الجانب الغامض في حياة أورسن وَلز

عمل ممثلاً ليكمل تصوير أفلامه

أورسون وَلز خلال تصوير «الجانب الآخر من الريح»
أورسون وَلز خلال تصوير «الجانب الآخر من الريح»
TT

الجانب الغامض في حياة أورسن وَلز

أورسون وَلز خلال تصوير «الجانب الآخر من الريح»
أورسون وَلز خلال تصوير «الجانب الآخر من الريح»

في الفيلم البريطاني «الرجل الثالث» (The Third Man) الذي أخرجه كارول ريد سنة 1949 عن سيناريو لغراهام غرين، يكتشف المؤلف هولي (جوزف كوتون) أن صديقه هاري (أورسون وَلز) ما زال حياً على عكس ما أشيع. كان هولي وصل إلى مدينة فيينا الخارجة من الحرب العالمية الثانية، والمتحوّلة إلى ركن مبكر بين العواصم الجاسوسية والحرب الباردة بعدما وصله نبأ موت صديقه، لكنه يفاجأ بأن صديقه هو من ابتدع حكاية موته وبالتالي لا يزال حياً.
وهناك ذلك المشهد الذي يلتقيان فيه لأول مرّة في ذلك الفيلم المهم: المشهد ليلي. المدينة نائمة. هاري يقف تحت سقف مدخل بيت وهولي يحاوره من بعيد. قطة تموء. رجل يفيق من نومه ويفتح شباك منزله ويصيح بهما محتجاً.
الغاية أن شخصية هاري هي شخصية غامضة وزئبقية. تحاول الإمساك بها حية ولا تستطيع. في النهاية الطريقة الوحيدة للإمساك به هي بعد مقتله الفعلي في مجارير المدينة.
- سرق ملابس فيلم آخر
أورسون وَلز (1915 - 1985) هو أشياء ممتزجة من هذه الحياة الغامضة. والده مخترع وأمه عازفة بيانو، وهو اخترع الأفلام على هواه وألمَّ بالموسيقى والرسم والتمثيل والإخراج والكتابة كما بكيفية البقاء حياً بعدما اعتقد أنه - وأفلامه - ماتوا جميعاً باستثناء ما يعرض منها في المناسبات والمحافل.
وصل وَلز إلى الساحة بفيلم يتناوب الظهور ما بين الرقم الأول والرقم الثاني في أي قائمة نقدية لأفضل أفلام التاريخ. الفيلم هو «المواطن كَـين» (Citizen Kane) سنة 1941 كانت ولادة عملاقة بفيلم يحتوي على اتجاهات وأساليب و«فورمات» كثيرة صاغها المخرج ببراعة متناهية، وصنع منها فيلماً يعلّق فيه على الميديا والحياة والفرد والحلم الأميركي وجنون العظمة وكبوتها.
ليس سهلاً ما حققه والأصعب أن يحافظ على مستواه بعد ذلك. لكنه حاول: «ذ ماغنيفيسنت أمبرسونز» و«رحلة داخل الخوف» و«الغريب» و«سيدة من شنغهاي» لم تكن أفلاماً رديئة. الكثير منها ومن سواها أكد مواهبه في الكتابة والتمثيل والإخراج. لكن مشكلاته بدأت في الخمسينات عندما بدأت مصاعب التمويل تعوق حركته. بعد تلك الأفلام التي احتلت فترة الأربعينات، وجدت «هوليوود» نفسها غير معنية بتمويل أفلام تقوم على احتمالات الخسارة التجارية، وليس مع مخرج يصر على أن يستحوذ على كل تفاصيل الفيلم كما يريد.
سنة 1948 أعلن عن أن فيلمه التالي سيكون «عطيل» (ثاني فيلم شكسبيري له من بعد «ماكبث» في السنة ذاتها)، لكن «هوليوود» لم تكترث وتتقدم له بالتمويل اللازم. نتيجة ذلك أن التصوير استمر لثلاث سنوات متقطعة. كان يصوّر ويتوقف ويبحث عن مال يكمل به التصوير وحين يجده يصوّر مجدداً ويتوقف مرّة أخرى ثم يبحث من جديد.
بعض الكاميرات والإكسسوارات المستخدمة «استعارها» (وقد تُقرأ سرقها) من فيلم «الوردة السوداء» من دون موافقة المخرج هنري هاذاواي. هذا اشتكى لداريل ف. زانوك الذي ضحك كثيراً عندما علم لكنه لم يتدخل.
هذا المنوال من التصوير والعناد في تحقيق أفلام بأي صورة ووسيلة كانت، بلغ ذروته في فيلم «الجانب الآخر من الريح» (The Other Side of the Wind) الذي قام بتصويره على مراحل كثيرة ما بين 1970 و1976 ولم ينته منه. كان عنيداً ومصراً كما كان موهوباً. وخلال تلك الفترة، وما بعدها قام بتمثيل أفلام لمخرجين آخرين أمثال الروسي سيرغي بوندارتشوك («ووترلو») وكلود شابرول («عشرة أيام من التجوال») وبيتر كولنسون («عشرة هنود صغار»). هم كانوا سعداء بقبوله التمثيل في أفلامهم وهو كان سعيداً أنه سيتقاضى أجراً ينفق منه على أفلامه المؤجلة.
- عاد إلى هوليوود
«الجانب الآخر من الريح»، الذي قامت «نتفلكس» بتمويل ترميمه وإضافة مشاهد له لم يتح لوَلز تصويرها، الذي عرضته أولاً في مهرجان فينيسيا الإيطالي قبل أن يصبح مشاعاً لمشتركيها.
قابلت المخرج فرانك مارشال الذي أنتج وأخرج المشاهد الإضافية، وأشرف على صياغة الفيلم من جديد خلال وجوده في ذلك المهرجان. حين سألته ما هي أصعب مرحلة من مراحل إعادة الحياة لهذا الفيلم أجاب سريعاً:
«كله كان صعباً. الطريق لتنفيذ ما قمنا به كانت طويلة ومليئة بالعراقيل، وكيفما نظرت سواء لناحية الحصول على التمويل أو على الحقوق الإبداعية والقانونية، أو خلال محاولة الحفاظ على ملامح الفيلم الأصلية في الوقت الذي كنا نريد فيه استكمال هذا الجهد وتقديمه كما يستحق له أن يُقدّم».
هذه الصعوبات واجهها أورسن وَلز أكثر من مرّة وفي هذا الفيلم أكثر من سواه. كان ترك هوليوود للعيش في أوروبا التي تحتضن الفنانين أمثاله، لكن ما دفعه للعودة سنة 1970 إلى هوليوود حقيقة أنه لاحظ أن الحياة دبّت في جسد الفيلم المستقل. لاحظ، كما تقول المصادر، كيف أن «إيزي رايدر» لدنيس هوبر أُنجز ببضعة ألوف وحقق بضعة ملايين. فكّر أن لا شيء يمنعه إذن من تحقيق فيلم أراده تجسيداً لمعاناته الخاصة ولعلاقته بهوليوود وصناعة الفيلم وعلاقتهما به. الفيلم بالتأكيد بانوراما لحياة مخرج يحاول أن ينجز فيلماً لا يخلو من التجريب والعبث الفني وبطريقته. صحيح أنه صرّح مراراً بأن الفيلم ليس سيرة حياته، لكن «الجانب الآخر من الريح» كان عن مخرج شبيه جداً بوَلز وحياته تلتقي كثيراً وحياته.
صوّر وَلز الفيلم بالأبيض والأسود والألوان معاً. استخدم الكاميرا المحمولة ونوّع في مصادر الفيلم الخام وجاء بمخرج آخر (جون هيوستون) وقدّمه في دور هو نسخة من تفكير واهتمامات وَلز نفسه. هناك أسلوب روائي وأسلوب تسجيلي يتماشيان معاً من دون أن يؤديا إلى سرد الحكاية كاملة.
خلال ست سنوات من المكابدة (مع سيناريو أعيدت كتابته عشرات المرّات جزئياً أو كلياً) أنجز وَلز نحو 40 دقيقة فقط من الفيلم. وهو رحل بعد تسع سنوات من دون استكمالها. لكنه عرف كيف يترك عملاً تاق كثيرون لاستكماله، وبذلك حافظوا لا على الفيلم وحده فقط، بل على سينما وَلز التي عكست لغز حياته المعقدة.
لكن كما كان التمويل أكثر مصاعب تحقيق الفيلم أيام ما كان مخرجه ما زال حياً، كان التمويل أيضاً مشكلة كبيرة واجهها فرانك مارشال. يقول:
«قابلت ممولين محتملين من أنحاء كثيرة حول العالم. في البداية كانوا مستعدين لعلمهم بقيمة أورسن وَلز، لكن حال تبين لهم أن الفيلم سيحافظ على صيغة المخرج ولن يكون عن حياته مثلاً أو يحتوي على حكاية حول كيف تم صنع الفيلم، اختفوا».


مقالات ذات صلة

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)

شاشة الناقد: جود سعيد يواصل سعيه لتقديم البيئة الرّيفية في سوريا

عبد اللطيف عبد الحميد وسُلاف فواخرجي في «سلمى» (المؤسسة العامة للسينما)
عبد اللطيف عبد الحميد وسُلاف فواخرجي في «سلمى» (المؤسسة العامة للسينما)
TT

شاشة الناقد: جود سعيد يواصل سعيه لتقديم البيئة الرّيفية في سوريا

عبد اللطيف عبد الحميد وسُلاف فواخرجي في «سلمى» (المؤسسة العامة للسينما)
عبد اللطيف عبد الحميد وسُلاف فواخرجي في «سلمى» (المؤسسة العامة للسينما)

سلمى التي تحارب وحدها

(جيد)

يواصل المخرج السوري جود سعيد سعيه لتقديم البيئة الرّيفية في سوريا من خلال أحداث معاصرة يختار فيها مواقف يمتزج فيها الرسم الجاد للموضوع مع نبرة كوميدية، بالإضافة إلى ما يطرحه من شخصيات ومواقف لافتة.

وهذا المزيج الذي سبق له أن تعامل معه في فيلمي «مسافرو الحرب» (2018)، و«نجمة الصباح» (2019) من بين أفلام أخرى تداولت أوضاع الحرب وما بعدها. في «سلمى» يترك ما حدث خلال تلك الفترة جانباً متناولاً مصائر شخصيات تعيش الحاضر، حيث التيار الكهربائي مقطوع، والفساد الإداري منتشرٌ، والناس تحاول سبر غور حياتها بأقلّ قدرٍ ممكن من التنازل عن قيمها وكرامتها.

هذا هو حال سلمى (سُلاف فواخرجي) التي نجت من الزلزال قبل سنوات وأنقذت حياة بعض أفراد عائلتها وعائلة شقيقتها وتعيش مع والد زوجها أبو ناصيف (عبد اللطيف عبد الحميد الذي رحل بعد الانتهاء من تصوير الفيلم). أما زوجها ناصيف فما زال سجيناً بتهمٍ سياسية.

هذه انتقادات لا تمرّ مخفّفة ولا ينتهي الفيلم بابتسامات رِضى وخطب عصماء. قيمة ذلك هي أن المخرج اختار معالجة مجمل أوضاعٍ تصبّ كلها في، كيف يعيش الناس من الطبقة الدنيا في أسرٍ واقعٍ تفرضه عليها طبقة أعلى. وكما الحال في معظم أفلام سعيد، يحمل هذا الفيلم شخصيات عدة يجول بينها بسهولة. سلمى تبقى المحور فهي امرأة عاملة ومحرومة من زوجها وعندما تشتكي أن المدرسة التي تُعلّم فيها بعيدة يجد لها زميل عملاً في منزل رجل من الأعيان ذوي النفوذ اسمه أبو عامر (باسم ياخور) مدرّسة لابنته. لاحقاً سيطلب هذا منها أن تظهر في فيديو ترويجي لأخيه المرّشح لانتخابات مجلس الشعب. سترفض وعليه ستزداد حدّة الأحداث الواردة مع نفحة نقدية لم تظهر بهذه الحدّة والإجادة في أي فيلمٍ أخرجه سعيد.

«سلمى» هو نشيدٌ لامرأة وعزفٌ حزين لوضع بلد. النبرة المستخدمة تراجي - كوميدية. التمثيل ناضج من الجميع، خصوصاً من فواخرجي وياخور. وكعادته يعني المخرج كثيراً بتأطير مشاهده وبالتصوير عموماً. كاميرا يحيى عز الدين بارعة في نقلاتها وكل ذلك يكتمل بتصاميم إنتاج وديكورٍ يُثري الفيلم من مطلعه حتى لقطاته الأخيرة. هذا أنضج فيلم حققه سعيد لليوم، وأكثر أفلامه طموحاً في تصوير الواقع والبيئة وحال البلد. ثمة ثغرات (بعض المشاهد ممطوطة لحساب شخصيات ثانوية تتكرّر أكثر مما ينبغي) لكنها ثغراتٌ محدودة التأثير.

لقطة من «غلادياتير 2» (باراماونت بيكتشرز)

Gladiator II

(جيد)

ريدلي سكوت: العودة إلى الحلبة

السبب الوحيد لعودة المخرج ريدلي سكوت إلى صراع العبيد ضد الرومان هو أن «غلاديايتر» الأول (سنة 2000) حقّق نجاحاً نقدياً وتجارياً و5 أوسكارات (بينها أفضل فيلم). الرغبة في تكرار النجاح ليس عيباً. الجميع يفعل ذلك، لكن المشكلة هنا هي أن السيناريو على زخم أحداثه لا يحمل التبرير الفعلي لما نراه وإخراج سكوت، على مكانته التنفيذية، يسرد الأحداث بلا غموض أو مفاجآت.

الواقع هو أن سكوت شهِد إخفاقات تجارية متعدّدة في السنوات العشر الماضية، لا على صعيد أفلام تاريخية فقط، بل في أفلام خيال علمي (مثل Alien ‪:‬ Covenant في 2017)، ودرامية (All the Money in the World في العام نفسه) وتاريخية (The Last Duel في 2021)؛ آخر تلك الإخفاقات كان «نابليون» (2023) الذي تعثّر على حسناته.

يتقدم الفيلم الجديد لوشيوس (بول ميسكال) الذي يقود الدفاع عن القلعة حيث تحصّن ضد الجيش الروماني بقيادة الجنرال ماركوس (بيدرو باسكال). لوشيوس هو الأحق بحكم الإمبراطورية الرومانية كونه ابن ماكسيموس (الذي أدّى دوره راسل كراو في الفيلم السابق)، وهو ابن سلالة حكمت سابقاً. يُؤسر لوشيوس ويُساق عبداً ليدافع عن حياته في ملاعب القتال الرومانية. يفعل ذلك ويفوز بثقة سيّده مكرينوس (دنزل واشنطن) الذي لديه خطط لاستخدام لوشيوس ومهارته القتالية لقلب نظام الحكم الذي يتولاه شقيقان ضعيفان وفاسدان.

هذا كلّه يرد في الساعة الأولى من أصل ساعتين ونصف الساعة، تزدحم بالشخصيات وبالمواقف البطولية والخادعة، خصوصاً، بالمعارك الكبيرة التي يستثمر فيها المخرج خبرته على أفضل وجه.

فيلم ريدلي سكوت الجديد لا يصل إلى كل ما حقّقه «غلاديايتر» الأول درامياً. هناك تساؤل يتسلّل في مشاهِد دون أخرى فيما إذا كان هناك سبب وجيه لهذا الفيلم. «غلاديايتر» السابق كان مفاجئاً. جسّد موضوعاً لافتاً ومثيراً. أفلام سكوت التاريخية الأخرى (مثل «مملكة السماء» و«روبِن هود») حملت ذلك السبب في مضامينها ومفاداتها المتعددة.

لكن قبضة المخرج مشدودة هنا طوال الوقت. مشاهدُ القتال رائعة، والدرامية متمكّنة من أداءات ممثليها (كوني نيلسن وبيدرو باسكال تحديداً). في ذلك، سكوت ما زال الوريث الشّرعي لسينما الملاحم التاريخية التي تمزج التاريخ بالخيال وكلاهما بسمات الإنتاجات الكبيرة.

عروض تجارية.