يستدعي إرسال عبوات مشبوهة إلى شخصيات عامة وساسة أميركيين، ذكريات مؤلمة للولايات المتحدة التي عانت من هذه الظاهرة في فترات تاريخية مختلفة، ورغم قوة أجهزتها الأمنية، يستغرق الكشف عمن يقف خلف هذه الجرائم وقتاً غير قصير.
وشهدت الساعات الماضية إرسال عبوات مشبوهة، بعضها يحوي مواد ناسفة إلى قيادات الحزب الديمقراطي الأميركي، وبينهم رئيسان سابقان للولايات المتحدة، بالإضافة إلى مقر شبكة «سي إن إن» الإخبارية، والملياردير الأميركي جورج سوروس، والأخيران يعتبران هدفاً دائماً لانتقادات الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وغيره من قيادات التيار اليميني، ولم يتم الكشف حتى الآن عن الدافع وراء إرسال العبوات.
وتوضح شبكة «سي إن إن» عبر موقعها، أن هذه الظاهرة ليست جديدة، وتحتاج إلى وقت لتفسيرها، مثلما حدث سابقاً مع تيد كاكزينسكي، المعروف باسم «أونابومبر»، الذي قام بإرسال خطابات مفخخة على مدار 17 عاماً إلى عدد من الأكاديميين ورجال الأعمال، الذين اعتبرهم معارضين لمبادئ حركة عمالية كان يتبعها.
ونجح كاكزينسكي في قتل ثلاثة أشخاص، وإصابة 23 آخرين، حتى تمكنت عناصر مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) من إلقاء القبض عليه عام 1996، بناء على معلومات تقدم بها أخوه إلى الشرطة.
وألقت «سي إن إن» الضوء أيضاً على الخطابات الملوثة ببكتريا الجمرة الخبيثة، التي تم إرسالها لعدد من المقار الإعلامية ومكاتب الكونغرس، خلال الأسابيع التالية لهجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وأسفرت تلك الخطابات عن مقتل خمسة أشخاص، إثر استنشاقهم الجمرة الخبيثة.
واستغرقت «إف بي آي» سبعة أعوام حتى تتمكن من الوصول إلى عالم الميكروبيولوجي الأميركي بروس لفينس، الذي تأكدت مسؤوليته عن هجمات الجمرة. وقام الأخير بالانتحار عند إدراكه اقتراب السلطات من إلقاء القبض عليه.
وكان كل من كاكزينسكي ولفينس يعملان بشكل منفرد، ومن دون الانتماء إلى جماعة محددة، وتتسم هذه القضايا القائمة على «عناصر منفردة» بأنها أصعب في الحل، وذلك بالمقارنة مع القضايا التي تتضمن عمليات أوسع نطاقاً، وعدداً أكبر من الإرهابيين.
خلفيات متنوعة
ويقول بيتر بيرجن، المحلل في شبكة «سي إن إن»، إنه بسبب هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، اعتاد الأميركيون على وضع الإرهاب في إطار عمليات «الجهاد الإرهابي» التي تنسب الهجمات للمسلمين، ولكن الحقيقة أن هناك أشكالاً أخرى للإرهاب والعنف السياسيين داخل الولايات المتحدة، ولهذا السبب وصف المسؤولون في نيويورك هجمات العبوات الناسفة على القيادات الديمقراطية، والملياردير جورج سوروس، ومقر «سي إن إن»، بعمل إرهابي.
وكشف إحصاء أعدته مؤسسة «نيو أميركا» البحثية، أنه منذ عام 2011 بلغ عدد ضحايا الاعتداءات الإرهابية التي ارتكبها مسلمون 104 أشخاص، بينما بلغ عدد ضحايا حوادث الإرهاب التي نفذها أشخاص ينتمون لليمين المتطرف 73 شخصا، فيما بلغت حصيلة ضحايا الحوادث الإرهابية التي ارتكبها نشطاء في حركات حقوق الدفاع عن الأميركيين من أصول أفريقية 8 أشخاص.
فالإرهاب في الوقت الحاضر ينبعث من يمين ويسار الصعيد السياسي، ففي يونيو (حزيران) 2017، قام جيمس تي هودجكينسون (66 عاماً) بمهاجمة عدد من أعضاء الكونغرس الجمهوريين أثناء لعبهم «البيسبول» في منطقة إسكندرية بولاية فرجينيا، متسبباً في إصابة خمسة منهم بجروح، وكان من بينهم النائب الجمهوري البارز ومسؤول تنظيم الكتلة الجمهورية بمجلس النواب، ستيف سكاليس، الذي تعرض لإصابة بالغة.
وكان هودجكينسون قد كتب على موقع «فيسبوك» قائلا: «ترمب خائن، ترمب دمر ديمقراطيتنا، حان الوقت لتدمير ترمب ورفاقه». وقد أصابت الشرطة هودجكينسون بطلق ناري، ولقي حتفه فوراً عقب الهجوم.
وقبل هذه الواقعة بسبعة أشهر، وتحديداً في الخامس من ديسمبر (كانون الأول) 2016، توجه إيدجار ويلش (28 عاماً) والمنحدر من ساليسبري نورث كارولاينا، إلى شمال غربي واشنطن العاصمة، واقتحم مطعم البيتزا الشهير «كوميت بينغ بونغ» إثر انخداعه برواية جمهورية كاذبة تم فضحها لاحقاً، حول أن هيلاري كلينتون تدير شبكة للاتجار الجنسي بالأطفال من قبو المطعم.
نفذ ويلش الاقتحام وفي يديه بندقية، ليبدأ في إطلاق الرصاص، ووجه سلاحه إلى العاملين بالمطعم، قبل أن يتمكنوا من الفرار بحياتهم وإبلاغ الشرطة، التي سارعت بالحضور وإلقاء القبض عليه، وأوضح الشاب الأميركي للمحققين أنه جاء مسلحاً إلى مطعم البيتزا للمساعدة في إنقاذ الأطفال الصغار.
كيفية الكشف عن الفاعل
ولكن للكشف عن الفاعل والموقع الذي تم إرسال العبوات الناسفة منه، تملك السلطات الأميركية سلسلة من الخطوات التي يتم اتباعها.
وقال رالف باشام، المدير السابق لوكالة الخدمات السرية التابعة لوزارة الأمن القومي الأميركي، في تصريحات لموقع «VOX» الأميركي، إن شبكة الإنترنت تلعب دوراً كبيراً في تسهيل نجاح عملية تجميع وإعداد العبوات الناسفة التي وصلت لأهداف متعددة في الولايات المتحدة، خلال اليومين الأخيرين. فالمواد المستخدمة في إعداد مثل هذه العبوات باتت متوفرة، ومواقع الإنترنت تقدم توجيهات واضحة على طريقة «خطوة بخطوة» لكيفية إعداد العبوة.
وأوضح باشام أن السلطات الأمنية سوف تقوم بتفكيك العبوات وفصل المواد المستخدمة، وهنا يأتي دور «مكتب الكحول والتبغ والأسلحة والمواد المتفجرة (أيه تي إف)، الذي يملك قاعدة بيانات عملاقة، ويمكنه استخدام الرقم التسلسلي لكل مادة في تحديد موقع إنتاجها ومنفذ بيعها، وسيساعد ذلك في تحديد عدد من المواقع، المرجح أن تكون مصدراً للمواد المستخدمة، ويمكن التوصل تدريجياً وبعد عدة خطوات لهوية المنفذين»، ولكن الأمر في النهاية، وفقاً لباشام، يحتاج قدراً من الحظ.