من التاريخ: فرنسا من الثورة إلى أحضان نابليون

من التاريخ: فرنسا من الثورة إلى أحضان نابليون
TT

من التاريخ: فرنسا من الثورة إلى أحضان نابليون

من التاريخ: فرنسا من الثورة إلى أحضان نابليون

تابعنا في الأسبوع الماضي ظهور «ماكسيمليان روبسبيير» ديكتاتور الثورة الفرنسية وأكثر قادتها دموية والذي قاد مجموعة سياسية تسمى بـ«اليعاقبة» للسيطرة على الجمعية الوطنية (البرلمان) بعدما تم التخلص من الملكية، وتابعنا كيف شهدت الجمعية حركة تمرد عليه أدت إرساله للمقصلة أسوة بقرابة 20 ألف ضحية من ضحاياه في أقل من سنة والتي مثلت مدة حكمه فيما عرف في الثورة الفرنسية «بعهد الإرهاب»، وعادت السلطة مرة أخرى إلى الفرق المعتدلة في الجمعية الوطنية وأصبح على فرنسا أن تجد نظاما جديدا تتعامل به لتسيطر على الأوضاع المتردية في البلاد، فالعنف لم يولد إلا مزيدا من العنف، والبلاد أصبحت تواقة للهدوء والسياسات العاقلة بعدما تم استبدال النظام السياسي بنظام جديد، واستبدال الدستور بدستور جديد في العام الثالث للثورة، ثم جاءت محاولة استبدال الديانة الكاثوليكية بديانة تقدس العقل في رد فعل عكسي لكل ما كان مرتبط بالكنيسة والنظام السابق، ناهيك بتغيير التقويم ليبدأ بتاريخ الثورة الفرنسية فتصبح السنة مقسمة إلى اثني عشر شهرا من 30 يوما تنتهي بخمسة أيام من الاحتفالات، وذلك على نفس غرار السنة الفرعونية القديمة.
وقد أرادت الجمعية الوطنية تهدئة الأوضاع في البلاد فاستقر الأمر على إلغاء ما عرف بقانون الاشتباه والذي بمقتضاه كان يتم القبض على المواطنين وإعدامهم أو تعذيبهم تحت حجة حماية الثورة، وقد أسندت الجمعية السلطة التنفيذية لمجموعة من الحكماء عرفت باسم حكومة «المدراء Directoire» مكونة من خمس شخصيات عامة كان منهم أحد أذكى الشخصيات السياسية والدبلوماسية وهو «تاليراند»، وسرعان ما تم تصفية الجمعية الوطنية والتي لم تكن منتخبة لإدارة البلاد وإنما جاءت لتمثيل العامة في البرلمان قبيل الثورة مباشرة، فتم استبدالها ببرلمان مكون من مجلسين الأول «مجلس الحكماء» والثاني «مجلس الخمسمائة»، وهكذا ظن الساسة والشعب أن الأمور بدأت تستقر بشكل كبير، ولكن هذا لم يحدث.
حقيقة الأمر أن «حكومة المدراء» كانت أضعف من أن تستطيع السيطرة على البلاد، فالشعب كان في حالة ثورة ممتدة، الناس في حالة رفض للالتزام، والقوانين غير مطبقة وقطع الطرق والسرقات والقتل كان منتشرا في كل مكان، ناهيك ببداية ظهور حالة من الثورة في الغرب الفرنسي لرفض الناس اقتلاع ديانتهم حيث قاد رجال الدين الثورة بالاتفاق مع الشعب فيما معرف بثورة «الفانديي Vandee»، وقد ساءت الأمور أيضا بسبب قيام النمسا وبروسيا وإنجلترا بالدخول في حرب شعواء ضد النظام الثوري الفرنسي بعدما أعلنت القيادة الفرنسية أنها ستصدر الثورة ومفاهيمها إلى القارة الأوروبية ككل، ولسوء حظ الحكومة الفرنسية فإن جيوشها لاقت الهزيمة تلو الأخرى وهو ما تغير بعدما تولى نابليون بونابرت قيادة جيوشها في إيطاليا وحقق بعض النصر وتلا ذلك بعض الانتصارات الأخرى في بلجيكا وعلى الحدود الألمانية، وعند هذا الحد بدأ الجميع يدرك أن النظام السياسي الجديد غير فعال وغير قادر على احتواء المشكلات وتقديم الخبز للمواطن الفرنسي.
في ظل هذه الظروف الفرنسية الصعبة، بدأت قيادة فرنسية جديدة تلوح في الأفق وتستغل كل إخفاقات حكومة المدراء الضعيفة، كانت هذه شخصية تميزت بثلاث صفات أساسية كفلت لها النجاح، فلقد كانت عبقرية عسكرية بكل ما تعنيه الكلمة ولها باع كبير بين الشعب الفرنسي، كما أنها كانت عقلية إدارية فذة وذات رؤية ثاقبة، وإن جاز لنا أن نضيف فإن الحظ كان في كثير من الأوقات حليفها، إنها شخصية نابليون بونابرت، هذا الفتى الكورسيكي الذي تعلم الفرنسية في طفولته بعدما انضمت جزيرته لتصبح جزءا من فرنسا، فدخل الكلية العسكرية ثم سرعان ما تخصص في المدفعية وانخرط في الجيش في الوقت الذي بدأت فرنسا تعج بالثورة فأتاحت له هذه المتغيرات فرص التقدم في العسكرية، خصوصا بعدما أثبت نفسه بجدارة خاصة أثناء حصار مدينة «تولون» الساحلية، فحمى المدينة ببطولة خارقة بفضل تحريك مدفعيته ضد هجوم عناصر الثورة المضادة بالتعاون مع الإنجليز، ولكن الذي لفت الانتباه له كان عندما تعرضت الجمعية الوطنية لمحاولة اعتداء من قبل العامة، فأمر نابليون باستخدام مدفعيته وحمى البرلمان ولكن بعد مقتل ما يقرب من ثمانمائة مواطن فرنسي، وعند هذا الحد بدأت الأعين الثورية تنظر له على اعتباره بطلا عسكريا يمكن الاعتماد عليه، وهو ما فتح له المجال ليتم تعيينه على قيادة الجيوش الفرنسية في إيطاليا لمحاربة النمساويين خلال عامي 1796 و1797، وقد أبهر الرجل الجميع بانتصاراته العسكرية هناك، فأصبح حديث كل فرنسا وسط حالتها المتردية، فالنصر العسكري رفع الروح المعنوية للشعب الفرنسي والذي أصبح تواقا لمزيد من الانتصارات من هذا الفتى العبقري، ولعل نشاطه البارز كان سببا في إرساله على رأس حملة إلى مصر والشام لضرب خطوط الاتصالات بين إنجلترا ومستعمراتها في الهند وإقامة دولة فرنسية قاعدتها مصر، ولكنها حملة سرعان ما باءت بالفشل وعاد نابليون هاربا ولكنه استطاع أن يقنع العامة ببطولته العسكرية وتحويل الهزيمة إلى نصر، وعند هذا الحد بدأت الأمور في باريس تضطرب وأصبحت حكومة المدراء في حالة تذبذب وشبه انهيار.
حقيقة الأمر أن كتب التاريخ سجلت مؤامرة ضد هذه الحكومة والتي بدأت تحاك للقضاء عليها لضعفها وعدم قدرتها على المضي قدما في وقف الفوضى، وعلى رأسها مؤامرة ربطت بين نابليون من ناحية وعدد من أعضاء مجلسي الحكماء والخمسمائة، وبالتعاون مع بعض الشخصيات المهمة، وهو ما أسفر عن القضاء على حكومة المدراء وتعيين ثلاثة قناصل بدلا منهم على رأسهم نابليون واثنين آخرين رغم بعض المعارضة في المجالس النيابية، والملاحظ أن هذه الخطوة وإن كان لها من يعاديها في البرلمان والساحة السياسة إلا أنها لاقت رضاء عاما من الشعب والذي ضاق ذرعا من ضعف الحكومة وحالة الفوضى والثورة الممتدة في البلاد، بل إن هذه الخطوة نزلت بردا وسلاما عليه.
ولم يكن نابليون ليفوت الفرصة بفراسته السياسية وحكمته الإدارية، فسرعان ما وضع دستورا جديدا أقره الشعب في 1799 بعيدا عن المهاترات السياسية، وأقر إقامة برلمان من مجلسين، وسرعان ما تم تعيينه «القنصل الأول»، ولكن التخلص من القنصلين الآخرين كان مسألة وقت لا غير، فلقد بدأ الرجل على الفور يشد من أزر قوته السياسية من خلال الأعمال الإصلاحية الناجحة، فلقد قضى تماما على حالة الفوضى وقطع الطرق والإرهاب، ثم بدأ عملية مصالحة واسعة النطاق أعادت كل طوائف المجتمع المهمشة بسبب الثورة وعلى رأسهم طبقة النبلاء، واتخذ خطوات عملية من أجل تثبيت الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وفي حركة عسكرية جريئة غادر نابليون باريس على رأس جيش استطاع في عجالة أن يهزم النمساويين في معركة «مارنجو» الشهيرة والتي كفلت له السلام بإخراج النمسا من التحالف الدولي وتبعتها روسيا، وهو ما أجبر إنجلترا على التوقيع على صلح «إميان» الشهير والذي بمقتضاه ذاقت فرنسا طعم السلام بعد سنوات طويلة من الحروب التي استنزفت مواردها وطاقاتها وشبابها.
وعلى الفور بدأ نابليون يصلح ما أفسدته الثورة، فعلى الرغم من أنه احتفظ بمفاهيم الثورة الأساسية وعلم الثورة وغيرها من الأمور، إلا أنه كان أكثر حكمة من أن يسمح باستمرار التطرف الثوري، فسرعان ما رأب الصدع بين الدولة الفرنسية والكنيسة الكاثوليكية من خلال اتفاقية «الكونكوردات Concordat» التي وقعها مع البابا والتي بمقتضاها أعاد حق العبادة للكاثوليك معترفا بأن الكاثوليكية هي ديانة الأغلبية، ثم أعقب ذلك خطوات واضحة من أجل تنظيم البلاد إداريا وبناء الطرق والكباري وشق القنوات وإنشاء بنك مركزي وتنظيم النظام الضريبي بعدما أعاد السلام الاجتماعي والسياسي لفرنسا.
هكذا منح نابليون للشعب الفرنسي كل ما كان يتمناه بعد سنوات طويلة من العناء والثورة والدم والتغيير والتخبط الفكري والتطبيقي، فلقد منح الرجل فرنسا الاستقرار على أسس سياسية وقانونية معروفة بل وراقت للشعب، وهي الأمور التي دفعت الأغلبية لمنحه لقب «قنصل مدى الحياة» ثم بعد ذلك منحه لقب إمبراطور في احتفال مهيب شهدته كل أوروبا، وبذلك أصبح نابليون بونابرت القابض على أمور فرنسا منذ ذلك التاريخ.
وهكذا اعتنق الشعب الفرنسي فكر «روسو» فاعتنق الثورية وتخلص من الملك، ثم فشلت قياداته المتعاقبة في تطبيق مبادئ الثورة التي نادت بها من الأساس، ثم جاءت الثورة المضادة، ثم الثورة العكسية والفوضى، فلم تسترح فرنسا إلا بعدما اتفقت على شخصية نابليون بونابرت قائدا للبلاد، ولكن حديث الثورة الفرنسية لم ينته بعد.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.