لشبونة... رحلة تلتقي فيها الشاعرية بالتاريخ

كنوزها لا تزال مجهولة سياحياً وعلوها يحتاج إلى لياقة بدنية عالية

منظر بانورامي للساحل
منظر بانورامي للساحل
TT

لشبونة... رحلة تلتقي فيها الشاعرية بالتاريخ

منظر بانورامي للساحل
منظر بانورامي للساحل

ثمّة لحظات تشعر فيها بأن الحياة مثل لشبونة: متهاوية دعائمها، هجرها الودّ وانسدلت عليها الكآبة واستقرّ في حناياها الحنين. البعض يرى في ذلك جمالاً، أما أنا فأبحث وراء ذلك عن الجمال كلما قادتني الرغبة وحملني الشوق إلى هذه المدينة الرابضة عند مصبّ نهر التاج الشقي في المحيط البارد.
لشبونة مدينة تحنّ إليها في كل مرة تغادرها. تحنّ إلى الشوارع الضيقة التي تصعد نحو السماء تاركة البحر على أقدامها، وإلى ضوئها الشفّاف الذي نزفت تحته مئات القصائد في ساعات الصباح الأولى.
تقع لشبونة عند أقصى الطرف الأطلسي للقارة الأوروبية الذي انطلق منه البحّارة أواخر القرن الخامس عشر بحثاً عن بلاد الهند فوصلوا تائهين إلى ما أسموه العالم الجديد. ولا شك في أن هذا الموقع، مضافاً إلى وجود البرتغال على خاصرة إسبانيا، هو الذي جعلها شبه منسيّة سياحياً طوال عقود إلى أن بدأ العالم مؤخراً يكتشف مفاتنها ويتهافت على مواطن الجمال ومطارح السحر المعشّشة في ساحاتها وزواياها. بعد كل زيارة يعاودك الحنين إلى هذه المدينة التي تقرأها مثل كتاب لا ترغب في الوصول إلى نهايته، وتشعر بأن لك فيها حياة سابقة تطالعك ذكرياتها في وجوه أو مطارح تألفها العين ويرتاح لها الفؤاد.
مثل روما هي مبنيّة على سبع هضاب تتعرّج في حناياها شوارع ضيقة تظلّلها البيوت القديمة، وتكثر فيها الساحات والنوافير التي تقوم حولها عشرات المقاهي الأثرية التي يرتادها البرتغاليون بشغف وانتظام.
- جولة عبر التاريخ
ندخل لشبونة من جسر فاسكو دي غاما، البحّار الشهير الذي دار حول القارة الأفريقية عند رأس الرجاء الصالح، لنطلّ منه على القرميد الأحمر الذي يعلو سطوح المدينة الهادئة في انسجام معماري قلّ نظيره بين العواصم الأوروبية. أول ما يطالعنا هي قلعة القديس جاورجيوس المبنية على شكل حصن عند مدخل الحي العربي القديم Alfama، وهو اسم مشتقّ من كلمة «الحمّة» التي تعني عين ماء حارة. هذا الحي كان وسط المدينة عندما كانت تحت الحكم الإسلامي من عام 714 حتى مطالع القرن الثاني عشر، لكن في العصور الوسطى راح سكان المدينة الميسورون ينزحون عنه باتجاه الغرب وبقي حيّاً للصيادين والفقراء. وعندما تعرّضت لشبونة للزلزال الكبير عام 1755 تدمّرت بكاملها باستثناء حي آلفاما الذي لم يفقد خصائصه التاريخية المهمة التي ما زالت قائمة إلى اليوم، مثل المسجد الكبير الذي تحوّل إلى كاتدرائية.
نترك الحي القديم وراءنا ونتجّه صعوداً نحو حي Chiado، ملتقى الفنانين والأدباء والشعراء، الذي يشرف على المدينة من باحة سانتا لوسّيا. في الطريق إلى هذا الحي نعرّج على دير الجيرونيموس الذي يُعتبر درّة الفن البارّوكي في البرتغال وحيث يوجد ضريح شاعر البرتغال الكبير فرناندو بيسّوا وراء رخامة نُقِش عليها النص التالي: «يغالبني النعاس، وأتوسّل الآلهة أن تواريني هنا في صندوق يحميني من مرارات الحياة وحلاواتها». وقد بُني هذا الدير من الأموال التي جمعتها الدولة من الضرائب التي فرضتها على التوابل في القرن السادس عشر.
من هناك نواصل طريقنا أمام نُصب المكتشفين. أحد أهم معالم المدينة التي تفتخر ببحّارتها، ثم نعبر بجانب برج بيت لحم الذي بناه ملك البرتغال منتصف القرن السادس عشر لحماية المدينة من جهة النهر، والذي وضعته اليونيسكو على قائمة التراث العالمي. وقبل مغادرة الحي الواطئ La Baixa في طريقنا صعوداً، نتوقّف عند «المدفأة الباردة» التي هي بمثابة حديقة للنباتات الاستوائية في وسط المدينة. تذكّرنا بالمستعمرات البرتغالية التي كانت منتشرة في أفريقيا والبرازيل. من هناك نستقلّ مصعد سانتا جوستا الذي يريحنا من عناء تسلّق الشوارع الشديدة الانحدار، والذي بناه المهندس الفرنسي بونسار صديق غوستاف ايفيل باني برج باريس الشهير.
وللراغبين في جولة أكثر رومانسية من المصعد نقترح القاطرة الكهربائية الصفراء التي تواظب على نقل الركّاب بين أسفل المدينة وأعلاها منذ بدايات القرن الماضي.
على الطريق التي تسلكها القاطرة الصفراء تكثر حانات «الفادو»، الغناء الذي يختصر هويّة البرتغاليين وروح عاصمتهم لشبونة. إنه غناء اللحظات الكئيبة في الحياة، تلك التي يهجرنا فيها الأحبّاء وتتلبّد السماء بغيوم القسوة أو البعد. تكفي قيثارة واحدة لمصاحبة الحزن المنهمر من حناجر المطربين، يروي عذابات سكّان الأحياء المتواضعة والفقيرة وأيامهم المجبولة بالقدرّية والإحباط. والفادو سليل الفلامنكو الإسباني وأصدق وسيلة يعبّر بها البرتغاليون عن مشاعرهم وأحلامهم.
كُثُرٌ هم الشعراء الذين ألهمتهم هذه المدينة بدفء شمسها أيام الشتاء وعذوبة نسائمها في عشايا الصيف، والضوء الذي ينساب بين شوارعها وازّقتها الضيّقة. فرناندو بيسّوا، كبير شعراء البرتغالية، أمضى حياته في هذه المدينة، وبخاصة في مقهى «مارتينيو دي آركادا»، حيث كتب معظم قصائده على نفس الطاولة التي ما زالت كما هي في موقعها نفسه إلى اليوم. وجوسيه ساراماغو، الروائي حامل جائزة نوبل، الذي كان يقول إن الوحي الذي يأتيه في لشبونة يعادل ذلك الذي يأتيبه عندما يعود إلى مطارح طفولته في القرية حيث شهد النور.
ومن المحطات التي تنفرد بها لشبونة وتزيد من تمايزها، مستشفى فريد من نوعه في العالم تأسس في عام 1830، وما زال إلى اليوم يقوم بنشاطه بنفس العناية والاهتمام بسعادة الأطفال. إنه مستشفى الدُمى، المعطّلة أو التي تعرّضت لحوادث، تُنقَل إليه كالمرضى العاديين، في سيارات إسعاف خاصة، ثم على محمل R إلى غرفة العمليات، حيث تُجرى لها زراعة للأعضاء أو تخضع لجراحة تجميلية لتعود كما كانت عليه، ومعها ابتسامات الصغار ودهشتهم الجميلة.
الجولة على المعالم التي تتميّز بها العاصمة البرتغالية لا تكتمل من غير زيارة فندق Avenida Palace العريق الذي ذاع صيته عندما كان وكراً للجواسيس الألمان والأميركيين والبريطانيين إبّان الحرب العالمية الثانية التي وقفت فيها البرتغال على الحياد.
أما نهاية جولتنا فلا بد أن تكون في مقهى برازيليانا الذي يقال: إنه الأفضل في العالم لقراءة صحيفتك اليومية على مقاعده الخشبية القديمة، مصحوباً بفنجان قهوة وقطعة من حلوى بيت لحم التي تشتهر بها العاصمة البرتغالية.


مقالات ذات صلة

دبي تستقبل 16.79 مليون سائح دولي خلال 11 شهراً

الاقتصاد بلغ عدد الغرف الفندقية المتوفرة في دبي بنهاية نوفمبر 153.3 ألف غرفة ضمن 828 منشأة (وام)

دبي تستقبل 16.79 مليون سائح دولي خلال 11 شهراً

قالت دبي إنها استقبلت 16.79 مليون سائح دولي خلال الفترة الممتدة من يناير (كانون الثاني) إلى نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بزيادة بلغت 9 في المائة.

«الشرق الأوسط» (دبي)
سفر وسياحة كازينو مونتي كارلو يلبس حلة العيد (الشرق الأوسط)

7 أسباب تجعل موناكو وجهة تستقبل فيها العام الجديد

لنبدأ بخيارات الوصول إلى إمارة موناكو، أقرب مطار إليها هو «نيس كوت دازور»، واسمه فقط يدخلك إلى عالم الرفاهية، لأن هذا القسم من فرنسا معروف كونه مرتعاً للأغنياء

جوسلين إيليا (مونتي كارلو)
يوميات الشرق تنقسم الآراء بشأن إمالة المقعد في الطائرة (شركة ليزي بوي)

حق أم مصدر إزعاج؟... عريضة لحظر الاستلقاء على مقعد الطائرة

«لا ترجع إلى الخلف عندما تسافر بالطائرة» عنوان حملة ساخرة أطلقتها شركة الأثاث «ليزي بوي».

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق افتتاح تلفريك جديد في جبال الألب (إ.ب.أ)

سويسرا تفتتح أشد عربات التلفريك انحداراً في العالم

افتُتح تلفريك جديد مذهل في جبال الألب البرنية السويسرية. ينقل تلفريك «شيلثورن» الركاب إلى مطعم دوار على قمة الجبل اشتهر في فيلم جيمس بوند.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق سياح يتجولون في أحد شوارع طوكيو (إ.ب.أ)

33 مليون زائر هذا العام... وجهة شهيرة تحطم رقماً قياسياً في عدد السياح

يسافر الزوار من كل حدب وصوب إلى اليابان، مما أدى إلى تحطيم البلاد لرقم قياسي جديد في قطاع السياحة.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)

البترون وجبيل وزغرتا... تتألق وتلبس حلة الأعياد

البترون وجبيل وزغرتا... تتألق وتلبس حلة الأعياد
TT

البترون وجبيل وزغرتا... تتألق وتلبس حلة الأعياد

البترون وجبيل وزغرتا... تتألق وتلبس حلة الأعياد

في مناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة، تتنافس بلدات ومدن لبنانية على اجتذاب الزوّار. مدينتا جبيل والبترون كما زغرتا تشكّل وجهات سياحية داخلية محببة. تتوجه إليها العائلات لتمضية يوم كامل في أسواقها وشوارعها المرتدية حلة العيد.

صاحبة لقب «عاصمة الميلاد»... البترون

كعادتها كل سنة، ترتدي بلدة البترون الشمالية حلّة الأعياد قبل غيرها من المناطق اللبنانية. وهذا العام افتتحت صاحبة لقب «عاصمة الميلاد» موسم الأعياد بنشاطات مختلفة. فأطلقت شجرة ومغارة الميلاد. وافتتحت قرية العيد ومعارض وأسواقاً خاصة بالمناسبة.

زغرتا ونشاطات مختلف بمناسبة الأعياد (انستغرام)

كل ما يخطر على بال زوّار البترون سيجدونه في أسواقها القديمة المطبوعة بعيدي الميلاد ورأس السنة. ففيها تحضّر المونة وتنتشر المقاهي والمطاعم والمنتجات اللبنانية من أشغال يدوية وحرفية وغيرها. وتعدّ من أقدم الأسواق في لبنان، وهي مبنية بأسلوب العمارة التراثية، حيث تجذب السياح والمقيمين. تتألف الأسواق من أزقة، يشعر زائرها وهو يجتازها، بأنه في قلب صفحات تاريخية. وتدأب بلدية البترون في هذا الوقت من كل سنة على تقديم أسواقها بأبهى حلة. وتبرز قناطرها الحجرية المزينة. وتصطف على جانبي السوق الحوانيت والدكاكين، فتعرض كل ما يتعلّق بهذه المناسبة من هدايا وحلويات وعطور وبخور وأزياء.

الزينة في مدينة جبيل (انستغرام)

الموسيقى الميلادية تملأ الأجواء. وفي المناسبة تم إطلاق «ورشة بابا نويل»، وفيها يتاح للأطفال والأولاد التقاط صور تذكارية مع هذه الشخصية العالمية. وكذلك القيام بنشاطات مختلفة من تلوين الرسوم واللعب والترفيه.

وللكبار حصّتهم من هذه السوق. ومع كوب شاي ونارجيلة أو بعض المرطبات والحلويات والمثلجات يستمتعون بلحظات استرخاء. كذلك بإمكانهم تناول ساندويشات الفلافل والشاورما وأكلات أخرى لبنانية وغربية.

البترون من الوجهات الجميلة فترة الاعياد (انستغرام)

«هيللو بيبلوس»... جديدها بمناسبة الأعياد

تحرص مدينة بيبلوس (جبيل) على التجدد في كل مرة تتاح لها الفرصة. هذا العام، وبمناسبة إطلاقها شهر الأعياد، أعلنت عن موقعها الإلكتروني «هيللو بيبلوس» (Hello Byblos). وهو من شأنه أن يسهّل لزوّار هذه المدينة طريقة الوصول إليها، ويضيء على أهم معالمها السياحية والأثرية. وتأتي هذه الخطوة بمناسبة مرور 15 عاماً على إدارة بلدية جبيل للمدينة.

وخلال فترة الأعياد باستطاعة زوّار هذه المدينة العريقة تمضية يوم كامل بين ربوعها. فكما أسواقها الميلادية، كذلك افتتحت شجرة العيد، وتم تزيينها بأكثر من 10 آلاف متر إنارة. وفي الشارع الروماني حيث تنتصب شجرة الميلاد تتوزّع أقسام السوق الميلادية الخاصة بهذا الموسم. وتحت عنوان: «الأمل بيضوّي بجبيل» تقام الاحتفالات في المدينة في شهر ديسمبر (كانون الأول).

ومن يقصد هذه المدينة باستطاعته القيام بعدة نشاطات سياحية، ومن بينها زيارة قلعة جبيل الأثرية ومرفئها القديم. ولهواة المتاحف يحضر في هذه المدينة متحف الأسماك المتحجرة، ومتحف الشمع الخاص بالفن الحديث والمعاصر.

مدن ومناطق لبنان تلبي حلة العيد رغم الظروف الصعبة (انستغرام)

زغرتا وللأعياد نكهتها الخاصة

تعدّ بلدة زغرتا أمّ المعالم الطبيعية والتاريخية. يزورها اللبنانيون من كل حدب وصوب للاستمتاع بنشاطات رياضية وترفيهية مختلفة.

وفي مناسبة الأعياد تقدم زغرتا نشاطات فنية وثقافية. وتحت عنوان: «ليلة عيد»، يمكن لزائرها المشاركة بفعاليات الأعياد التي تنظمها جمعية «دنيانا»، ويتخللها «قطار العيد» الذي ينظم جولات مجانية متعددة للأطفال في شارع زغرتا الرئيس. ويرتدي الشارع بدوره حلة الميلاد وزينته. وتقدّم العديد من الأنشطة الترفيهية والموسيقية. ويحضر في هذه الفعالية مجموعة من الشخصيات الكرتونية المُحببة إلى قلوب أطفالنا؛ فيطلّ «سانتا وماما كلوز»، وترافقهما فرق موسيقية تعزف أغاني وترانيم الميلاد، لبث جوّ الفرح والأمل.

وتفتح المحال التجارية أبوابها لساعات متأخرة من الليل. وتقدّم لزوّارها هدايا رمزية من وحي العيد.

وتشتهر زغرتا بمعالمها الأثرية والطبيعية المختلفة. وتكثر فيها الطواحين القديمة التي تشكّل جزءاً من تراثها. وكما طاحون نحلوس في أسفل زغرتا من الجهة الشرقية الشمالية، هناك أيضاً طاحون المخاضة العليا المشهور بأقبيته من العقد الحجري.

كل ما يخطر على بال زوّار البترون سيجدونه في أسواقها القديمة المطبوعة بعيدي الميلاد ورأس السنة

ويفتخر أهالي البلدة بكنيسة «السيدة» القديمة الأثرية، وكذلك بمواقع دينية أخرى كـ«مارت مورا» وكنيستَي «سيدة الحارة» و«الحبل بلا دنس» الأثريتين. ومن أنهارها المعروفة رشعين وجوعيت. أما بحيرة بنشعي التي تشهد سنوياً احتفالات خاصة بأعياد الميلاد ورأس السنة، فتتوزع حولها المطاعم والمقاهي. وهي تبعد عن البلدة نحو 10 دقائق، وتعدّ من المحميات الطبيعية اللبنانية المشهورة. وتسبح فيها طيور الإوز والبط، وتحتوي على مئات الأنواع من الأسماك.

وتُعرف زغرتا بمطاعمها التي تقدّم أشهى المأكولات اللبنانية العريقة. وأهمها طبق الكبة على أنواعه. ويقصدها الزوّار ليذوقوا طبق «الكبة بالشحم» و«الكبة بالصينية» و«الكبة النية».