«جسور الحُب» لا تحمِّل الأبناء وزرَ ما ارتكبه الآباء

رواية عربية عن حريق برج «غرينفيل» بلندن

«جسور الحُب» لا تحمِّل الأبناء وزرَ ما ارتكبه الآباء
TT

«جسور الحُب» لا تحمِّل الأبناء وزرَ ما ارتكبه الآباء

«جسور الحُب» لا تحمِّل الأبناء وزرَ ما ارتكبه الآباء

تهيمن أجواء الحُب والهجرة والضياع على رواية «جسور الحُب، غرينفيل تاوَر» لمريم مشتاوي، الصادرة عن «دار المؤلف» ببيروت، وهي العمل السردي الرابع في رصيدها الروائي الذي بدأ يستوفي اشتراطاته الفنية، وينمو بشكل عضوي على صعيد الثيمة والأحداث والشخصيات. فقد بدت هذه الرواية المحبوكة مُقنعة للقارئ، ومُحفِّزة له كي يغوص في أحداثها الرئيسة، وينبش في تفاصيلها الزمكانية، فهي رواية زمان ومكان، مثلما هي رواية حُب، وسفر، وغربة، وموت، وفقدان عاطفي، وعودة إلى النبع الأول.
تنطلق أحداث الرواية من مدينة قسنطينة، أو سيرتا باسمها الأمازيغي، مدينة الجسور المعلّقة التي تحتضن بعض الشخصيات الأساسية للنص الروائي، مثل بايا وحبيبها الأول تقي الدين، والحلقة الضيقة من الأهل والأقارب، والسيدة البريطانية كليونا وايت التي تعتبرها الراوية بايا مولاتها وأمها الثانية، التي فتحت لها باب الأمل على مصراعيه.
لا تبدو قصة الحُب التي نشأت بين بايا، الفتاة الجميلة وتقي الدين، الشاب الوسيم، استثنائية، فهناك آلاف وربما ملايين القصص المشابهة لها؛ لكن هناك سرّاً ما سوف تكتشفه بايا لاحقاً، رغم أنها شخّصته بحدْسها، وقوة فطنتها وبصيرتها الداخلية، حين تساءلت في سرّها بما معناه: ما مصدر جماله إذا كان أبواه قبيحين إلى حدّ اللعنة؟ ولو أضفنا إلى هذا التساؤل طلب جدتها الأمازيغية رقيّة الأورغليّة ألا ترتبط بايا بتقي الدين مهما كانت الأسباب؟ هذان التساؤلان سوف يضعان القارئ أمام مفاجأة غير متوقعة، تمنح النص السردي نكهة خاصة ومغايرة، وتثير فينا أسئلة فكرية وثقافية عميقة، تدعونا فيها ألا نحمّل الأبناء وزرَ ما ارتكبه الآباء.
هناك شخصية مؤازرة هي كيلونا وايت، زوجة السفير البريطاني سيمون وايت؛ لكنها تُسهم في بناء الشخصيتين الرئيستين: بايا وتقي الدين، قبل أن تَلقى حتفها متأثرة بمرض عضال. فهي التي علّمت بايا النظافة، والعناية بالمظهر والمَخبَر، والاهتمام بالروح، وهيأت لها سبيل السفر إلى لندن، بحجة «أن المسافة بين العشّاق ضرورية بين حين وآخر»، كما التقت بتقي الدين لمدة نصف ساعة، خرج إثرها متجهماً ولم نعرف بطبيعة الحوار الذي دار بين السيدة البريطانية والشاب الوسيم، الذي كان عليه أن ينتظر سنتين على الأقل، قبل أن يفكر في الزواج من حبيبته التي كان يتغزّل بها ليل نهار.
تنجح مريم مشتاوي في الإمساك بروح المكان، ففي الفصل الأول نتعرف على مدينة قُسنطينة بحاراتها، وشوارعها، وجسورها، ومساجدها، وأكلاتها الشعبية، وسوف يعرف القارئ حي السويقة، وجسر سيدي راشد، وأكلات شعبية مثل الكسكس، والتختوتة، والرفيس التي تُحيل إلى قسنطينة تحديداً، أو الجزائر بشكل عام. وسوف تمسك بروح المكان حيثما تنقلت في لندن؛ سواء في بيت مارغريت، أو في شارع بورتبيلّو، أو في برج غرينفيل، وغيرها من الأماكن التي عاشت فيها أو شاهدتها بطلة النص، التي أخذت تنضج، وتزداد خبرة كلما تقدمّت بها الأعوام.
يكتظ الفصل الثاني بكثير من الشخصيات، وأولها يونس «الثرثار» الذي كان يجلس إلى جوار بايا في الطائرة، وما إن سألته سؤالاً عابراً حتى سرد لها قصة حياته، فعرفنا أنه متزوج من امرأة فرنسية طلّقها بعد سنة من الزواج، ويمتلك محلاً للأشغال اليدوية، وقد أعرب عن استعداده لمساعدتها لأنها غريبة، ولا تجيد الكلام باللغة الإنجليزية، وسوف يجد لها عملاً وسكناً في يوم واحد؛ لكنه جذبها إليه في السيارة وحاول تقبيلها، فهربت منه، فتدارك الأمر واعتذر لها عن سوء الفهم، واعتقد أنها معجبة به. وسوف يظل هذا الحب قائماً من طرف واحد؛ لأنها فشلت في أن تحبه، ونجحت في أن تصبح صديقة له، بحجة أن «للصداقة عمراً أطول من عمر الحُب».
نتعرّف على شخصيات أخرى، أهمها العم إدريس، القادم من قسنطينة أيضاً، وسوف يستذكر مع بايا مجازر 8 مايو (أيار) 1945، ويسرد لها قصة جدتها رقيّة الأورغليّة، التي ضربت ذات يوم صديقة طفولتها أم رابح؛ لأنها كانت ترقص في كازينو الوادي للضباط والجنود الفرنسيين، وتقيم معهم علاقات مقابل بعض الأموال. وعند هذه النقطة الحاسمة نكتشف أنّ تقي الدين يحمل جينات فرنسية ولكن ما ذنبه هو إن أخطأت الأم، وهل يحمل وزرها مدى الحياة؟
العمّ إدريس ليس بريئاً، ولا يزال مشاغباً على الرغم من كبر سنِّه، وسيعرّفها على لاجئَين سوريين، هما فراس وشقيقه باسل، وسوف تقع بايا في حب باسل من دون أن تعرف أنه مرتبط بفتاة يعشقها حدّ الجنون.
يُشكِّل الفصل الثالث منعطفاً خطيراً في الرواية؛ حينما تندلع النار في برج غرينفيل، فلقد سبق لها أن تعرّفت على مريم مسعود الطيهاني، التي أخبرتها من قبل بأن ابنتها «شهد» تسكن في الطابق الأخير من البرج مع ابنتيها الصغيرتين، وأن المهندس المعماري باسل، وسمر المرجان، والعم إدريس وعشرات السكّان من أصول مغاربية وأفريقية وآسيوية، يسكنون في هذا البرح السكني الذي التهمته النيران.
تأخذ قصة حبها لباسل شكل تساؤلات قصيرة صادمة، من بينها: «كيف يموت قبل أن أخبرهُ بحقيقة مشاعري تجاهه؟»؛ لكن هذا الذهول سرعان ما يتبدد؛ خصوصاً أن الموت كان يلتهم ضحايا البرح ويهزّ المملكة برمتها.
وبما أن هذا النص الروائي مليء بالمفاجآت، فإن العم إدريس الذي أحببناه كشخصية مشاكسة، لا يجد حرجاً في مداعبة النساء الجميلات، وجدناه حياً يُرزق ولم يمت في حريق البرج، كما تخيّل جميع أصدقائه ومعارفه المقرّبين منه، فقد أصيب بأزمة قلبية في آخر مرة رأى فيها جمال بايا، ولم يخرج من المستشفى إلا بعد شهرين، كان فيهما الحريق المُفجع قد أتى على البناية ومَنْ فيها، فأخذ يتردد على المقهى المجاور للبرج، عسى أن يتعرّف على أخبار الناجين من هذا الحريق الذي قصّرت الحكومة في إخماده.
ومثلما نجحت مريم مشتاوي في تقديم نص روائي محبوك لا تعوزه الخبرة، فقد نجحت في رسم الجملة الختامية المعبّرة التي تقول فيها: «إنه شتاء لندن الأخير». لتطوي صفحة هذه الرواية المؤثرة التي تطرح سؤالاً مهماً، بصدد الضباب الذي اقترن باسم المدينة، فتقول مستفسرة: «هل ضباب لندن هو جزء من حريق قديم لم يتم إخماده سابقاً؟». ومن أعماق هذه التساؤلات الروحية المؤرقة ينبثق سؤال الرواية الأهم على لسان الراوية التي تسرد وتبرّر حينما تقول: «هل هناك ما يمنعني من العودة إلى تقي الدين؟ قد تكون جدته أخطأت في الماضي، ولكنه حتماً لن يدفع ضريبة الأموات».
هناك قصص جانبية كثيرة تزخر بها الرواية؛ لكنها تصبّ في المناخ العام، مثل قصة جون هارز، المدمن الذي حوّل حياة كثير من اللاجئات إلى جحيم لا يُطاق، أو قصة سائق القطار الذي ترك ركّابه ينتظرون لمدة عشرين دقيقة، وذهب ليشترك في أغنية الراب الشهيرة التي ألّفها مطرب معروف رثاءً لضحايا البرج السكني، وحين سألوه عن سبب إيقاف القطار، قال بأن مديره قد سمح له بذلك حين عرف بأنه فقد أعزّ أصدقائه في ذلك الحريق المروّع. جدير ذكره أن مريم مشتاوي قد أنجزت ثلاث روايات قبل «جسور الحب»؛ لكن هذه الأخيرة أهّلتها للدخول في المشهد الروائي العربي المحترف.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟