استراتيجية الإليزيه في القارة السمراء

كتاب فرنسي عن «العملاء الأعزاء» في أفريقيا

استراتيجية الإليزيه في القارة السمراء
TT

استراتيجية الإليزيه في القارة السمراء

استراتيجية الإليزيه في القارة السمراء

لا تزال القوى العظمى تتكالب على أفريقيا، ليس طمعاً في ثرواتها وخيراتها، وحفاظاً على مصالحها هناك، فحسب، وإنما لتعزيز مساحة النفوذ والقوة، وسط التغيرات التي طرأت على منظومة الصراع في العالم.
في إطار هذا التكالب، صدر بالمكتبات الفرنسية مؤخراً كتاب «عملاؤنا الأعزاء في أفريقيا» عن دار النشر الفرنسية الكبيرة «فيار» ليكشف النقاب عن أحد الجوانب التي استخدمتها القوى الغربية لتعزيز سيطرتها على القارة الأفريقية وهو الجانب الاستخباراتي.
يتناول هذا الكتاب عبر 240 صفحة من القطع المتوسط ملفاً خاصاً وحساساً، ينصب على العناصر الاستخباراتية السرية لفرنسا والمنتشرة في جميع ربوع القارة الأفريقية بين صحرائها وضواحيها ومدنها المختلفة، وكذلك أروقة المكاتب الرسمية المنتشرة في المدن الرئيسية بالقارة الأفريقية، وهو الأسلوب الذي نجح من خلاله الفرنسيون في بسط نفوذهم بالقارة الأفريقية، خاصة في شطرها الغربي ليوجهوا من خلال هذا الوجود الاستخباراتي السياسة الأفريقية الجديدة التي ترغب فرنسا في تنفيذها بأفريقيا، إضافة إلى ذلك، فإن النشاط الاستخباراتي الفرنسي في أفريقيا لم يتوقف عند هذا الحد، بل وصل إلى تدريب العناصر الاستخباراتية الأفريقية، الأمر الذي مكن فرنسا من تعزيز وجودها في القارة السمراء وبسط يدها هناك، بل بلغ الأمر مداه أن العناصر الاستخباراتية وصلت إلى حد معرفة بعض الملفات والمناطق الأفريقية أكثر من الأفارقة أنفسهم، وهو وضع سهل للفرنسيين الكثير في أفريقيا وأطلق أيديهم هناك، ليرسموا وينفذوا بذلك استراتيجية الإليزيه في أفريقيا.
وعلى جانب آخر، يؤكد مؤلفا الكتاب توماس هوفننج، وأنطوان جلاسير، على أن هذا الوضع لم يعد قائما في أفريقيا في القرن الواحد والعشرين، فلم يعد العملاء الفرنسيون يسيطرون وحدهم على القارة الأفريقية، فقد دخلت عناصر أخرى جديدة تزاحمهم الميدان مثل العناصر الاستخباراتية الصينية والإسرائيلية والروسية، بل وصل الأمر إلى دخولها في سباق محموم وشرس فيما بينها لدى الرؤساء الأفارقة لإمدادهم بالمعلومات الاستراتيجية التي تمكن القادة الأفارقة من البقاء في السلطة.
يكشف مؤلفا الكتاب النقاب عن التبادلات المدهشة بين القادة الأفارقة والعملاء الفرنسيين، حيث يستنطق المؤلفان بعض العناصر السرية السابقة التي كانت تتحلى بالصمت المعتاد لتوضح إلى أي مدى كانت للحروب التي خاضتها الاستخبارات الباريسية نتائج وخيمة في الميدان الأفريقي، ويؤكدان عبر صفحات كثيرة أن القارة الأفريقية لا تزال مطمعاً للقوى العظمى لما تتمتع به من مواد أولية فريدة وموارد بشرية هائلة. ولذلك، يدافع الكتاب عن ما تبقى من مصالح لفرنسا هناك من خلال شبكة فرنسا من العملاء السريين الذين يعملون في الظل في واحدة من أهم المناطق بالعالم بالنسبة للسياسة الفرنسية، ولذلك تصنف منطقة الغرب الأفريقي بالنسبة لفرنسا على أنها منطقة «دفاع سري» بالنسبة للإليزيه.
بالإضافة إلى ذلك، فإن كتاب «عملاؤنا الأعزاء في أفريقيا» يكتسب بعداً خاصاً ليس فقط لحساسية الملف الذي يتناوله، ولكن أيضاً لأن مؤلفي الكتاب متخصصان في الملف الأفريقي، فأنطوان جلاسير متخصص في الملف الأفريقي، وله خبرة فريدة في هذا الشأن، أما توماس هوفننج فهو مسؤول عن الملف الأفريقي بصحيفة «ليبراسيون» الفرنسية، وأجرى سلسلة تحقيقات مطولة حول القارة الأفريقية، خاصة منذ عمليات التمرد التي شهدها ساحل العاج في سبتمبر (أيلول) 2002، إضافة إلى مؤلفاته الكثيرة حول أفريقيا، خاصة فيما يتعلق بثرواتها غير المستغلة بالقدر الكافي.
تاريخ النشاط الاستخباراتي الفرنسي:
يؤكد الكتاب على أن تاريخ النشاط الاستخباراتي الفرنسي في أفريقيا يعود إلى عهد الجنرال شارل ديغول الذي عهد بمهمة الاستخبارات الفرنسية في أفريقيا إلى رجله القوي جاك فوكارت الذي نجح في زرع أفراد شبكته الخاصة في أفريقيا لدى الحلفاء من الرؤساء الأفارقة، وهي الشبكة التي نجحت في بسط يدها على القارة الأفريقية إلى حدٍ كبير، لدرجة أنه انتشرت على إثرها مقولة «لا يمكن لذبابة أن تمر على أفريقيا دون جاك فوكارت». وبهذه الطريقة أضحى الرؤساء الأفارقة أنفسهم يمثلون مصدر معلومات هاماً للاستخبارات الفرنسية التي أحسنت بدورها استغلال هذا الوضع من خلال تمكين الرؤساء الأفارقة الموالين لها عبر ما تمدهم من معلومات استراتيجية تمكنهم من البقاء في السلطة، الأمر الذي عزز ولاءهم للإليزيه. وكانت هذه العناصر تتمتع بإفراط في المعلومات يؤهلها لتعزيز نظام أو إجهاضه أو صناعة المعارضين والموالين له، وهي موضوعات كانت تمثل جوهر حوارات بين هذه العناصر الاستخباراتية والقادة الأفارقة داخل أروقة القصور الرئاسية... وفيما يتعلق بالملفات الحساسة للغاية، فإن مدير جهاز الخدمة الخارجية بالاستخبارات الفرنسية هو الذي يتوجه شخصياً أو أحد مساعديه إلى أفريقيا، خاصة عندما تتعقد العلاقات الدبلوماسية مع بعض الدول الأفريقية مثل السودان على سبيل المثال، حيث تتولى الاستخبارات الفرنسية وحدها هناك الملفات الهامة مثل الإرهاب والهجرة، إضافة إلى المعرفة الدقيقة لشبكات العناصر الاستخباراتية في دول الجوار.
وفيما يتعلق بالدول الصديقة لباريس مثلما الحال في أفريقيا الوسطى، فيتولى عقيد من جهاز الخدمة السرية التابع للمخابرات الفرنسية ملف العلاقات بين الجانبين ويلتقي يومي الثلاثاء والخميس من كل أسبوع بشكل دوري ومعتاد مع الرئيس تواديرا، رئيس أفريقيا الوسطى، وقبل الموعد المحدد بشكل دائم يؤكد لسكرتيره «سأتناول الفستق مع تواديرا». في إشارة منه إلى اعتيادية اللقاء.
وفيما يتعلق بالكوادر الدبلوماسية الفرنسية المتجهة نحو أفريقيا، فيتم اختيارها بعناية فائقة، محددها الأساسي في الاختيار يكمن في طابعها وميولها الاستخباري، بالإضافة إلى أن الرجل الذي يشغل منصب المستشار الثاني بالسفارة يكون تابعاً للاستخبارات. وفيما يتعلق بالسفير الفرنسي في أي من الدول الأفريقية، فيجب أن يتمتع بسيرة ذاتية ذات أبعاد استخباراتية. طبيعة الوجود:
من الواضح أن الاستخبارات الفرنسية تتمتع بقوة نافذة في كثير من الأحيان في قلب القارة الأفريقية، إلا أن هناك بعض الدول التي تتمتع بخصوصية، ومن ثم خرجت عن هذه القاعدة مثل الجزائر التي تمثل دائماً معضلة كبرى بالنسبة لفرنسا، ففي الوقت الذي كانت تتحرك فيه العناصر الاستخباراتية الفرنسية في الجزائر، كانت العناصر الجزائرية تتحرك هي الأخرى على الأراضي الفرنسية، أي أنها تعمل في اتجاه مضاد من أجل إجهاض عمل جهاز الخدمة الخارجية الفرنسية، وهو وضع لم يُسهل من شأنه من طبيعة العلاقات المركبة والمعقدة بين الجانبين في ظل الوجود العسكري الفرنسي في مالي.
ويرصد الكتاب معاقل تاريخية كثيرة للاستخبارات الفرنسية في أفريقيا مثل جيبوتي وأفريقيا الوسطى، ففيما يتعلق بجيبوتي، يعد الرئيس إسماعيل عمر جيلاه أول رئيس دوله أفريقي يُدعى من قبل الرئيس الصيني نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، عقب إعادة انتخابه على رأس الحزب الشيوعي الصيني ليقع الضيف الأفريقي في سحر العاصمة الصينية بكين. ويعود الاختيار الصيني لجيبوتي كونها تمثل نقطة الاختراق الأولى لأفريقيا، ولذلك تتمتع الصين هناك بـ«شبكة عملاء سريين قوية للغاية» أكثر نشاطاً من برلين أيام الحرب الباردة.
وفيما يتعلق بالجابون، فتمثل أهمية استراتيجية كبرى لباريس ليس فقط من أجل مصالحها في القارة الأفريقية، ولكن أيضاً من أجل علاقات فرنسا السرية مع بعض دول الجوار في هذه الاستراتيجية مثل إيران لتحقيق هدف ثلاثي الإبعاد، فاليورانيوم الجابونى يُسلم لمصنع تخصيب يوروديف التي تساهم فيه إيران منذ عهد الشاه في سبعينات القرن الماضي وبالتالي، فمع وصول الرئيس عمر بونجو لسدة الحكم لم يكن يتمتع بوضعية الرئيس التقليدي، ليس فقط لأنه يمول رجال السياسة الفرنسيين، ولكن أيضاً كونه حافظ أسرار دفاعية واستراتيجية كثيرة، هذا بالإضافة إلى علاقته الوثيقة بالاستخبارات الفرنسية.
ويخلص الكتاب إلى أن أفريقيا في القرن الواحد والعشرين بدأت تشهد الكثير من التغيرات، لا سيما ما يتعلق بعالم الجاسوسية الغربية على أراضيها، وإذ بدأ يتوارى الاحتكار الفرنسي في هذا الشأن، وبدأت الصين تدخل هي الأخرى نطاق تدريب وتأهيل ضباط الاستخبارات في كثير من الدول الأفريقية وعلى رأسها جيبوتى. وفيما يتعلق بأفريقيا الوسطى، فقد كان العقيد جون كلود مانتيون التابع للاستخبارات الفرنسية يتمتع بنفوذ كبير يتجاوز نطاق اختصاصاته الأمنية، وكذلك نطاق عمله خاصة في الفترة من 1982 حتى 1993، إلا أن هذا الوضع لم يستمر حتى الآن، لتنقلب الأمور لصالح موسكو التي تحمي بدورها الرئيس تواديرا، بل وصل الأمر إلى أنه محمي من نحو 50 فرداً من القوات الخاصة الروسية، في إطار تسليم سلاح محظور من قبل الأمم المتحدة. كما تم توقيع اتفاق عسكري بين موسكو وبانجي نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2017، فالروس، الذين يؤهلون فرقتين من القوات بآسيا الوسطى يقدر قوامهم بـ1300 فرد، قد أقاموا رئاسة أركانهم في قلب قصر بيرنجو التابع للإمبراطور الأسبق لأفريقيا الوسطى جون بيدل بوكاسا.


مقالات ذات صلة

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم