الصحافة في البحرين... تاريخ يكافح في وجه {أزمة الورق}

المنامة كانت شاهدة على ولادة أول جريدة سياسية في الخليج عام 1939

أعضاء اللجنة الاستشارية لإذاعة البحرين عام 1942 يتوسطهم الشيخ مبارك بن حمد آل خليفة وبينهم عبد الله بن علي الزايد مؤسس الصحافة في البلاد (كتاب «الصحافة البحرينية»)
أعضاء اللجنة الاستشارية لإذاعة البحرين عام 1942 يتوسطهم الشيخ مبارك بن حمد آل خليفة وبينهم عبد الله بن علي الزايد مؤسس الصحافة في البلاد (كتاب «الصحافة البحرينية»)
TT

الصحافة في البحرين... تاريخ يكافح في وجه {أزمة الورق}

أعضاء اللجنة الاستشارية لإذاعة البحرين عام 1942 يتوسطهم الشيخ مبارك بن حمد آل خليفة وبينهم عبد الله بن علي الزايد مؤسس الصحافة في البلاد (كتاب «الصحافة البحرينية»)
أعضاء اللجنة الاستشارية لإذاعة البحرين عام 1942 يتوسطهم الشيخ مبارك بن حمد آل خليفة وبينهم عبد الله بن علي الزايد مؤسس الصحافة في البلاد (كتاب «الصحافة البحرينية»)

في عام 2014، وفي الذكرى الـ75 على صدور أول صحيفة بحرينية (جريدة البحرين) أصدر الكاتب والباحث البحريني صقر بن عبد الله المعاودة، كتاباً وثق بين طياته تاريخ الصحافة البحرينية. الكتاب غني بالتفاصيل وبقائمة المطبوعات على مر القرن الماضي والألفية، ولم تخلُ منه تفاصيل مهمة تشرح لقرائه كيفية تطور الصحافة المطبوعة في البلاد. وبعد أربعة أعوام على إصداره، نعود لاستعراضه وإعادة تقييم المشهد الصحافي في البحرين في ظل التطورات التكنولوجية والتحديات التي يعيشها «الورق» عالمياً.
تقول سميرة رجب، وزيرة الدولة البحرينية السابقة لشؤون الإعلام، التي كتبت مقدمة شاملة في هذا الكتاب، في حديث لـ«الشرق الأوسط»: إن «البحرين كجزيرة في وسط الخليج العربي، كانت أحد أهم الموانئ فيما كان يُعرف بطريق الحرير قديماً ومحطة مهمة لمختلف أنواع الرحالة العابرين بين الشرق والغرب». ولذلك: «اكتسبت هذه الجزيرة الجميلة أهميتها منذ ذلك الزمن من هذا الموقع الجيواستراتيجي المهم، الذي جعل الانفتاح على الآخر من أهم سمات شعبها، وجعلها من أهم مصادر الوعي الحضاري الذي تميز به البحرينيون».
وعلى خطى هذه العقلية المتنورة، تأسست أول صحيفة ورقية فيها عام 1939، وغالباً ما تزدهر الصحافة في البيئات الحضارية النشيطة بالحراك الثقافي والفكري؛ مما أعطى العمل الصحافي في البحرين دفعاً قوياً ليكون مصدر إشعاع ثقافي في منطقة الخليج.

المطابع والمكتبات تعبّد الطريق
كان لكل من المطابع والمكتبات دور محوري في تعبيد الطريق للصحافة في البحرين.
وعندما أسس الأديب عبد الله بن علي الزايد مطبعته عام 1936 وأسماها «مطبعة البحرين ومكتبتها» خرجت للنور أول صحيفة أسبوعية سياسية في الخليج العربي عام 1939 (جريدة البحرين)، بعدها جاءت مطبعة المؤيد عام 1949، وفيها طبعت أغلب صحف حقبة الخمسينات من القرن الماضي. ثم تأسست المطبعة الشرقية عام 1952 وتوالت مطابع عدة بعدها بافتتاح أبوابها.
من الطريف في وسائل توزيع وبيع الصحف في فترة الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي أنها تباع أحياناً في محال غير متخصصة حتى في الصيدليات. وقد بدأ توزيع الصحف في البحرين لأول مرة عندما أسس سلمان أحمد كمال في العاصمة المنامة مكتبته التي أسماها «المكتبة الكمالية» عام 1919، ثم توالت وتأسست الكثير من المكتبات والمؤسسات التي تعنى بتوزيع الصحف المحلية والعربية والأجنبية. وتضمنت قائمة أوائل مكتبات بيع الصحف في البحرين المكتبة العصرية والماحوزي، والبحرين، وغيرها.
وأدت المكتبات ومؤسسات توزيع الصحف في الدول الخليجية والعربي، بالإضافة إلى بعض الدول الأخرى، دوراً مهماً في انتشار الصحف البحرينية في الخمسينات. وأولى أصحاب الصحف والعاملون عليها توزيع وانتشار صحفهم خارج البلاد اهتماماً كبيراً، وذلك بالاتفاق مع بعض المكتبات والمؤسسات وتعيينهم وكلاء لبيعها في بلدانهم.

جريدة البحرين... البدايات
رأت الصحافة البحرينية النور عندما قرر الأديب البحرينية عبد الله بن علي الزايد في أوائل مارس (آذار) من عام 1939 تأسيس «جريدة البحرين»، التي أصبحت أول صحيفة أسبوعية سياسية تصدر في منطقة الخليج العربي. كان طموح مؤسسها أن تكون يومية، لكن محدودية إمكانات التحرير والطباعة فرضت عليها أن تبقى أسبوعية حتى توقفها عن الصدور في 15 يونيو (حزيران) من عام 1944.
تكونت الجريدة من أربع صفحات كبيرة، وقبل توقف صدورها بعامين صدرت بورق ملون (الأخضر والبنفسجي)، ذلك بعد نفاد اللون المعتاد للصحيفة بسبب تداعيات الحرب العالمية الثانية على الطباعة.
قامت الجريدة بدور إصلاحي من خلال اهتمامها بشؤون البلاد والمنطقة ونشرها الأخبار، ومتابعتها الفعاليات الثقافية والأدبية والمشروعات الوطنية والإنسانية. لم يكن الهدف من الصحيفة ربحياً، لكن كان لنشر الإعلانات الحكومية وبرامج الإذاعة والإعلانات التجارية حيز في صفحاتها؛ ما موّل استمراريتها. وكان لتعليم المرأة الذي بدأ في البلاد عام 1928 دور في تشجيعها على الكتابة والمشاركة بالصحيفة أيضاً.
أما الجريدة الرسمية، فوزعت أولى أعدادها في 22 مايو (أيار) من عام 1948، وما زالت تصدر إلى اليوم عن هيئة شؤون الإعلام.

مهنة المتاعب في القرن الماضي
«كان القرن العشرين حافلاً بالحركات الثقافية العربية والعالمية، وكان البحرينيون من أوائل المتواصلين مع هذه الحركات معرفياً، بما كانوا يملكون من وسائل إعلام، ومكتبات نشيطة وزاخرة بمختلف أنواع المعارف والصحف والدوريات، ثم بنشاط حركة السفر والانتقال بحكم الموقع الجغرافي للبحرين، إضافة إلى انتشار أعداد كبيرة من الطلبة البحرينيين للدراسة في مختلف الجامعات العربية والأجنبية منذ وقت مبكر». هكذا لخصت رجب الجو العام في البحرين خلال القرن الماضي. الصحف بدأت في التكاثر والتطور كسائر البلاد منذ الخمسينات. وضع البحرين حينذاك في التزام مع ضرورة تحديث المنظمات الإعلامية دون توقف، فتطورت لتكون البلاد أحد رواد الصحافة والبث الإذاعي والتلفزيوني الخليجي والعربي.
وتركيزاً على الصحافة المطبوعة، نتذكر صحف القرن الماضي بدءاً من الخمسينات منها مجلة «صوت البحرين» (1950 - 1954) الأدبية الشهرية التي اهتمت بالقضايا المحلية والعربية، وجريدة «الخميلة» (1952 - 1954) الثقافية التي كان رئيس تحريرها ومؤسسها العراقي كارنيك جور ميناسيان، الذي حرص على الابتعاد عن السياسة والتوجه القومي في المنطقة في حينها، وجريدة «القافلة» (1952 - 1954) التي أسسها مجموعة من المثقفين البحرينيين، وجريدة «الوطن» (1955 - 1956) التي أوقفت عن الصدور لعدم التزامها بالتعليمات والقوانين، و«الميزان» (1955 - 1956) التي حملت نزعات قومية وعانت من الرقابة، وجريدة «الخليج العربي» (1956 - 1961) التي صدرت عن شركة الخليج المحدودة، إحدى فروع شركة «التايمز» للطباعة والنشر المحدودة بالعراق، وتوقفت لعدم الربحية، ومطبوعات كثيرة غيرها.
عقد الستينات كان شاهداً على ولادة مطبوعات أخرى، منها جريدة «الأضواء» التي انطلقت عام 1965 حتى عام 1993 وكانت أول صحيفة سياسية تصدر في البحرين بعد توقف الصحف المحلية عام 1956. وكانت مقالات رئيس تحريرها محمود المردي تمتاز بصراحتها وسخونتها. كما اشتهرت مجلة «صدى الأسبوع»، التي صدرت عام 1969 وتوقفت عام 2004. عُنيت المجلة بأحداث الأسبوع، واهتمت بالشؤون المحلية والعربية والدولية في شتى المجالات.
مطبوعات السبعينات اتخذت طابع التخصص، ولمعت الصحافة الرياضية بمجلة «الرياضة» (1974 - 1987) ومجلة «الملاعب» (1978 - 1979). المجلتان قامتا بالاهتمام بالشؤون الرياضية والشبابية وتغطية النشاطات والمسابقات الرياضية المحلية والخارجية لمختلف الألعاب.
دخلت الألوان والورق المشمع والجماليات إلى صناعة المطبوعات في البحرين في ثمانيات وتسعينات القرن الماضي، كما تطور المحتوى ليصبح أكثر وقتية وشمولية. وكان عام 1989 شاهداً على ولادة جريدة «الأيام» العريقة. وهي مطبوعة يومية سياسة جامعة ترأس تحريرها نبيل يعقوب الحمر ويرأس تحريرها حالياً عيسى الشايجي.
وساهم التطور الإعلامي في تلك الفترة بالتأثير المباشر على جميع جوانب الحياة في البلاد. وعن ذلك تقول: «كان لكل ذلك تأثير مباشر على تأسيس الأحزاب والحركات والتنظيمات الفكرية والسياسية في البحرين، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين تماماً كما كان عليه الحال في كبريات العواصم العربية والعالمية، التي اهتمت بالعملية الثقافية والفلسفية في دعم الحراك السياسي». وتضيف: «لربما كان مقاومة الوجود الاستعماري أحد أهم دوافع الشعب البحريني في هذا الحراك المعرفي والإعلامي والسياسي النشيط، أسوة بباقي دول المنطقة في فترة المد التحرري واليساري والقومي، بجانب تطلعات هذا الشعب في بناء دولة حديثة ونهضة حضارية عصرية».

صحف القرن الحادي والعشرين
مع بداية القرن الواحد والعشرين، الذي تزامن مع تولي الملك حمد بن عيسى الخليفة مقاليد الحكم في البحرين، وانطلاق مشروعه الإصلاحي الكبير الذي شمل كل مرافق الدولة والحياة في البلاد، حاز الإعلام نصيباً كبيراً من اهتمامات هذا المشروع.
وعن ذلك، تكشف رجب عن أن «بند إطلاق الحريات العامة، وحرية الفكر والتعبير عن الرأي بشكل خاص، كان من أهم بنود الدستور البحريني الذي تم تعديله في عام 2002، بعد استفتاء شعبي شامل على مشروع الإصلاح، الذي حاز إجماع المستفتين». وتضيف: «كان من نتائجه الجوهرية ظهور المزيد من الصحف والمجلات والأقلام الصحافية الوطنية لتبدأ الانطلاقة الأهم في مسيرة هذا الإعلام، الذي كان يعاني في العقود الأخيرة من القرن العشرين من ضغوط سياسات الحرب الباردة، كما كان شأن الإعلام العربي عموماً».
وخلال العقد الأول من القرن، دب نشاط كبير في الصحافة البحرينية، من حيث أعداد الصحف وأقلام الرأي والخبر، واستمدت الصحافة من هذا النشاط قوتها وسلطتها بما يتناسب مع بناء المرتكزات الضرورية للتحول الديمقراطي الذي هو من صميم المشروع الإصلاحي.
وانطلقت إثر ذلك صحف عدة، منها جريدة «الوسط» اليومية المستقلة (2002) و«العهد» الأسبوعية الاجتماعية (2003 - 2012)، و«الميثاق» اليومية الشاملة (2004 - 2010)، و«الوطن» اليومية التفاعلية (2005)، و«الوقت» اليومية السياسية (2006 - 2010)، و«النبأ» الأسبوعية (2008)، و«البلاد» اليومية الشاملة (2008).

تحديات الحاضر والمستقبل
تواجه الصحافة والمطبوعات الورقية اليوم في جميع أنحاء العالم تحديات في ظل تضاؤل النشر والتطور التكنولوجي. وعندما يأتي الموضوع للصحافة البحرينية، تقول رجب: إن «المشهد الصحافي والإعلامي في البحرين يحتاج اليوم إلى مزيد من التطوير في مستوى البنية التنظيمية والتشريعية وعلاقتها بالتطور التكنولوجي السريع». وتضيف شارحة: إن «قانون الصحافة والطباعة والنشر لسنة 2002، هو، إلى حدّ اليوم، القاعدة التشريعية الأساسية التي تنظم قطاع الصحافة والإعلام في البحرين، إلا أنه أصبح لا يتماشى مع التطورات الحديثة والممارسات الجديدة للصحافة والإعلام التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بانتشار شبكات الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي». وتستطرد: «التغيير الجذري لمفهوم الجمهور الذي لم يعد مستهلكاً سلبياً للأخبار والبرامج، بل أصبح مشاركاً وصانعاً ومنتجاً لهذه الأخبار والبرامج ضمن ما توفره له منصات المضامين الرقمية المفتوحة والمجانية من إمكانات نشر وتوزيع غير مسبوقة».
ومن الناحية التشريعية أيضاً، ورغم الجهود المبذولة لإصدار نصوص تشريعية تنظيمية تجاري التطور التكنولوجي السريع، مثل السماح للمؤسسات الصحافية باستخدام الفيديو ضمن ضوابط معيّنة، فإنها تبقى حلولاً ترقيعية لا تعالج المسألة في شكلها الجوهري، بحسب رجب.
من جانب آخر، ربما تبقى مسألة ربط تنظيم مواقع الإنترنت الشخصية واستخدامات وسائل التواصل الاجتماعي بالتشريعات المنظمة لوسائل الإعلام، أي المؤسسات الإعلامية، أكبر خطأ استراتيجي. فالممارسات الرقمية الفردية تختلف اختلافاً جذرياً عن الممارسات الرقمية المهنية، ولا يجب في أي حال من الأحوال معالجتها أو تنظيمها في نفس مستوى التقييم والمحاسبة.
وتختتم حديثها بالإشارة إلى أن «هذه الإشكاليات لا تخص البحرين فقط؛ إذ إن أغلب الدول العربية وحتى بعض الدول الأجنبية تعاني من هذه التحديات. وتبين بوضوح أن تنظيم مجال الصحافة والإعلام في ضوء التطورات التكنولوجية المتسارعة، وتداخلها الشديد مع مسائل حرية الرأي والتعبير، أصبح يرهق المشرعين والسياسيين على حدّ سواء».


مقالات ذات صلة

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق صورة تذكارية لعدد من أعضاء مجلس الإدارة (الشركة المتحدة)

​مصر: هيكلة جديدة لـ«المتحدة للخدمات الإعلامية»

تسود حالة من الترقب في الأوساط الإعلامية بمصر بعد إعلان «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» إعادة تشكيل مجلس إدارتها بالتزامن مع قرارات دمج جديدة للكيان.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.