النكسات الانتخابية... تنذر بنهاية «عصر» ميركل

ألمانيا على أبواب إعادة رسم خريطتها السياسية

النكسات الانتخابية... تنذر بنهاية «عصر» ميركل
TT

النكسات الانتخابية... تنذر بنهاية «عصر» ميركل

النكسات الانتخابية... تنذر بنهاية «عصر» ميركل

«أنا لم أولد مستشارة»، قالت أنجيلا ميركل وهي تعلن أنها لن تترشح مرة جديدة لزعامة حزبها. وحقاً، فإن طموح ميركل السياسي لم يبدأ إلا حين أصبحت في منتصف الثلاثينات. وحتى عندما دخلت عالم السياسة، فعلت ذلك مصادفة أكثر منها تقصداً. قبل ذلك كانت ميركل باحثة في علوم الفيزياء، وهو الاختصاص الذي اختارته في الجامعة. ولكن رغم تأخرها في بدء مسيرتها السياسية، أثبتت على مر السنين قدرة فريدة على إزاحة أعدائها واحتوائهم ما سمح لها بالصمود 18 سنة في زعامة حزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي».
لم تتردد ميركل في بداية مسيرتها بالانقلاب حتى على «مرشدها» المستشار السابق هيلموت كول الذي كان يناديها «ماين ميدشن»، أي «فتاتي الصغيرة»، وكان هو من منحها فرصة الانطلاق في عالم السياسة عندما عينها واحدة من نوابه عام 1991. ولكن بعد 8 سنوات انقلبت «الفتاة الصغيرة» على كول عندما واجه اتهامات بالفساد بعدما تبين أنه قبل تبرّعات غير قانونية. يومذاك رأت ميركل فرصة للتقدم ولم تتردد لحظة باستغلالها، وهكذا، تحوّلت خلال سنوات قليلة من «فتاة كول» إلى «موتر» - أو «ماما» - البلاد بأكملها. والآن، بعد مضي نحو 13 سنة تولّت فيها الحكم بات على ألمانيا أن تواجه مستقبلها من دون «الموتر». فمتى سيبدأ هذا المستقبل؟ وكيف سيكون؟

منذ عدة سنوات والصحافة الألمانية تتحدث عن «بداية نهاية ميركل». كلما واجهت المستشارة هزّة صغيرة أو جابهها تمرّد أو وجدت صعوبة في تحقيق مبتغى ما، كانت الصحافة تمتلئ بتحليلات تتنبأ بقرب خروجها من السلطة. غير أن أنجيلا ميركل، في كل مرة، كانت تخرج منتصرة... مع أن سطوتها كانت تضعف مع كل هزّة وتذبل بعد كل تمرّد.
طبعاً، لم يساعد تراجع حزب المستشارة، حزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، خلال الفترة الأخيرة في إعادة ثقة حزبها بها. فالانتخابات المحلية الأخيرة في ولايتي هيسن (التي تضم مدينة فرانكفورت المهمة مالياً) وبافاريا (أكبر معاقل اليمين في الجنوب) كانتا طوق النجاة الأخير الذي كانت تأمل ميركل أن يحميها من قرب نهايتها. ولكن الخسائر الكبيرة التي مني بها حزبها في هيسن والحزب «الشقيق»، «الاتحاد الاجتماعي المسيحي»، الحاكم في بافاريا، جعلا استمرارها ضرباً من المستحيل.

- مستشارة... لا زعيمة
وهكذا، أمام الضغوط الداخلية، اضطرت ميركل للإعلان أخيراً عن التنحي عن زعامة الحزب. لكنها بقيت متمسكة بمنصبها بقيادة الحكومة حتى نهاية ولايتها الدستورية الرابعة عام 2021. وهذه سابقة كانت ميركل نفسها قد رفضتها في الماضي. وللعلم، مع أن القانون لا يشترط أن يكون المستشار زعيم حزبه، جرت العادة على ذلك لتسهيل الحكم وتجنب أي شرخ محتمل داخل الحزب الحاكم.
في هذا الصدد، اعترفت ميركل عندما خرجت أمام الصحافيين لإعلان قرارها، بأنها تتراجع عن تعهداتها السابقة. لكنها مع ذلك بررت قرارها بأنه الأفضل للبلاد «لأنه سيتيح لها قيادة الحكومة من دون الانشغال بمشكلات الحزب».
لم تبدُ حزينة أو متوترة أو منفعلة وهي تعلن انسحابها التدريجي من الحياة السياسية. أبداً، كانت هادئة وبراغماتية كعادتها... بل، بدت حتى واثقة من قدرتها على إكمال ولايتها، وإن كان خليفتها المحتمل في زعامة الحزب شخص على النقيض منها. وقالت عندما سُئلت عن ذلك: «لديَّ القدرة على العمل مع أي كان... أعتقد أن هذا معروف عني وإلا لما كان بإمكاني أن أقود حكومات ائتلافية». إلا أن هذه الثقة بالنفس التي حرصت ميركل على إظهارها، قد لا تكون كافية أو نافعة هذه المرة لتكسب جولة جديدة. ذلك أن اثنين من المرشحين لخلافتها على رأس الحزب يُعدّان من أشد منتقديها.

- مستشارون محتملون
المرشح لخلافة ميركل هو فريدريش ميرز الذي كان من نجوم الحزب، ولكن ميركل دفعته لترك الحياة السياسية عام 2009، والثاني يانس شبان وزير الصحة في حكومتها الذي لا يتورّع عن انتقادها علناً.
حتى الآن أعلن الرجلان ترشحهما إلى جانب أمينة عام الحزب أنيغريت كرامب - كارينباور، المعروفة بـ«أ ك ك»، التي تعتبر المرشحة المفضلة لميركل، مع أن الأخيرة أحجمت عن إعلان دعمها أي مرشح.
بعض المحللين في ألمانيا يربطون، في الواقع، قدرة ميركل على إكمال عهدها بهوية الزعيم الجديد للحزب. ويعتقد المحلل السياسي كريستيان كاستروب من معهد «برتلسمان شتيفتونغ» في العاصمة برلين، أن ميركل قد تكون قادرة على إكمال عهدها في حال انتخب الحزب كرامب - كارينباور لقيادته، ولكنه شكك، خلال اتصال مع «الشرق الأوسط»، في قدرتها على الاستمرار بالحكم في حال فاز ميرز أو شبان، مرجحاً أن يؤدي فوز أحدهما للدعوة إلى انتخابات مبكرة مطلع العام المقبل.
آخرون يرون أن العقبة الرئيسية أمام إكمال ميركل عهدها لن يكون الزعيم الجديد للحزب، بل تطوّرات أخرى. إذ ترى البروفسورة أورسولا مونش مديرة أكاديمية التربية السياسية في ميونيخ، في اتصال مع «الشرق الأوسط»، أن خسارة كرامب - كارينباور السباق على الزعامة «سيصعّب حتماً مهمة ميركل... لكنني أعتقد أن ميركل عندما قرّرت الاستقالة من زعامة الحزب، وضعت في حسبانها احتمال فوز شخص مثل ميرز أو شبان، وارتأت أن بإمكانها أن تأخذ هذه المخاطرة لأنها ستكون محددة بفترة زمنية معينة، وأيضاً لأنها تعلم بأنه سيكون من الصعب جداً إجبارها على مغادرة منصبها بسبب محاذير دستورية».

- تهديدات لـ«عهدها الرابع»
عنصران آخران، بحسب مونش، يهددان بوقف مسيرة ميركل قبل العام 2021، هما: أولاً، نتائج أخرى سيئة لحزبها في الانتخابات المحلية العام المقبل. وثانياً، قرار شريكها في الائتلاف الحكومي، «الحزب الديمقراطي»، الانسحاب من الحكم. تقول مونش: «في حال مُني (الاتحاد المسيحي الديمقراطي الاجتماعي) (الاشتراكي) بخسائر كبيرة، كما حصل في هيسن، في انتخابات محلية جديدة... عندها ستتعرّض ميركل لضغوط كبيرة مرة أخرى، وعندها لن تتمكن من توجيه اللوم إلى زعيم الحزب الجديد بمفرده، بل قد تضطر للاستقالة تحت وطأة الضغوط المتزايدة».
وعلى الأرجح، سيواجه «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» خسائر كبيرة إضافية العام المقبل في الانتخابات المحلية بولايتي سكسونيا وبراندنبورغ (شمال شرقي ألمانيا) وهي مقررة في سبتمبر (أيلول) 2019. وتشير الاستطلاعات في الولايتين إلى تقدّم كبير لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرّف، إذ يتفوّق على حزب ميركل في براندنبورغ - المحيطة بالعاصمة برلين - مع الإشارة إلى أن هذا الحزب المتطرّف يتمتّع بشعبية مرتفعة في ولايات شرق ألمانيا، عموماً، حيث يحلّ أولاً في عدد كبير منها. السيناريو الثاني الذي قد يدفعها لاستقالة مبكرة هو انفراط حكومتها. وفي هذه الحالة، حسب مونش، سيكون على ميركل التنحي وإفساح المجال لزعيم الحزب الجديد لقيادة البلاد.

- تراجع اليسار المعتدل
هذا الاحتمال ما زال يناقشه اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي بعد نتائجه الكارثية في انتخابات هيسن وبافاريا. ورغم أن زعيمة الحزب أندريا ناهليس رفضت الانسحاب فوراً من الحكومة، وقدمت ورقة تتضمن مطالب الحزب دعت لتحقيقها خلال مهلة زمنية، فإن الأصوات المطالبة بالخروج من الائتلاف، وحتى استقالة ناهليس ما زالت مرتفعة. ويعتقد المحلل السياسي كاستروب بأن على «الاشتراكيين» لإنقاذ أنفسهم «الانسحاب من الحكومة بأسرع ما يمكن». وهنا، يُذكر أن «الاشتراكيين» شاركوا في حكومات ميركل المتعاقبة رغم أن الحزب يساري، بينما حزب ميركل يميني. ولكنهم، اضطروا طوال السنوات الماضية إلى تقديم تنازلات للبقاء في الحكم أغضبت قطاعاً من مناصريهم يرى أن الحزب فقد هويته.
ووفق كاستروب، «على (الاشتراكيين) الجلوس في صفوف المعارضة وإعادة تقييم أدائهم وتحديد مبادئ حزبهم لأنهم فقدوا هويتهم تماماً».
وبالفعل، تحول عدد كبير من الناخبين «الاشتراكيين» السابقين إلى حزب «الخضر» الذي حقق مكاسب واسعة في انتخابات هيسن. ويرى البعض أن مشاركتهم في الحكومة الرابعة لميركل كان خطأ فاقم خسائرهم. ولذا يعتقد كاستروب أنه «كان عليهم البقاء في المعارضة ودعم حكومة أقلية... لكنهم أرادوا السلطة ولم يريدوا دعم حكومة من دون الحصول على ميزات. وهذا كان خطأ». ثم يشير إلى أن «الاشتراكيين» ربما مرّروا الكثير من القوانين الجيدة طوال فترة مشاركتهم في الحكم «لكن بعض مناصريهم لم يروا الأمر بهذا الشكل، وغالباً ما كان الفضل فيها يعود لحزب ميركل لأنها ترأس الحكومة».

- انتخابات مبكّرة
ومن ثم، يتوقع الباحث في معهد «بارتلسمان شتيفتونغ» أن تكون «نهاية» ميركل السياسية أقرب من قريب جداً. كذلك يتوقع انتخابات مبكرة مطلع العام نتيجة مباشرة لانتخاب «الديمقراطيين المسيحيين» ميرز أو شبان زعيماً لهم، مستبعداً فوز كرامب - كارينباور بالزعامة لأنها «نسخة عن ميركل»، كما يقول. وحقاً، تتقارب سياسات المرأتين كثيراً. ولم تبدِ أمينة عام الحزب أي معارضة تذكر لأي من سياسات ميركل، مع أنها بدأت تشدد موقفها أكثر تجاه الهجرة لمحاولة الفوز بزعامة الحزب. ثم إن كونها امرأة قد لا يلعب أيضاً في صالحها. فـ«الاتحاد الديمقراطي المسيحي» ما زال «حزباً ذكورياً»، حسب وصف كاستروب. وبعد 18 سنة من قيادته على يد امرأة «قد يكون (المحافظون) فيه راغبين بالتصويت لرجل هذه المرة».

- سبب آخر مهم
ولكن أهم من ذلك، فإن «موضعة» ميركل حزبها المحافظ في مواقع قريبة من اليسار، خصوصاً بالنسبة لسياسات الهجرة، سيدفع بالكثيرين للتفكير بضرورة إعادة الحزب نحو اليمين باختيار مرشح على يمين ميركل... وهذا يعني أحد الرجلين، أي ميرز أو شبان. ويمكن اعتبار شبان «أكثر يمينية» مقارنة بميرز.
فوزير الصحة الشاب لا يتورع عن انتقاد سياسات الهجرة التي اعتمدتها ميركل، ويصف قرار المستشارة «فتح الأبواب للاجئين» بأنه السبب الأساسي لخسارة الحزب لشعبيته.
أيضاً، صغر سن شبان (39 سنة) قد يلعب لصالحه لجهة كسب أصوات الشباب في الحزب، لا سيما من يبحثون عن تمثيل لهم. وهنا يقول كاستروب إن شبان سيكون «قادراً على نقل الحزب للجيل الجديد لأنه شاب ويمكن أن يشكلوا رابطاً معه». ولكن «مثلية» شبان الجنسية قد تلعب ضده. فهو لا يخفي هويته الجنسية بل إنه تزوّج من صديقه. ووفق كاستروب «داخل حزب محافظ قد يشكل هذا عقبة أمام تقدّمه أكثر... إنه موضوع حساس، وأعتقد أن كثيرين، خصوصاً من التقليديين داخل الحزب، لن يصوّتوا له لهذا السبب، لكنهم بالطبع لن يكشفوا أنه سبب موقفهم».

- المرشح الأوفر حظاً
وعليه، يبرز بين المرشحين ميرز، رجل الأعمال الثري، الذي يتصدّر استطلاعات الرأي حتى الآن. وهو رغم غيابه عن الساحة السياسة نحو 9 سنوات، يبدو أنه ما زال يتمتع بشعبية كبيرة داخل حزبه، ويحظى أيضاً بتأييد ممثلي الأعمال.
الرجل الذي يعتبر من جيل ميركل نفسه، كان أحد نجوم «الديمقراطيين المسيحيين»، وبدأ صعوده في الوقت نفسه الذي بدأ نجم ميركل يسطع. غير أن الأخيرة تفوّقت عليه، أولاً عام 2002 عندما أخذت منصبه زعيماً للأغلبية البرلمانية، والثاني عام 2009 عندما دفعته لترك العمل السياسي كلياً والاتجاه للعمل مستشاراً لشركات كبرى، أهمها شركة «بلاك روك» المعروفة بـ«الحوت المالي» بفرعها الألماني، التي يرأس مجلسها الاستشاري، إضافة إلى شركة «أكسا» للتأمين ومصرف «إتش إس بي سي» البريطاني من بين غيرها. الرصيد المالي الذي جمعه ميرز طوال هذه السنوات يجعله المرشح المفضل للأعمال.
ولكن هذه الرصيد نفسه قد يلعب ضده أيضاً، إذ يقول كاستروب «لديه نقطة سوداء تتمثل بثروته وعمله مع (بلاك روك)... لا ندري ما الذي قد يتكشف».
أما مونش، من أكاديمية التربية السياسية في ميونيخ، فتعتبر أن ميرز «أشبه بشاشة تعكس أفكار كل الذين تركوا الحزب بخيبة أمل في السنوات الـ15 الماضية بعدما تغير برنامجه بشكل كبير». لكنها تضيف أن ميرز يبدو أيضاً «قديم الطراز بالنسبة للذين يعتبرون بأنه من المهم أن يتطوّر الحزب ليعكس تطور المجتمع». وتشير إلى أن شبان يمكنه أن يشكل رابطاً مع جناح الشباب في الحزب أفضل من ميرز البالغ من العمر 62 سنة.
ومع ذلك تعتقد مونش بأن ميرز هو المرشح المفضل لدى الحزب بشكل أساسي بسبب ملفه الاقتصادي القوي. وترى أن «الديمقراطيين المسيحيين» يأملون أن يعطي ميرز الحزب برنامجاً عملياً واضحاً. وترى أن تنازل شبان عن الترشح لصالحه قد يعطيه دفعاً أقوى، ويمنحه تقدماً واضحاً على كرامب - كارينباور.

- المستقبل من دون ميركل
مهما قرر حزب «الاتحاد المسيحي الديمقراطي» في مؤتمره في هامبورغ في 7 ديسمبر (كانون الأول)، فإن ألمانيا تستعد لطي صفحة ميركل قريباً مع كل ما يحمل ذلك من تغيرات في شكل الحياة السياسية في المستقبل. فحكمها الطويل وقراراتها التي جرت الحزب نحو اليسار أكثر من اليمين، أبعدت الكثير من الناخبين، ورمت بالكثير منهم في أحضان الحزب اليميني المتطرف «البديل لألمانيا» الذي بات الحزب الأول في الولايات الشرقية الشيوعية سابقاً.
وبحسب البعض، فإن هذا الحزب الشعبوي المتطرف سيستمر بالصعود تدريجياً حتى لو رحلت ميركل. ويرجح كاستروب أن «البديل لألمانيا» سيدخل الحكومة الاتحادية شريكاً ائتلافياً في السنوات القليلة المقبل إذا ما نجح «بعزل العناصر الفاشية» فيه. ويعتقد أن «الديمقراطيين المسيحيين» قد يجربون الحكم مع «البديل لألمانيا» على صعيد محلي في ولاية ما قبل أن ينقل حلفه معه إلى الحكومة الاتحادية.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.