الحرس الرئاسي اليوناني... أداء مدهش يجذب الزوار وسط أثينا

تدريبات صعبة للتحمل والانضباط والدقة... والحديث بجفن العين!

عروض تبديل الحرس تجذب الكثير من الزوار لليونان ويتابعونها بشغف ويتعرفون من خلالها على تقاليد اليونان القديمة
عروض تبديل الحرس تجذب الكثير من الزوار لليونان ويتابعونها بشغف ويتعرفون من خلالها على تقاليد اليونان القديمة
TT

الحرس الرئاسي اليوناني... أداء مدهش يجذب الزوار وسط أثينا

عروض تبديل الحرس تجذب الكثير من الزوار لليونان ويتابعونها بشغف ويتعرفون من خلالها على تقاليد اليونان القديمة
عروض تبديل الحرس تجذب الكثير من الزوار لليونان ويتابعونها بشغف ويتعرفون من خلالها على تقاليد اليونان القديمة

بكلمة «آلاجي» ومعناها حان وقت التبديل، يصيح قائد الحرس اليوناني عند كل ساعة، ليترك حارسين جديدين يقفان على جانبي النصب التذكاري للجندي المجهول وسط العاصمة أثينا - لا يحركان ساكنا مهما حدث - حتى يحين وقت المغادرة، وتقام هذه المراسم منذ بناء النصب 1968.
وباتت هذه العروض تشد الانتباه، حيث تجذب الكثير من الزوار لليونان ويتابعونها بشغف، ويتعرفون من خلالها على تقاليد اليونان القديمة، وما يلفت الانتباه أيضاً لغة التخاطب بين الحارس وقائده، التي تستخدم فيها حركة رموش العين، فعدد حركات الرموش ترمز إلى أمور متفق عليها بين الجانبين.
إذن ليس ﻣﻦ السهل أن ﺗﻜﻮن جنديا ﻓﻲ اﻟﺤﺮس اﻟﺮﺋﺎﺳﻲ اليوناني، إذ ينبغي ﻋﻠﻰ هؤلاء اﻟﺠﻨﻮد، الذين يتألقون ﻓﻲ أزياء ﺗﻌﻮد إﻟﻰ ﻗﺮون ﺧﻠﺖ، اﻟﻮﻗﻮف ﻣﻦ دون ﺣﺮﻛﺔ أﻣﺎم ﻗﺒﺮ اﻟﺠﻨﺪي المجهول، وﺗﻤﺜﻞ ﺑﺮودة اﻟﻄﻘﺲ القارسة ودرﺟﺎت اﻟﺤﺮارة اﻟﻤﺮﺗﻔﻌﺔ وﻓﻀﻮل اﻟﺼﻐﺎر، الذين يركلون اﻟﺤﺮاس لرؤية ﻣﺎ إذا ﻛﺎﻧﻮا أحياء ﺣﻘﺎ، ﺑﻌﺾ اﻟﻤﺨﺎطﺮ التي يواجهها من يتم اختيارهم لهذه المهمة الصعبة.
أما زي الحرس الرئاسي اليوناني فهو مستوحى من حرب استقلال البلاد عام 1821، وعلى الرغم من أنه ثقيل جدا ومصنوع من خامات خاصة، فإن السلاح الذي يحمله الحارس يزن أيضا نحو سبعة كيلوغرامات، والحذاء يحتوي على عدد كبير من المسامير الصلبة ليعطي الصوت المطلوب، إذن هو أيضا ثقيل جدا.
وفي بلاد الإغريق، يلتزم ﻛﻞ اﻟﺸﺒﺎب ﺑﺄداء ﻣﺎ بين 9 إﻟﻰ 12 شهرا ﻣﻦ اﻟﺨﺪﻣﺔ العسكرية الإجبارية وفقا للحالة الاجتماعية وليس للشهادة الدراسية، ويتم اختيار اﻟﺤﺮس اﻟﺮﺋﺎﺳﻲ ﻣﻦ الجنود العاديين واﻟﺮﺗﺐ اﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ، ويعتبر المظهر اﻟﺨﺎرﺟﻲ ﺑﺎﻟﻎ الأهمية، إذ ينبغي أن يكون اﻟﺠﻨﻮد ﻻئقين بدنيا، والشرط اللازم للانضواء في هذه الوحدة والتي يطلق عليها اسم «أيفزوني» هو أن يراوح طول الشخص بين 1.87 متر و2.10 متر، ويتم قبول 33 في المائة من المرشحين، ويكمن التحدي في «تعزيز التركيز والانضباط الجسدي والنفسي ليتمكن العنصر من البقاء جامدا على مدى ساعة على الأقل مع تصويب النظر إلى الفراغ من دون الاكتراث بالضجة المحيطة به. ومن بين مهامهم هو حراسة نصب الجندي المجهول في ساحة سينتاغما على بعد خمسمائة متر من القصر الرئاسي اليوناني، كما يقيمون في ثكنة صغيرة في وسط أثينا بين القصر الرئاسي والبرلمان.
ويوضح المسؤول عن الحرس، أن عناصر «أيفزوني» يُنتقون خلافا لحراس شرف آخرين، بعد «تدريب قاسٍ يستمر ستة أسابيع» يتمرنون خلاله على «التحمّل والانضباط والدقة»، وتشكل متابعة الخطوات البطيئة المحسوبة بدقة شديدة لعناصر «أيفزوني» هؤلاء منذ عقود إحدى نقاط الجذب السياحي الرئيسية في أثينا.
وبعد لبس الرداء التقليدي الفضفاض الذي يصل إلى الركبتين والمصنوع من ثلاثين مترا مربعا من القطن المطوي 400 مرة، للدلالة بحسب التقليد على أربعة قرون من الهيمنة العثمانية بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر.
وهذا الرداء الذي تضاف إليه سترة من الصوف المطرز يدويا، يعلوه حزام مشدود بقوة، كما ينتعل عناصر الحرس الرئاسي أحذية من الجلد الأحمر والحديد تعرف باسم «تساروخيا»، فيما يعتمرون ما يشبه الطربوش الأحمر ويُعرف باسم «فاريون». ويؤكد الخياط المعتمد في الثكنة أن هذا الطربوش يرمز إلى «الدم الذي أُريق خلال الحروب» كما أن خيوطه المصنوعة من الحرير الأسود تدل على «الدموع التي ذُرفت حزنا على الضحايا».
ويحتاج عنصر وحدة الـ«أيفزوني» نحو 45 دقيقة لارتداء هذا الزي كما أن مساعدة «الشريك» الذي يلازمه طوال مدة الخدمة أمر لا مناص منه. ويتعين على عناصر «أيفزوني» الامتناع عن أي تفاعل مع هؤلاء المعجبين، وفي حال حصول مشكلة، لا يحق له سوى أن يرف بجفنية مرة واحدة للقول «نعم» ومرتين لـ«كلا» بهدف التواصل مع المسؤول عنه. كما أن «أي حركة أو تفاعل مع أحداث خارجية يُعتبر إساءة للمهمة» الموكلة لهؤلاء الحراس.
ويعتبر عناصر الحرس الرئاسي اليوناني المشار إليهم تجسيد شعور الفخر بالانتماء لليونان واحترام التاريخ، ومنذ 150 عاما تقريبا، تقوم مهمة هؤلاء الحراس على «توجيه تحية لأبطال الأمة» وتجسيد التقليد ومُثل الحرية والديمقراطية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)