هناك أماكن تفرض نفسها على الذاكرة والوجدان ولا يمكن أن تُنسى. إن لم تُخلف صوراً لا تمحوها السنون، فإنها بروائحها التي تتغلغل في الحواس، تبعث الحياة في ذكريات بعيدة جدا ترتبط بمكان أو شخصية ما. هكذا الحال بالنسبة لغراس، عاصمة العطور الفرنسية، التي تقع على بعد 15 كيلومترا من مدينة «كان» بشواطئها اللازوردية. الطريف أنه عند ذكرها قلما يتبادر إلى الذهن أهميتها السياحية أو اسم ابنها الرسام الشهير «فراغونار»، بقدر ما يقفز اسم عطر «شانيل نمبر 5» إلى الأذهان. ففيها وُلد هذا العطر الأسطوري، الذي لا بد أن تكون كل امرأة قد جرّبته في مرحلة من مراحل حياتها.
عندما تصل إلى غراس، فإنك ستشعر كما لو أن الكون يرقص على سيمفونية من الألوان المختلفة والروائح المدغدغة للحواس. يقوى هذا الإحساس في فصل سبتمبر (أيلول) موسم قطف الياسمين. فالحقول تبدو من بعيد وكأنها لوحة فنية مرسومة بالأبيض والأخضر. تقترب أكثر فتتراءى لك رؤوس تُغطيها قبعات واسعة لسيدات من جنسيات مختلفة خصورهن مشدودة بأكياس يضعن فيها ما يقطفنه بحركات دقيقة ومحسوبة وكأنهن ينقرن على آلة موسيقية. تبدأ العملية بالنسبة لهن في الصباح الباكر؛ «لأن الوقت من ذهب، وأي تأخير من شأنه أن يؤثر على جودة الزهرة ورائحتها» حسب شرح جوزيف مول، صاحب هذه المزارع، الذي أصبح شريكا لـ«شانيل» منذ عقود. يقول هذا وهو يستعرض طريقة القطف بنفسه. يقطف كل زهرة بإصبعين بعد أن يثنيها من العنق بخفة. بعد ذلك يشير إلى الجذور حيث تظهر براعم صغيرة جدا تتأهب للتفتح، شارحا بأن الدور سيكون عليها في اليوم التالي حين تبدأ العملية من جديد. على مقربة من هذه المزارع يوجد معمل التقطير. ويعيد مول قوله إن الوقت من ذهب، إذ يجب أن تبدأ عملية التقطير بسرعة ومباشرة بعد القطف. كل شيء يسير بانتظام داخل المعمل من الألف إلى الياء، أي إلى أن تتم تعبئة خلاصة الياسمين في قارورات صغيرة جدا مركزة لا يحتاج منها العطار سوى إلى نقط قليلة للحصول على تركيبة غنية.
تحت تأثير الروائح والألوان الغنية التي تغطي الحقول، ألتفت لأسأل أوليفييه بولج، عطار «شانيل»، إن كان المكان لا يزال يثير بداخله كل الأحاسيس التي يثيرها في نفوس زواره لأول مرة. يرد مبتسما: «يمكنك القول إنها إثارة من نوع يختلف. لست معميا عن جمالها، لكني ربما لم أعد أراها بالحماس الشاعري نفسه. فهي جزء مهم من حياتي الخاصة والمهنية على حد سواء. لقد وُلدت هنا، كما أحضر إليها بشكل منتظم بحكم عملي، بحثا عن خلاصات ومكونات جديدة... لهذا يمكنني القول إني أراه من زاوية مختلفة».
أوليفييه بولج ينتمي إلى الجيل الرابع في دار «شانيل». تسلم المشعل من والده جاك بولج، الذي تسلمه من هنري روبير، علما بأن أول من قام بهذا الدور كان إرنست بو. يعيش أوليفييه حاليا في باريس، وفيها يستلهم أفكاره وتتبلور عطوره، لكن الأفكار، كما يقول: «لا تكتمل من دون زيارة غراس للبحث أو التأكد من المكونات واختيار الأنسب منها ثم تقطيرها وتحضيرها للمزج».
ويشير إلى أن نكهة الزيارة تختلف من موسم إلى آخر، فمواسم قطف وردة أيار أو المسك الرومي مثلا تختلف ألوانا، لكنها لا تقل إثارة ولا جمالا. لكن يبقى لموسم الياسمين أهميته الجمالية والعطرية والتاريخية. فهو أكثر ما يرتبط بالدار، كما أنه فريد من نوعه هنا، نظرا لتربة ومناخ المنطقة. إنه ملكية خاصة لـ«شانيل» أو بالأحرى لعطر «شانيل نمبر 5»، حسب توضيح أوليفييه: «من المستحيل أن تُستعمل غلته هذه في أي عطر سواه. إن أردت إدخاله في أي عطر آخر، عليّ أن أستورده إما من مصر أو مدغشقر أو الهند». السبب أن الطلب كبير على العطر بينما الغلة قليلة.
والحقيقة أن تاريخ العطر وكيف وُلد وما يحققه من نجاح منذ عام 1921، يُبرر هذا الاحتكار. فما عدا أنه في كل 30 ثانية تباع قارورة منه، حسبما يُشاع، فإنه غيّر مفهوم صناعة العطور إلى حد كبير. لم يكن أول عطر بمفهوم جديد وعصري أبدعته مصممة أزياء فحسب، بل وُلد من فكرة قد تكون رائجة حاليا، إلّا أنها كانت ثورية في زمنها، ألا وهي تمكين المرأة ومنحها الثقة والقوة من خلال عطر أو قطعة أزياء أو إكسسوار. فلسفة أو استراتيجية لا تزال سارية إلى الآن. فهدف «كوكو شانيل» كان ابتكار عطر يتحدى الزمن ويعزز قوة المرأة، وهو ما نجحت فيه.
بدأت قصة هذا النجاح في العشرينات من القرن الماضي. حقبة كانت روائح الجلد والبنفسج هي الغالبة، بينما كانت الآنسة كوكو شانيل تطمح إلى عطر مفعم بالنعومة والأنوثة تلعب فيه الأزهار والورود دور البطولة. طلبت من العطار الشهير إرنست بو أن يجسد رؤيتها. كان لقاؤهما لقاء بين عملاقين، إذ كان إرنست بو المفضل لقياصرة روسيا، وله باع طويل في هذا المجال، الأمر الذي جعله أفضل من يترجم رؤيتها الثورية. تقول القصة إنه ابتكر 5 تركيبات عطرية، لم تشعر بالرضا سوى عندما قدم لها الخامسة. كانت مزيجا من الياسمين وباقة مشكلة من الأزهار والورود المختلفة، لكن الأهم أنه استعمل، لأول مرة في تاريخ صناعة العطور، مادة الألدهيد أو الغوليد.
يشرح أوليفييه بولج أن التقنيات التي استعملت فيه كانت سابقة لأوانها في 1921، و«الدليل أنها لا تزال تُستعمل إلى اليوم مع بعض التطويرات الطفيفة، كذلك الأمر بالنسبة للخامات التي كانت جديدة آنذاك، ولا نزال إلى الآن نحرص عليها بحمايتها من عوامل المناخ وتغيرات البيئة وغيرها».
لا ينكر أوليفييه أن مهمته سهلة، لأن سيناريو عطور «شانيل» مكتوب بوضوح، «فالياسمين شكل شخصية عطور الدار منذ عشرينات القرن الماضي بحيث لا يكتمل أي منها من دون خلاصات الورد، خصوصا من مدينة غراس». وعندما شعرت الدار أن مزارعها أصبحت مهددة بسبب زحف العقارات وما شابه في الثمانينات من القرن الماضي، تدخلت بربط شراكة مع عائلة «مول» التي تملكها حتى تضمن بقاءها، ومن ثم حصولها على أجود الأنواع.
يُذكر أن زهرة الياسمين استوردت إلى فرنسا في القرن السادس عشر، ورغم أنها متوفرة في بلدان أخرى فإنها في جنوب فرنسا تحديدا تكتسب خصوصية فريدة تغلب عليها نفحات من شاي المتة. زهرة الياسمين المصريّة يغلب عليها الجانب الحيواني ما يمنحها دفئا أكبر.
السرّ في ذلك يكمن في تربة بيغوما الغنيّة وخبرة عائلة مول Mule التي تتولّى زراعة هذه الزهرة منذ أجيال، وأصبحت شريكة لدار شانيل، تعمل معها حصريا منذ 1987.
ومع ذلك لا بد من القول إن لكل عطار بصمته ووردته المفضلة. فرغم أن أوليفييه يعرف أهمية الياسمين ويُقدرها فإنه شخصيا يفضل مسك الروم، بدليل أنه كان من أوائل من أدخلوه إلى الدار في عطر «غابرييل».
يشرح أن العطار مثل الرسام يجرب ويمزج المواد والخامات إلى أن يتوصل إلى النتيجة التي ترضيه، «وأنا شخصيا أحب التركيز على الورود البيضاء ومزجها مع بعض. قد يبدو الأمر تناقضا بحكم أن الرسم يعتمد على الألوان المتنوعة، لكني أمنح نفسي رخصة شاعرية في هذا الوصف. فالعطر يتكون بداية في الخيال، والكثير من هذه الورود البيضاء أتخيلها بألوان، مثل الأصفر في الـ(إيلانغ إيلانغ)... هذه الرخصة الشعرية يتمتع بها أي فنان، رساما كان أم موسيقيا أم عطارا وهي التي تمنحه مساحة للإبداع».
الطريف أن قصة «شانيل» والياسمين لا تكتمل من دون الفصل الذي يرويه جوزيف مول، الذي يقول إن مدينة غراس لم تكن دائما معطرة بالياسمين والورود، وإن بداية صناعة العطور فيها بدأت من حاجة ملحة للتخلّص من رائحة دباغة الجلود النفاذة التي كانت هي السائدة. كان السكان يستعملون خلاصة زهر البرتقال للتخلص من رائحة الجلود الكريهة، ومع الوقت بدأت هذه الصناعة تتبلور لتُصبح هي الأساس. وصل عدد العائلات التي كانت تزرع الورود والأزهار في عام 1925 إلى 2000 عائلة تقريبا. لكن هذا العدد تقلص بشكل كبير في الستينات، بسبب زحف العقارات وصناعات أخرى تمددت على حساب المدى الأخضر الذي يحتضن شتلات الميموزا الصفراء والورد والياسمين. الأمر الذي استدعى تدخلا لحماية هذه الصناعة. كانت عائلة مول من أكبر المزارعين في المنطقة، حيث توارثوا أراضيهم أبا عن جدا، لهذا كانوا أفضل من يمكن لـ«شانيل» التعاقد معهم بهذا الشأن. بموجب الاتفاقية أو الشراكة، فإن كل ما تنتجه عائلة مول هو ملك للدار الفرنسية. وبهذا ضمنت العائلة الأمان المادي والاستمرارية، وضمنت «شانيل» الحرفية وجودة الياسمين والورود الأخرى.
يعلق أوليفييه بولج أن زراعة الورود عموما والياسمين خصوصا أصبحت مهددة في تلك الفترة، الأمر الذي استدعى التدخل وربط شراكة مع عائلة مول، «من دون ذلك لا يعرف أحد ما كان سيئول إليه مصير الياسمين في المنطقة».
الآن ونظرا لندرته، يُزرع سنوياً بواسطة طريقة التطعيم، ويحتاج الكيلو الواحد من الياسمين إلى 8000 ياسمينة تقريبا.
غراس... موسم قطف الياسمين في عاصمة العطور الفرنسية
عندما يتحول الاحتكار إلى أجمل شكل من أشكال الإبداع
غراس... موسم قطف الياسمين في عاصمة العطور الفرنسية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة