في معظم قصصها القصيرة التي ضمتها مجموعتها «ما لا تعرفه عن الأميرات»، تتلبس القاصّة والروائية الكويتية سعداء الدعاس شخصية صبية في سن الطفولة، فيكون سرد الحكاية بضمير الغائب، لكنه بشكل ما يقترب من صوت البطلة نفسها. كذلك سيتلمس القارئ البناء المسرحي للمشهد واستثمار بعض الأعمال المسرحية في إدخال بعض تفاصيلها ضمن النص القصصي نفسه، وهذا بالتأكيد بفضل اختصاص الكاتبة الدعاس في مجال الإخراج المسرحي. العنصر الثالث الذي يميز قصص هذه المجموعة هو تنوع الخلفية المحلية؛ فهناك قصة تدور أحداثها في حلب اليوم داخل جحيم الحرب الأهلية، وأخرى في القاهرة، وثالثة في ريف بأفغانستان، ورابعة في العراق. وهناك قصص قابلة لأن تكون في أكثر من مدينة عربية مثل «الحارس السادس».
جذبتني قصة «المشهد الأخير» التي أراها أكثر النصوص تماسكا وخلوا من النهايات المأساوية المفاجئة، كذلك خلوها من القصدية، فالطفلة «فرح» ابنة بواب قصر الثقافة في مدينة البدرشين التابعة لمحافظة الجيزة، تنجذب إلى موظفة تعمل في هذه المؤسسة اسمها «أميرة»، فتقدم لها كل الخدمات خلال ساعات عملها، عن حب صافٍ، وعن تأويل يناسب عمرها: فالصغيرة «فرح» ربطت بخيالها بين القصر و«أميرة» التي تعمل فيه، وصاغت منهما «أميرة القصر»، وبذلك تحولت هذه الموظفة العادية إلى شخصية أسطورية بالنسبة إليها.
وما يعمق هذا الانتماء لعالم القصر السحري تلك العروض المسرحية التي تقدم على خشبته، ثم تأتي الصدمة حين تسترق «فرح» السمع لحديث يدور بين الموظفة «أميرة» والممثلة التي أدت دور «أوفيليا» بمسرحية هاملت، فيصدمها ما تقوله الأولى للثانية عنها: إنها ليست سوى ابنة البواب التي تأتي لتخدمها مقابل ما تقدمه الموظفة «أميرة» لها من مساعدة! وكأن عالم الكبار الذي قُتل الحلم فيه لا يتورع عن قتل الحلم في نفوس الصغار أيضا، حين تنسحب «فرح» من هذه المملكة الوهمية لتعود إلى سكنها الصغير المخصص لبواب المبنى، هاجرة إلى الأبد القصر وأميرته المسحورة.
هذا التأويل المختلف للأشياء بين الكبار والصغار يتكرر في القصة الأولى التي تدور في حلب (من دون ذكر اسم المدينة) حيث يُقنع الكبار صغارهم بأن من يُقتل منهم يصبح عصفورا في الجنة، والصغيرة بطلة القصة تغبط أولئك الصغار الذين أصبحوا عصافير، وعلى الرغم من الطابع المباشر في القصة، فإنها تبتعد عن السقوط بمطب التسييس للحدث، بل يظل الإيقاع محافظا بخيط من الدعابة السوداء التي قد يختلط بفضلها ضحك المتلقي بدموعه. إنها قصة تدين الحروب ومشعليها عبر زاوية نظر الصغار، فأولئك الصغيرات لا ينظرن إلى الموت إلا بوصفه معبرا إلى عالم العصافير واللعب معا هناك في عالم خال من العنف والبشاعة.
يبدو لي أن القاصة سعداء الدعاس تهيئ الحكاية التي تسمعها أو تقرأ عنها في مخيلتها على أنها سيناريو قصير ثم تبدأ على ضوئه صياغة أجزاء القصة وإقحام أقصى ما يمكن من تفاصيل تخدم نمو الحدث. في حكاية «أسرار الحارس السادس» نتابع مسار حياة فتاة منذ طفولتها حيث يتركز السرد حول علاقتها بأصبعها السادسة.
وإذا كانت أمها أقنعتها في سن مبكرة جدا بأنه موجود لحراسة الأصابع الخمس الأخرى، فإن هذا التبرير يتغير من مرحلة إلى أخرى. وإذا كانت مضايقات الآخرين تتلازم معها في كل مراحل حياتها حتى حين إكمالها الدراسة الجامعية، فإن القارئ قد يلمس أن هذه الأصبع الزائدة التي تثير الغرابة في نفوس الآخرين وتجذب أنظارهم إليها منحت صاحبتها قوة مقاومة أكبر وإرادة أصلب لتحقيق تميزها واعتراف الآخرين بها.
هناك قصص أخرى شديدة السنتمنتالية، وهي أقرب إلى الخواطر منها إلى معمار القصة القصيرة، مثل تلك التي تدور في «المشهد الأخير» وهي نوع من إعادة حكاية مقتل أولئك البنات في أرياف أفغانستان وبعض مناطق باكستان بسبب إصرارهن على الذهاب إلى المدارس، لكن القصة القصيرة لا تسعى إلى تصفية حسابات بقدر ما تكشف عن زوايا ما في التجربة الإنسانية.
قتل البنات في سن الطفولة يكاد تكون سمة في كثير من قصص المجموعة، وغالبا ما يكون القتل مفاجئا كأنه أقرب إلى قدر مرسوم مسبقا. في القصة المذكورة آنفا تُقتل البطلة المصرّة على التعلم «شبانا» على يد شخص مجهول، وفي «لعبة الموت» تموت الطفلة ذات الثمانية أعوام بعد تزويجها من رجل في سن الثمانين، ويبدو كأن الحدث يدور في مخيم للاجئين السوريين، وبالتالي فهو تحويل لحوادث مشابهة من الواقع إلى نص قصصي متخيل.
يتغير صوت الراوي في قصة «الذين أرغب في قتلهم» ليصبح صوت البطل نفسه، والبطل جندي أميركي مكلف مداهمة بيت ما (وهو من دون ذكر المكان يشير إلى العراق) والمبرر لذلك وجود «إرهابي» فيه. بعد قتل الأب والأم يفاجأ هذا الجندي بوجود طفلين في غرفة؛ بنت في سن الخامسة، وولد في سن الثالثة. وعلى الرغم من أن مشهدهما يثير في نفسه تعاطفا ما معهما لإثارة ذكرى طفلته في أميركا وطفله المتوفى، فإنه في المقابل يعطي أوامره بتفجير البيت.
وحال الانتهاء من ذلك، يطلق النار على نفسه. لعل هذه القصة مبنية على قصة حقيقية، لكن عند نقلها إلى الورق بوصفها قصة متخيلة فقدت حقيقتها الفنية إذا جاز القول، لأن أدب الخيال معني بنقل ما هو قابل للحدوث والتكرار؛ أكثر مما هو قابل للحدوث مرة واحدة ووفق صدفة ما.
«ما لا تعرفه عن الأميرات» إضافة لأدب القصة القصيرة في المكتبة العربية؛ فحبكة نصوصها بارعة، إضافة إلى ما تتضمنه من تجريب في الجمع بين الحوار العامي المكثف واللغة الفصحى في السرد، وتجريب في اختيار الموضوعات، وربطها في أغلب القصص ببنات في سن الطفولة.
عالم الكبار كما يؤوله الأطفال
«ما لا تعرفه عن الأميرات» للكويتية سعداء الدعاس
عالم الكبار كما يؤوله الأطفال
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة