«داعش» يوقظ التنين الصيني حول العالم

شكوك بكين تجاه الإيغور لا تتوقف مع سلسلة من الملاحقات

«داعش» يوقظ التنين الصيني حول العالم
TT

«داعش» يوقظ التنين الصيني حول العالم

«داعش» يوقظ التنين الصيني حول العالم

هل دخلت الصين بدورها في سياق الحرب التي تدور رحاها حول العالم على الإرهاب؟
وإن كان ذلك كذلك فما هي الأسباب التي جعلتها تعلن مؤخراً عن إنشاء قوة لمكافحة الإرهاب لحماية مصالحها في الخارج؟... هذا واحد من أسئلة كثيرة تتواتر هذه الأيام، فيما البعض يرى أن الصين بدورها تسخر إشكالية محاربة الإرهاب لدعم حضورها القطبي حول العالم، بالضبط كما فعلت الولايات المتحدة الأميركية منذ عقدين تقريباً.
في أواخر شهر سبتمبر (أيلول) الماضي وفي مقابلة له مع وكالة «شينخوا» الصينية للأخبار، كان «تشانغ شياو تشي» رئيس المخابرات في الشرطة المسلحة الصينية، وهي جهة تابعة للقوات المسلحة الصينية، يصرح بالقول: إن تشكيل قوات خاصة بات عنصرا مهما في التحديث الشامل لجيش البلاد... وأضاف: «إن نطاق مهمة القوات الخاصة يمتد من الأرض إلى البحر ومن الوطن إلى خارجه، وإن استعدادات الحرب ضد الإرهاب، يجب أن تشمل حماية المصالح الاستراتيجية الوطنية في أي مكان».
الحديث عن القوة الصينية لمكافحة الإرهاب، كانت قد سبقته عدة خطوات في الداخل الصيني، هدفها الرئيسي مواجهة الإرهاب الذي بات يضرب بقسوة منذ العام 2001 وحتى الساعة.
وفي هذا السياق نذكر بأن الصين كانت قد أصدرت عام 2015 قانوناً جديداً لمكافحة الإرهاب، يسمح لجيشها بالقيام بعمليات لمكافحة الإرهاب، فيما وراء البحار رغم أن مثل هذا القانون قد وجد اعتراضات دولية ودبلوماسية، خوفاً من أن يكون مجرد غطاء أو ستار يمكن للصين من خلاله أن تمد نفوذها إلى ما هو أبعد من حدودها الإقليمية.
على أن السؤال... هل من جزئية خافية على الكثيرين تستدعي قوة وقوانين صينية خاصة لمحاربة الإرهاب؟

وثيقة القرن والاستدارة نحو آسيا
علامة الاستفهام المتقدمة في حقيقة الأمر في حاجة إلى قراءات معمقة قائمة بذاتها، غير أن المسطح المتاح للكتابة يدعونا لبلورة الأمر في سطور قليلة تبدأ من عند العام 1997. أي حين بلور المحافظون الجدد رؤيتهم للقرن الحادي والعشرين، وقد حزموا وحسموا أمرهم أن يكون قرناً أميركيا بامتياز، ما يعني حتمية إزالة والقفز على أي قوى دولية أخرى تظهر في الأفق.
في ذلك التوقيت كانت روسيا لا تزال تتخبط في صراعها الداخلي، وبينما الأوليغاركيات تتنازعها وتتشارعها، وفلاديمير بوتين لم يكن قد أطل من نافذة التاريخ لا على روسيا فحسب بل على العالم برمته، فيما كان التنين الصيني يستيقظ، ما دعا العم سام لاسترجاع مقولة وتحذير نابليون بونابرت من صحوة المارد الأصفر.
بعد نحو ثلاث عشرة سنة، وفي العام 2010 تمت صياغة الاستراتيجية الأميركية الجديدة، المعروفة باسم الاستدارة نحو آسيا، وقد كانت الصين في القلب منها ولا شك.
كتبت هيلاري كلينتون في عدد نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2011 عبر مجلة «الفورين بوليسي» الأميركية الشهيرة وتحت عنوان «أميركا عصر المحيط الهادي»، ما يفهم منه أن الصراع مع الصين تحديداً بات جوهرياً ومركزياً، وأن إفشال تلك التجربة لا بد أن تجري به المقادير، رغم محاولاتها البلاغية التي فشلت في مداراة المغزى والمبنى من أحاديثها.
وتضيف: إحدى أبرز المهام التي تقع على عاتق الدولة الأميركية في العقد المقبل هي استثمار مجهودات أكبر بكثير، دبلوماسيا واقتصاديا واستراتيجياً، وغير ذلك، في منطقة آسيا والمحيط الهادي.
يقول بعض من العارفين بدواخل واشنطن إن مشهد صعود «القاعدة» و«داعش» على النحو الذي رآه العالم مؤخراً، إنما كان هدفه الرئيسي هدم التجربة الصينية، ووقف صحوة الدب الروسي، من خلال تصدير الإرهاب إليهما، وذلك حال تمكن من دول الشرق الأوسط، ووجد طريقه إلى الداخل الروسي والصيني، عبر الأقليات التي يمكن استقطاب بعض من مواطنيها لصالح التيارات المتطرفة، ليبدأ التفكيك والتفخيخ من الداخل».

الإيغور وعلاقتهم مع الصين
الإيغور بداية هي قومية من آسيا الوسطى، ناطقة باللغة التركية وتعتنق الإسلام، ويعيش أغلبها في إقليم شينجيانغ الذي كان يسمى تركستان الشرقية قبل ضمه من قبل الصين، وقدر عدد الإيغور بنحو عشرة ملايين نسمة، 99 في المائة منهم يعيشون داخل الإقليم، فيما يتوزع الباقون حول العالم. ولكي نفهم العلاقة المتوترة بين الصين والإيغور لا بد من العودة إلى التاريخ البعيد نسبياً، فقد تمثلت العلاقة في كر وفر، منذ وقت طويل، حيث تمكن الإيغور من إقامة دولة تركستان الشرقية التي ظلت صامدة على مدى نحو عشرة قرون قبل أن تنهار أمام الغزو الصيني عام 1709. ثم عام 1876 قبل أن تلحق نهائياً في 1950 بالصين الشيوعية.
ازدادت شكوك الصين تجاه الإيغور بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر وبدأت سلسلة من المطاردات بعدما نما لعلم الاستخبارات الصينية أن أصولية بعينها تنمو في الداخل، وإنها على علاقة بعمليات تفجير جرت في الإقليم. على أن الطامة الكبرى، كانت تلك التي تمثلت في إعلان الإيغور استقلالهم عام 2004. ومن ثم دارت الصراعات العنيفة والمسلحة مع شباب هذه العرقية التركية. وجدت التنظيمات الأصولية فرصة ذهبية في هذا الجو المشحون بالعنف، فرصة مكنتها من استجلاب عدة آلاف من الشباب المقاتل إلى «داعش» تحديداً، وهناك من يؤكد أن تركيا لعبت دوراً كبيراً وخطيراً في تسهيل مرورهم إلى الداخل السوري.

دواعش الإيغور في سوريا
يقول البعض يبلغ عدد عناصر «داعش» من شباب الإيغور في داخل التنظيم نحو ثلاثة آلاف، فيما جماعة أخرى ترى أنهم أكثر من خمسة آلاف مقاتل تدفقوا تدريجياً على مدى خمس سنوات من مخيمات التدريب التركية نحو سوريا، معظمهم يقاتل اليوم مع «داعش»، وقد أنشأوا جيشاً جهاديا صينياً بدأ بنسخته الداعشية، يهدد بنقل البؤرة إلى قلب آسيا الوسطى.
في تقرير صادر عن مركز الأبحاث السياسية في وزارة الخارجية الإسرائيلية نقرأ عن أبعاد الإشكالية التي تواجهها الصين حالياً، ذلك أن الصينيين قد بذلوا جهوداً كبيرة لكبح الخروج غير الشرعي للإيغور من حدود الدولة. لكن رغم إغلاق الطريق الأقصر الذي يمر عبر باكستان، فإن عشرات الآلاف منهم هربوا من الحدود الجنوبية وسلكوا طريقاً طويلاً وملتوياً للوصول إلى تركيا... لكن كيف يتم تمويل تلك العمليات اللوجيستية؟
الجواب هو أن العائلات الإيغورية تقوم ببيع ممتلكاتها في وطنها الأم، في حين أن الحكومة التركية، وبسبب أصول الإيغور التركية، تساعد من يريد منهم دخول أراضيها، الأمر الذي تسبب ولا يزال في حدوث توتر كبير بين أنقرة وبكين.
في هذه الاضطرابات بين الجانبين ظهرت على السطح رسائل مسجلة ومصورة منسوبة إلى ما يطلق عليه «الحزب التركستاني»، وهو منظمة إيغورية منفصلة، تعمل بشكل أساسي خارج حدود الصين، وتحمل الرسائل دعوات لمقاتلين يتبعونها في سوريا يروجون للانضمام إلى الجهاد، وقد كان لها أثر إيجابي – إن جاز التعبير - في كسب المزيد من وقود المحرقة الإرهابية الداعشية، من شباب الإيغور... كيف ينظر «داعش» إلى الصين؟

داعش وسفك الدماء
لا ينتظر أحدهم أن يكون الجواب على علامة الاستفهام حول نظرة «داعش» إلى الصين، خارج السياقات التقليدية، ففي رسالة مسجلة تحمل عنوان «أولئك هم الصادقون»، نشره فرع تنظيم داعش في غرب العراق، وجه مقاتلون داعشيون من الإيغور تهديداً غير مسبوق إلى الصين، ويظهر التسجيل مسلحاً من أقلية الإيغور يشهر سكيناً ويذبح رجلاً (في حضور طفل) مدعياً أنه «مخبر»، ثم يقول: «أيها الصينيون الذين لا يفهمون بالكلام نحن جنود الخلافة وسنأتيكم لنوضح لكم بلغة السلاح، ونسفك الدماء لتجري كالأنهار ثأراً للمسلمين».
لقد شعرت الصين أن الشرق الأوسط الذي أضحى حاضنة خصبة للإرهاب، سوف ينحو في القريب جداً ليصبح كارثة بالنسبة للصين، وليس الأمر هنا من قبيل المصادفة، فلا شيء يجري عشوائياً في عالم اليوم. أما البريطانيون بنوع خاص فقد تنبهوا لما يقوم به الإيغور في الشرق الأوسط، ولهذا نشرت صحيفة «الديلي ميل» البريطانية، مقطع فيديو مدته 30 دقيقة، يعرض أيضاً حياة الإرهابيين الصينيين في المنطقة، بما في ذلك أطفال يمارسون فنون القتال والدفاع عن النفس واستخدام البنادق. وكان من الواضح أن الصين قد أدركت عمق المأزق، ولهذا يبدو أنها تحذو حذو روسيا على صعيد العمليات العسكرية الخارجية، وهنا يفهم المرء دلالة الحديث عن قوة صينية لمحاربة الإرهاب في الخارج.

حرب صينية ضد الإرهاب
الغوص عميقاً في القرار الصيني الأخير يوضح لنا أبعاداً لم يتنبه لها الكثيرين في المنطقة، ذلك أن قوة صينية في الخارج يظل التساؤل من حولها هل القصد هو متابعة الإيغور في سوريا فقط أم هناك ما هو أبعد من ذلك؟
الثابت للمراقبين أنه ومنذ العام 2015. بدأت وفود صينية مدنية وعسكرية تتدفق على دمشق بهدف توسيع تقديم الدعم لنظام دمشق، وكانت وزارة الدفاع الصينية قد أعلنت أنها ستساعد في تأهيل القدرات البشرية في سوريا، إضافة إلى تقديم المساعدات الإنسانية.
في 11 أغسطس (آب) الماضي صرح السفير الصيني في دمشق السيد «تشي تشيانجين» لصحيفة الوطن الموالية للنظام السوري قائلا: «نعرف أن مكافحة الإرهاب ومعركة سوريا ضد الإرهابيين ليست فقط لمصلحة الشعب السوري فقط بل لمصلحة الشعب الصيني وشعوب العالم – على حد قوله -، وقد جرى تعاون جيد بين جيشينا في مكافحة الإرهابيين من كل دول العالم، ومن ضمنهم الإرهابيون القادمون من الصين، وسوف يستمر هذا التعاون بين الجيشين والجهات المعنية».
ويبدو أن وجود عدة آلاف من الإيغور في محافظة إدلب أمر جعل الصين تسارع باتخاذ خطوات عسكرية سريعة في الخارج سيما وأن مقاتلي «الإيغور» يتصفون بدهاء سياسي مكنهم من احتلال الصفوف الأمامية خلال المعارك للدفاع عن المدن الاستراتيجية في محافظة إدلب، مثل جسر الشغور والمناطق المحيطة بها، ووصفوا بأنهم السلاح السري للمعارضة السورية، بعدما لقنوا النظام درساً قاسيا في القتال، وهم الآن يمتلكون الكثير من الأسلحة المتطورة، مثل الصواريخ المضادة للدبابات التي استولوا عليها في مناطق بعينها مثل الجب الأحمر أعلى تلال جبل الأكراد.
ويمكن القطع إذن بأن معركة الصين داخل سوريا قد بدأت بالفعل، وأن الحاجة للقوة الصينية الجديدة موجهة إلى موقع وموضع آخر، إذ تشير تقارير استخباراتية إلى أن «التهديد الأساسي بالنسبة للصين ليس عودة متطرفي الإيغور إلى أراضيها، بل تحديداً نشاط هؤلاء ضد أهداف صينية خارج الصين، وحول العالم».



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.