جمال الغيطاني: ليت جمال عبد الناصر قرأ نجيب محفوظ لتجنب الكثير من الأخطاء

قال لـ {الشرق الأوسط} إن مصطلح الربيع العربي مصطلح مشبوه وملعوب به

جمال الغيطاني
جمال الغيطاني
TT

جمال الغيطاني: ليت جمال عبد الناصر قرأ نجيب محفوظ لتجنب الكثير من الأخطاء

جمال الغيطاني
جمال الغيطاني

عرف جمال الغيطاني بمشروعه الروائي الجريء الذي استلهم فيه التراث المصري ليخلق عالما روائيا معاصرا يعد اليوم من أكثر التجارب الروائية نضجا في المنطقة العربية. وبالإضافة إلى جهده الروائي، عمل الغيطاني في الصحافة الأدبية، إذ ترأس تحرير جريدة «أخبار الأدب» على مدار 17 سنة، ونجحت الجريدة في التحول إلى منبر ثقافي، مصريا وعربيا. ولكن هذا الانغمار في الحياة الإبداعية يمنع صاحب «أوراق شاب عاش منذ ألف عام»، و«الزيني بركات»، و«دفاتر التكوين» بأجزائه الثلاثة، وغيرها كثير، من المساهمة في الحياة السياسية والعامة، كما نرى في هذا الحوار معه، الذي يتناول شؤونا سياسية وظواهر وقضايا ثقافية كثيرة:
* لنبدأ من المشهد الحالي.. كيف تراه؟
- أنا متفائل بحذر، والحذر لإدراكي وجود إصرار دولي بمساندة عناصر محلية داخلية على إسقاط الدولة. وأنا لا أتكلم عن تغيير نظام، فلأول مرة في تاريخ مصر الحديث، وربما القديم أيضا، نتعرض لعملية إسقاط دولة، وليس تغيير نظام، فالأنظمة تأتي وتذهب، ومثال على ذلك ثورة يوليو (تموز) التي أسقطت نظاما، لكنها لم تدمر أجهزة الدولة، بل إن جمال عبد الناصر قام بإجراءات لتقوية الدولة، لكن في ثورة يناير (كانون الثاني) مرت أحداث تكشفت حقيقتها في ما بعد، واتضح أن هناك تلاعبا في اتجاه هدم الدولة والشعب هو الذي قام بحماية الدولة. وكي نفهم ما نحن فيه الآن لا بد أن نستعرض الأمر من لحظة ثورة يناير التي شهدت خروجا حقيقيا للناس، لكن دخل على الخط عناصر مريبة لم تكن ظاهرة، وبعضهم ما زال مستمرا حتى الآن، كما أنه في الفترة السابقة على ثورة يناير مباشرة عادت وجوه من الخارج وظهرت فجأة، وكان أشهرهم محمد البرادعي، واتضح في ما بعد أنهم مرتبطون بخيوط لا تنتهي في مصر، وهذه الوجوه ما زالت مستمرة إلى الآن تحت اسم الليبرالية والديمقراطية، ومنهم أيضا الإخوان الذين ظهروا في ميدان التحرير، وفى موقعة الجمل، وفى الجمعة التي أطلق عليها «جمعة قندهار»، التي رفعوا فيها أعلام «القاعدة» السوداء انتهاء بتولي مرسى، ثم سقوط الإخوان في ثورة جديدة لا نستطيع أبدا أن نقول إن فيها عناصر مريبة، فقد قامت لظروف خاصة عندما اكتشف الشعب أنه يجرى جرفه لمنطقة بعيدة، فكانت ثورة شعب حقيقية انضم فيها الجيش إلى الناس، وأثبتت أن للشعب المصري دوره وكلمته للقضاء على مخطط كوني برعاية الولايات المتحدة، ولكن ما أراه الآن هو استمرار محاولات الإيقاع بالدولة المصرية، وأن الروح المصرية التي لمسناها في 30 يونيو (حزيران) تقل تدريجيا وتتضاءل، وهذا ما أخشاه، لكن في الوقت نفسه هناك ما يطمئن ويتمثل في أن وعي الشعب المصري أعلى من بعض النخبة ممن يتاجرون بالشعارات الليبرالية والقومية.
* هل ترى هذه التوابع من أثر الربيع العربي؟
- هذه الكلمة لا أستريح لها فهي مصطلح مشبوه وملعوب به، كما أنها عبارة لم تخرج منا، والمسألة بدأت في تونس بينما كان الهدف مصريا على أساس أنها رمانة الميزان في المنطقة.
* إلى أي مدى ترى أهمية انخراط الأديب في الواقع السياسي؟ وكيف يوائم بين ذلك وبين متطلبات الكتابة الإبداعية، ومنها حاجته للاختلاء بنفسه؟
- الأديب لا يمكن أن ينفصل عن الواقع السياسي. وكان تشرشل في الحرب العالمية الثانية يدعو الأدباء إلى اجتماعاته ليستمع إليهم، لأن قراءة الأدب والاستماع إلى أصوات الأدباء يفيد في استشراف المستقبل. ولو كان عبد الناصر قرأ روايات نجيب محفوظ لكان حذرا من حدوث ما حدث في النكسة، فالأديب يرى بعين شاملة ورؤية بانورامية أوسع، أما السياسي فيركز على التفاصيل فقط. وأنا منذ بداياتي لا أنفصل عن الواقع وأعمالي تمزج بين الخيال والواقع في خطين متوازيين.
* لكنّ هناك كثيرا من أعمالك ومنها دفاتر التدوين تميل للانغماس أكثر في الذات.
- هناك أحداث وظروف تدفع الإنسان للانغماس في الذات وقد عشت هذه التجربة مع تقدمي في العمر رغبة في حماية نفسي، وإعادة لبناء الحياة بأقصى سرعة من خلال الذاكرة لإدراكي معنى قصر العمر والفناء. وكانت مرحلة دفاتر التدوين بأجزائها تنتمي إلى هذه الحالة.
* كيف تقيّم إبداعات ثورة يناير؟ وهل تتناسب مع ضخامة الأحداث؟
- بالعكس هناك حالة من الكتابة لم تكن موجودة في عصر الستينات الشهير بالزخم الإبداعي. لا شك أن فترة الستينات كان هناك إنتاج ضخم من الإبداعات المتنوعة في مختلف المجالات رغم حالة القمع التي كانت موجودة، ومع ذلك فأنا أرى أن هناك كتابات كثيرة، وأكثر من ذلك الوقت، ولكنها تحتاج لمن يقيمها، بمعنى أن الحركة الإبداعية تسير على قدم واحدة.
* أي أن هناك قصورا في النقد؟
- نعم، فلا توجد حركة نقدية ذات مصداقية، وتعتمد حركة الإبداع على الذائقة، هناك متغيرات عصرية تتمثل في أن الشباب الجديد ينشرون على الإنترنت رواية مثلا، ويكون لها جمهور من الشباب، ثم يشترون الكتاب عندما ينشر، ولو قرأنا أرقام التوزيع لوجدنا الرواية رقم واحد على حساب الكتب السياسية والتاريخية، بينما تراجع الشعر تماما وصار في المؤخرة على الرغم من الازدهار الشديد لحركة الشعر العامي في فترة التسعينات لدرجة أننا لم نكن نستطيع متابعة حركته بسبب غزارة الإنتاج وقتها في الشعر وأيضا في القصة القصيرة.
وهناك كم من المواهب كبير جدا، والأمر يتوقف على مهارة الأجهزة الثقافية في أن تخدم هؤلاء المبدعين، لكنني للأسف ألاحظ أن الأجهزة الثقافية لا تزال تعمل وفق منطق «اللي معايا واللي ضدي»، بل إن المسؤول الثقافي يحكّم ذائقته الخاصة وأهواءه الأدبية، فيقاوم وجود البعض لمجرد أنه غير معجب به مثلا! والمفروض أن تتحول وزارة الثقافة إلى داعم للثقافة وليس منتجا لها، ولذلك أدار الشباب لها ظهورهم، والدليل على كلامي أن نتاجات أحسن المبدعين الشباب لم تخرج من الأجهزة التابعة للوزارة وإنما خرجوا من دور نشر خاصة مثل ميريت، هناك ظواهر إبداعية شبابية جديدة تحتاج إلى رؤية بعين مختلفة ولا بد من تشجيعهم.
* هل أنت راض عن الاتجاهات الجديدة في الكتابة الروائية؟
- بحكم عملي الطويل في أخبار الأدب واكتشافي للأجيال الجديدة من الأدباء، فإنني أرى أن هناك ثورة قوية في الكتابة بعد 25 يناير على أيدي كتاب شباب يحتاجون إلى من يرعاهم ويهتم بهم.
* بمناسبة الحديث عن إبداعات الشباب، ما رأيك في ظاهرة انتشار كتابات بلغة سوقية وقد تتضمن شتائم أو خروجا عن الآداب العامة؟
- بداية أنا ضد أي منع أو مصادرة للإبداع وضد أي تدخل رقابي على الكتابة، فالأدب ينقي نفسه بنفسه. وحتى ونحن في اجتماع المجلس الأعلى للثقافة اشتكى بعض الزملاء من الألفاظ الخارجة التي وردت في بعض مسلسلات رمضان هذا العام، فقلت لهم بشدة وحزم إن الذي يريد الاعتراض فليكتب مقالا، ولكن لا نتخذ أي إجراء وإلا فكأن المجلس جاء ليمارس دورا رقابيا! الكتابة الجيدة هي التي تبقى، وكلما ارتفع سقف الحرية وجدنا قيمة أكبر.
* ما تفسيرك لهذا التراجع في الشعر لصالح الرواية؟
- ربما لأن الشاعر بشكل عام إذا لم يجد مردودا إيجابيا لا يستمر وكل فرد لديه قدرة محدودة على المقاومة والإصرار، على عكس جيلنا الذي كان يقاوم ويصر حتى يصل إلى درجة أنه في الثمانينات، وكان الرأس قد امتلأ شيبا، كانوا لا يزالون يطلقون علينا «الأدباء الشبان»، كان مصطلحا يتضمن تيمة وليس مجرد وصف حتى توليت صحيفة «أخبار الأدب» في صحيفة الأخبار، وكنت أول يساري يتولاها، فقمت بتغيير هذا النهج.. مع جريدة «أخبار الأدب» اختلفت المسألة تماما.
* كيف تنظر إلى تجربتك في هذه الجريدة؟
- على مدار 17 سنة نجحت مع زملائي في خلق منبر ثقافي في فترة تراجع ثقافي لمصر عوض غيابها في العالم العربي، فأصبحت «أخبار الأدب» موجودة في العالم العربي من المغرب حتى اليمن ودول الخليج. ومن واقع خبرتي بالعمل الثقافي، فإن أي مطبوعة ثقافية تتجاهل الثقافة العربية ككل يكون محكوما عليها بالفشل.
إلى جانب التغطية الصحافية للنص الجيد فلا يوجد اسم في مصر والعالم العربي إلا ومر على أخبار الأدب طبعا مع وجود العمالقة العرب الكبار مثل أدونيس وعبد الوهاب البياتي أو محمود درويش أو سعدي يوسف.
* هل تعتقد أن تجارب الصحف الثقافية المتخصصة الأخرى التي ظهرت في العالم العربي نجحت أم أن النجاح قلما يحالف الصحف الثقافية في منطقتنا العربية؟
- هناك تجارب ناجحة مثل مجلة «الآداب» التي أسسها الراحل سهيل إدريس في لبنان، وكذلك فترة وجود رجاء النقاش في «الدوحة»، أيضا هناك مجلة «العربي» الكويتية وهي مجلة ثقافية عامة، وإن كانت ضعفت إلى حد ما. وهنا أود الإشارة إلى الدور الكويتي الثقافي الكبير سيما قبل الغزو العراقي، فالكويتيون هم الذين احتضنوا سلسلة المسرح العالمي عندما أوقفتها مصر في عهد السادات، وفي هذا الإطار يجدر بنا الحديث عن الدور الثقافي السعودي. ونحن في أخبار الأدب كنا نهتم كثيرا بالأدب السعودي ونشرنا للكثير من الكتاب السعوديين، فالنص الجيد يجد من يدافع عنه في أي مكان.
* ما رأيك في ظاهرة الكتاب الذين يهبطون علينا من الخارج لمجرد حصولهم على جائزة ويحققون الشهرة والانتشار على أثر ذلك؟
- للأسف الشديد سياسة «الأكثر مبيعا» التي تبنتها إحدى كبريات الدور في مصر أساءت للإبداع، بل أراها سياسة مدمرة وأتصور أنها ليست بريئة. فلا يمكن أن يقيم المبدع بحسب ما باع من كتابه وليس بسبب جودته، وللأسف الشديد أن إحدى تلك الروايات وصلت إلى جائزة البوكر. وهنا أود الإشارة إلى شيء أن جائزة البوكر فكرة جميلة جدا لكنها أحدثت خللا في الحياة الأدبية العربية، فمن المعروف أن البوكر في إنجلترا تقدم الأدب الجديد بينما نجد أن أول من حصل عليها في المنطقة العربية هو الكاتب بهاء طاهر، وهو كاتب كبير، ثم تلاه كاتب صغير، فليس هناك ثبات في هذه المسألة، أيضا تتبنى البوكر ترجمة العمل إلى اللغات الأجنبية وتدفع المقابل، وهو ما يخلق تقليدا يضر الكاتب الجيد الذي لم يفز بالبوكر ولا يمتلك مالا يدفعه لترجمة أعماله؛ مما يخلق أجواء منافسة غير عادلة. وأنا أذكر أن نجيب محفوظ في فترة الخمسينات لم يكن يطبع أكثر من ألفي نسخة على مدار عامين وفي نفس ذلك الوقت ظهر كاتب يدعى عزيز أرماني باع رواية في ربع مليون نسخة، وكانت تحمل عنوانا مثيرا وغلافا مثيرا أيضا، ورغم هذا البيع لم يعتبره أحد أديبا. وحتى الآن أرى أن أفضل جائزة هي التي قدمتها الإمارات وهي جائزة سلطان العويس، لأنها أنزه جائزة عربية في الأدب، فلا يمكن إيجاد ملاحظة واحدة على اختياراتها في أي سنة، لأن معاييرها صارمة، وهناك جائزة أخرى لم تدخل مجال الأدب، لأنها في العلم، وهي جائزة الملك فيصل، وكنت أتمنى أن تدخل مجال الأدب أيضا لأهميتها ونزاهتها. ولكن هناك جوائز بدأت عملاقة مثل جائزة الشيخ زايد وأدعو القائمين عليها إلى حمايتها بما يتناسب مع اسم الرجل الذي تحمله، وبشكل عام أعترف أن منطقة الخليج أصبحت مؤثرا ثقافيا مهما جدا في العالم العربي، وأنا أحيي هذا الجهد.
* من واقع تجربتك العملية هل يفيد العمل الصحافي الأديب أم يضره؟
- الصحافة مهنة خطرة على الأدب، ولكن إذا نجح الأديب في توظيفها لصالح الأدب، فإنها يمكن أن تفيده بشرط أن يضع الأديب حدودا للصحافة. ولو تسألينني عن أكثر فترة استفدت فيها من الصحافة، لقلت لك إنها كانت خلال عملي كمراسل حربي، لأنها تجربة نادرة وثرية، وكانت فرصة مهمة جدا لي كأديب، كانت فترة الحرب تلك من أفضل اللحظات التي عشتها في حياتي رغم مخاطرها ومتاعبها كمراسل موجود في قلب النار.
* رغم ذلك لم تكتب كثيرا بما يتناسب مع معايشتك لتلك التجربة؟
- بالفعل لم أكتب كثيرا عن هذه الفترة بسبب صدمتي من توابع القرارات التي اتخذها السادات بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول)، وعندما كتبت «حكايات الغريب» مثلا كانت مرثية للحرب.
* كنت أقرب الناس للأديب نجيب محفوظ، ماذا تذكر عن تلك الفترة؟ وكيف أثرت عليك كمبدع وإنسان؟
- في الكتابة أنا مختلف عن نجيب محفوظ، وعلاقتي بنجيب محفوظ أساسها بعدها الإنساني وانبهاري به كروائي كبير، نجيب محفوظ قامة أدبية كبيرة ولكني أتحداك أن تجدي كتبه كلها الآن، للأسف! لقد انبهرت به ككاتب قبل أن أعرفه وتعرفت عليه وعمري 14 سنة، فكانت علاقتي به علاقة ابن بأبيه لدرجة أن أسراري كانت معه. كانت لديه نظرة كونية عميقة.
* ربما كان ذلك لدراسته الفلسفة؟
- هناك كثير من الأدباء درسوا الفلسفة لكنهم لم يصبحوا أدباء كبارا! نجيب كان لديه هذه النظرة الكونية بدافع همومه الأساسية. ما لم تكن هناك هموم داخلية في تركيبة الأديب فلن يكتب أشياء لها قيمة، الهم الأساسي الذي شغل نجيب محفوظ هو فكرة الأصل ونجدها في مختلف أعماله، ومنها «الثلاثية» و«أولاد حارتنا» و«الحرافيش»، كلها دارت عن المصدر أو الأصل، وهو الأب والذي جاء واقعيا في شخصية السيد أحمد عبد الجواد في الثلاثية، وجاء رمزيا في شخصية الجبلاوي في «أولاد حارتنا»، ومرة أسطوريا في شخصية عاشور الناجي في «الحرافيش»، فهو مهموم بشجرة الإنسانية وإلى أين تتجه.
* أيضا حديث «الصباح والمساء» كانت نموذجا لهذا النهج في أعمال نجيب محفوظ؟
- هذه الرواية مذهلة معماريا، وعندما قدمت للتلفزيون كتبها محسن زايد بشكل رائع وكان أحسن من يكتب السيناريوهات.
* قلت إنه لا بد للكاتب من هموم تشغله كي يبدع، فما هي هموم جمال الغيطاني التي تدفعه للكتابة؟
- منذ بدايتي وأنا مهموم بعنصر الزمان وهو اختزال للزمن ويعكس بوجهه الآخر عنصر المكان، ويرجع ذلك لحرصي الشديد على التمسك بحياة تضيع مني، خصوصا مع تقدم العمر.



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.