الداخلي كيرستن نيلسن، ووزير الدفاع جيمس ماتيس، في الوقت الذي يستعد فيه ترمب لحملة إعادة انتخابه في عام 2020، ويسعى لإدخال دماء جديدة في فريقه.
ومن المتوقَّع أن تكون ميرا ريكارديل نائبة مستشار الأمن القومي، أول المغادرين بعد إقالة وزير العدل جيف سيشنز. وأعلنت السيدة الأولى ميلانيا ترمب، بشكل علني، أول من أمس، عن رغبتها في إقالة ريكارديل بعد صدام وقع بينهما خلال رحلة ميلانيا الأخيرة إلى أفريقيا. وقالت ستيفاني غريشام المتحدثة باسم السيدة الأولى: «إنه موقف مكتب السيدة الأولى. إن ريكارديل لم تعد تستحق شرف الخدمة في هذا البيت الأبيض».
الاسم الثاني المرجَّح أن يغادر الإدارة الأميركية، هو جون كيلي، كبير موظفي البيت الأبيض، خصوصاً بعد النزاع الذي وقع بينه وبين السيدة الأولى بسبب أحد مساعديه، الأمر الذي زاد من إحباط الرئيس ترمب، وفقاً لشبكة «إن بي سي». كما شهد البيت الأبيض الشهر الماضي نزاعاً داخلياً بين كيلي ومستشار الأمن القومي جون بولتون، حول وزيرة الأمن الداخلي بسبب زيادة عدد المهاجرين الذين عبروا الحدود الأميركية.
وألقى بولتون، كما فعل الرئيس ترمب، باللوم على نيلسن. وتزايدت التكهنات بأن طرد نيلسن قد يؤدي إلى مغادرة كيلي، الذي يُعد حليفها الأول في البيت الأبيض، وفقاً لتقارير متعددة.
ومن المرجَّح أن يتولى نيك آيرز، الذي يشغل حالياً منصب كبير موظفي نائب الرئيس الأميركي مايك بنس، منصب جون كيلي بعد استبداله، خصوصاً أنه يتمتع بعلاقات جيدة مع أفراد عائلة ترمب، بما في ذلك مع جاريد كوشنر، صهر الرئيس، وإيفانكا ترمب، ابنة الرئيس، ويُنظَر إليه على أنه شاب طموح في الحزب الجمهوري وذو خبرة وتأثير سياسي. وعمل آيرز مديراً تنفيذياً لاتحاد حكام الجمهوريين خلال انتخابات 2010، كما حصل على إشادة لدوره في الاستراتيجية السياسية لبنس في انتخابات منتصف الأسبوع الماضي.
والتقى الرئيس ترمب بآيزر على انفراد، في الأسبوعين الماضيين، وفُسِّر الاجتماع على أنه إشارة إلى أن آيرز قيد النظر من قبل الرئيس بديلاً لكيلي، وفقاً لصحيفة «ذا هيل». وعلى الرغم من وجود عدد من المؤيدين له داخل البيت الأبيض، فإن آيرز لديه أيضاً عدد من الأعداء داخل المبنى وخارجه، وهو ما يجعل مسألة تعيينه غير مضمونة حتى الآن.
في المقابل، يرى البعض أن كيلي، وهو جنرال متقاعد في سلاح المارينز، لا يملك المهارات السياسية لقيادة الجناح الغربي نحو انتخابات الرئاسة 2020، التي من المقرَّر أن يخوضها ترمب. وكان الرئيس الأميركي قد طلب من كيلي البقاء في إدارته حتى انتخابات 2020، وهو ما وافق عليه الأخير، وأعلن عن ذلك رسمياً في يوليو (تموز) الماضي، في محاولة من البيت الأبيض لخفض الحديث عن التغييرات المحتملة في الإدارة، حتى لا تؤثر على انتخابات التجديد النصفي. وشهدت تلك الفترة تكهنات مكثفة حول مستقبل كيلي وأعضاء آخرين في البيت الأبيض.
إلى ذلك، أفادت تقارير صحافية متعددة بأن إقالة نيلسن باتت مؤكدة، وسيتم إعلانها في التوقيت المناسب، نظراً لعدم ظهور بديل مناسب حتى الآن. وعبّر الرئيس ترمب عن عدم رضاه عما يراه «أداءً ضعيفاً لنيلسن فيما يتعلق بحماية الحدود»، وسط مخاوف بشأن أعداد متزايدة من المهاجرين الذين تم القبض عليهم عند الحدود الجنوبية الغربية، وقافلة المهاجرين المقبلة من أميركا الوسطى متجهة إلى الولايات المتحدة.
وقال تايلر هولتون، المتحدث باسم وزارة الأمن الوطني، في بيان: «يشرِّف الوزيرة أن تقود رجال ونساء وزارة الأمن الوطني، وتلتزم بتنفيذ أجندة الرئيس الأمنية التي تهدف إلى حماية الأميركيين من جميع التهديدات وستواصل القيام بذلك».
ومن المتوقَّع أيضاً أن تشمل التغييرات وزير الدفاع جيمس ماتيس، خصوصاً بعد أن وصفه ترمب بـ«الديمقراطي». إلا أن الرئيس الأميركي أنكر نيته الإطاحة بماتيس، وقال للصحافيين الأسبوع الماضي: «لماذا أفعل ذلك؟ هل هذه هي الشائعات الجديدة؟ لقد فوجئتُ بهذا السؤال. لم أسمع ذلك».
وتجدر الإشارة هنا إلى أن ماتيس يمكن أن يخرج منتصراً إذا نفَّذ ترمب رغبته (طبقاً لتقارير) في الإطاحة بميرا ريكارديل، نائبة مستشار الأمن القومي، التي اشتبكت معه مراراً، ولطالما دفعت باتجاه الإطاحة به.
من جانب آخر، فإن المستقبل السياسي لكلّ من ريان زينكي وزير الداخلية، وويلبر روس وزير التجارة، بات على المحكّ حيث يواجه الرجلان جدلاً متزايداً حول «تجاوزاتهم الأخلاقية»، ومن المتوقع أن يخضعا للتحقيق من قبل الديمقراطيين، عندما يتولون السيطرة على مجلس النواب، مطلع العام المقبل.
ويرى مؤيدو الرئيس أن من حقه القيام بتغيرات في إدارته، وأن يكون لديه موظفون يرتاح في العمل معهم. وقد يشعر ترمب أيضاً بالجرأة أكثر حالياً لإجراء تغييرات شاملة في حكومته، بعد أن تمكَّن حزبه من تعزيز أغلبيته الجمهورية في مجلس الشيوخ، وهو اليد العليا للكونغرس، التي تختص بالبت في ترشيحات الرئيس للمناصب الحيوية.
وكان إعلان نيكي هيلي، سفيرة أميركا لدى الأمم المتحدة، عن تركها منصبها بحلول نهاية العام، أحدث التغيرات التي شهدتها الإدارة قبل الانتخابات، وأعقبها استقالة سيشنز التي جاءت بناء على طلب ترمب وتمَّت بعد ساعات من فقدان الجمهوريين الأغلبية في مجلس النواب.
تاريخياً، اعتاد الرؤساء الأميركيون إجراء تغييرات في بعض المناصب الرفيعة في إداراتهم بعد انتخابات منتصف المدة بعد العامين الأوليين من مدة الرئاسة. كما أنه ليس مفاجئاً أن يغادر مسؤولون مناصبهم بسبب الإرهاق أو العمل على إعادة الانتخاب، لكن ترمب أجرى تغييرات غير عادية بين كبار موظفيه، وكثيراً ما تكون بطريقة دراماتيكية.
وقام ترمب بتغييرات واسعة، وبمستويات قياسية، بين كبار موظفيه في البيت الأبيض خلال أول سنتين له في البيت الأبيض، بما يعادل تغييرات الرئيس السابق باراك أوباما بعد أربع سنوات في الحكم، وأكثر من ضعف تغييرات الرئيس جورج دبليو بوش بعد فترة ولايته الأولى، وفقاً للبيانات التي جمعتها كاثرين دان تينباس زميلة معهد بروكينغز. ومن المتوقع أن يغادر المزيد من كبار موظفي البيت الأبيض في الأسابيع المقبلة، بعضهم للعمل في حملة 2020.
ومنذ دخوله المكتبي البيضاوي، استبدل ترمب مستشاره للأمن القومي في الأسابيع الأولى من توليه منصبه، وقام بتغييره مرتين أخريين، كما غيَّر كبير موظفيه، ووزير الأمن الوطني ثلاث مرات، فضلاً عن تغييرات في وزارات الصحة والخارجية وشؤون المحاربين القدامى، ووكالة الاستخبارات، ووكالة حماية البيئة.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟