من التاريخ: فرنسا من الثورة إلى أحضان نابليون

من التاريخ: فرنسا من الثورة إلى أحضان نابليون
TT

من التاريخ: فرنسا من الثورة إلى أحضان نابليون

من التاريخ: فرنسا من الثورة إلى أحضان نابليون

تابعنا في الأسبوع الماضي ظهور «ماكسيمليان روبسبيير» ديكتاتور الثورة الفرنسية وأكثر قادتها دموية والذي قاد مجموعة سياسية تسمى بـ«اليعاقبة» للسيطرة على الجمعية الوطنية (البرلمان) بعدما تم التخلص من الملكية، وتابعنا كيف شهدت الجمعية حركة تمرد عليه أدت إرساله للمقصلة أسوة بقرابة 20 ألف ضحية من ضحاياه في أقل من سنة والتي مثلت مدة حكمه فيما عرف في الثورة الفرنسية «بعهد الإرهاب»، وعادت السلطة مرة أخرى إلى الفرق المعتدلة في الجمعية الوطنية وأصبح على فرنسا أن تجد نظاما جديدا تتعامل به لتسيطر على الأوضاع المتردية في البلاد، فالعنف لم يولد إلا مزيدا من العنف، والبلاد أصبحت تواقة للهدوء والسياسات العاقلة بعدما تم استبدال النظام السياسي بنظام جديد، واستبدال الدستور بدستور جديد في العام الثالث للثورة، ثم جاءت محاولة استبدال الديانة الكاثوليكية بديانة تقدس العقل في رد فعل عكسي لكل ما كان مرتبط بالكنيسة والنظام السابق، ناهيك بتغيير التقويم ليبدأ بتاريخ الثورة الفرنسية فتصبح السنة مقسمة إلى اثني عشر شهرا من 30 يوما تنتهي بخمسة أيام من الاحتفالات، وذلك على نفس غرار السنة الفرعونية القديمة.
وقد أرادت الجمعية الوطنية تهدئة الأوضاع في البلاد فاستقر الأمر على إلغاء ما عرف بقانون الاشتباه والذي بمقتضاه كان يتم القبض على المواطنين وإعدامهم أو تعذيبهم تحت حجة حماية الثورة، وقد أسندت الجمعية السلطة التنفيذية لمجموعة من الحكماء عرفت باسم حكومة «المدراء Directoire» مكونة من خمس شخصيات عامة كان منهم أحد أذكى الشخصيات السياسية والدبلوماسية وهو «تاليراند»، وسرعان ما تم تصفية الجمعية الوطنية والتي لم تكن منتخبة لإدارة البلاد وإنما جاءت لتمثيل العامة في البرلمان قبيل الثورة مباشرة، فتم استبدالها ببرلمان مكون من مجلسين الأول «مجلس الحكماء» والثاني «مجلس الخمسمائة»، وهكذا ظن الساسة والشعب أن الأمور بدأت تستقر بشكل كبير، ولكن هذا لم يحدث.
حقيقة الأمر أن «حكومة المدراء» كانت أضعف من أن تستطيع السيطرة على البلاد، فالشعب كان في حالة ثورة ممتدة، الناس في حالة رفض للالتزام، والقوانين غير مطبقة وقطع الطرق والسرقات والقتل كان منتشرا في كل مكان، ناهيك ببداية ظهور حالة من الثورة في الغرب الفرنسي لرفض الناس اقتلاع ديانتهم حيث قاد رجال الدين الثورة بالاتفاق مع الشعب فيما معرف بثورة «الفانديي Vandee»، وقد ساءت الأمور أيضا بسبب قيام النمسا وبروسيا وإنجلترا بالدخول في حرب شعواء ضد النظام الثوري الفرنسي بعدما أعلنت القيادة الفرنسية أنها ستصدر الثورة ومفاهيمها إلى القارة الأوروبية ككل، ولسوء حظ الحكومة الفرنسية فإن جيوشها لاقت الهزيمة تلو الأخرى وهو ما تغير بعدما تولى نابليون بونابرت قيادة جيوشها في إيطاليا وحقق بعض النصر وتلا ذلك بعض الانتصارات الأخرى في بلجيكا وعلى الحدود الألمانية، وعند هذا الحد بدأ الجميع يدرك أن النظام السياسي الجديد غير فعال وغير قادر على احتواء المشكلات وتقديم الخبز للمواطن الفرنسي.
في ظل هذه الظروف الفرنسية الصعبة، بدأت قيادة فرنسية جديدة تلوح في الأفق وتستغل كل إخفاقات حكومة المدراء الضعيفة، كانت هذه شخصية تميزت بثلاث صفات أساسية كفلت لها النجاح، فلقد كانت عبقرية عسكرية بكل ما تعنيه الكلمة ولها باع كبير بين الشعب الفرنسي، كما أنها كانت عقلية إدارية فذة وذات رؤية ثاقبة، وإن جاز لنا أن نضيف فإن الحظ كان في كثير من الأوقات حليفها، إنها شخصية نابليون بونابرت، هذا الفتى الكورسيكي الذي تعلم الفرنسية في طفولته بعدما انضمت جزيرته لتصبح جزءا من فرنسا، فدخل الكلية العسكرية ثم سرعان ما تخصص في المدفعية وانخرط في الجيش في الوقت الذي بدأت فرنسا تعج بالثورة فأتاحت له هذه المتغيرات فرص التقدم في العسكرية، خصوصا بعدما أثبت نفسه بجدارة خاصة أثناء حصار مدينة «تولون» الساحلية، فحمى المدينة ببطولة خارقة بفضل تحريك مدفعيته ضد هجوم عناصر الثورة المضادة بالتعاون مع الإنجليز، ولكن الذي لفت الانتباه له كان عندما تعرضت الجمعية الوطنية لمحاولة اعتداء من قبل العامة، فأمر نابليون باستخدام مدفعيته وحمى البرلمان ولكن بعد مقتل ما يقرب من ثمانمائة مواطن فرنسي، وعند هذا الحد بدأت الأعين الثورية تنظر له على اعتباره بطلا عسكريا يمكن الاعتماد عليه، وهو ما فتح له المجال ليتم تعيينه على قيادة الجيوش الفرنسية في إيطاليا لمحاربة النمساويين خلال عامي 1796 و1797، وقد أبهر الرجل الجميع بانتصاراته العسكرية هناك، فأصبح حديث كل فرنسا وسط حالتها المتردية، فالنصر العسكري رفع الروح المعنوية للشعب الفرنسي والذي أصبح تواقا لمزيد من الانتصارات من هذا الفتى العبقري، ولعل نشاطه البارز كان سببا في إرساله على رأس حملة إلى مصر والشام لضرب خطوط الاتصالات بين إنجلترا ومستعمراتها في الهند وإقامة دولة فرنسية قاعدتها مصر، ولكنها حملة سرعان ما باءت بالفشل وعاد نابليون هاربا ولكنه استطاع أن يقنع العامة ببطولته العسكرية وتحويل الهزيمة إلى نصر، وعند هذا الحد بدأت الأمور في باريس تضطرب وأصبحت حكومة المدراء في حالة تذبذب وشبه انهيار.
حقيقة الأمر أن كتب التاريخ سجلت مؤامرة ضد هذه الحكومة والتي بدأت تحاك للقضاء عليها لضعفها وعدم قدرتها على المضي قدما في وقف الفوضى، وعلى رأسها مؤامرة ربطت بين نابليون من ناحية وعدد من أعضاء مجلسي الحكماء والخمسمائة، وبالتعاون مع بعض الشخصيات المهمة، وهو ما أسفر عن القضاء على حكومة المدراء وتعيين ثلاثة قناصل بدلا منهم على رأسهم نابليون واثنين آخرين رغم بعض المعارضة في المجالس النيابية، والملاحظ أن هذه الخطوة وإن كان لها من يعاديها في البرلمان والساحة السياسة إلا أنها لاقت رضاء عاما من الشعب والذي ضاق ذرعا من ضعف الحكومة وحالة الفوضى والثورة الممتدة في البلاد، بل إن هذه الخطوة نزلت بردا وسلاما عليه.
ولم يكن نابليون ليفوت الفرصة بفراسته السياسية وحكمته الإدارية، فسرعان ما وضع دستورا جديدا أقره الشعب في 1799 بعيدا عن المهاترات السياسية، وأقر إقامة برلمان من مجلسين، وسرعان ما تم تعيينه «القنصل الأول»، ولكن التخلص من القنصلين الآخرين كان مسألة وقت لا غير، فلقد بدأ الرجل على الفور يشد من أزر قوته السياسية من خلال الأعمال الإصلاحية الناجحة، فلقد قضى تماما على حالة الفوضى وقطع الطرق والإرهاب، ثم بدأ عملية مصالحة واسعة النطاق أعادت كل طوائف المجتمع المهمشة بسبب الثورة وعلى رأسهم طبقة النبلاء، واتخذ خطوات عملية من أجل تثبيت الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وفي حركة عسكرية جريئة غادر نابليون باريس على رأس جيش استطاع في عجالة أن يهزم النمساويين في معركة «مارنجو» الشهيرة والتي كفلت له السلام بإخراج النمسا من التحالف الدولي وتبعتها روسيا، وهو ما أجبر إنجلترا على التوقيع على صلح «إميان» الشهير والذي بمقتضاه ذاقت فرنسا طعم السلام بعد سنوات طويلة من الحروب التي استنزفت مواردها وطاقاتها وشبابها.
وعلى الفور بدأ نابليون يصلح ما أفسدته الثورة، فعلى الرغم من أنه احتفظ بمفاهيم الثورة الأساسية وعلم الثورة وغيرها من الأمور، إلا أنه كان أكثر حكمة من أن يسمح باستمرار التطرف الثوري، فسرعان ما رأب الصدع بين الدولة الفرنسية والكنيسة الكاثوليكية من خلال اتفاقية «الكونكوردات Concordat» التي وقعها مع البابا والتي بمقتضاها أعاد حق العبادة للكاثوليك معترفا بأن الكاثوليكية هي ديانة الأغلبية، ثم أعقب ذلك خطوات واضحة من أجل تنظيم البلاد إداريا وبناء الطرق والكباري وشق القنوات وإنشاء بنك مركزي وتنظيم النظام الضريبي بعدما أعاد السلام الاجتماعي والسياسي لفرنسا.
هكذا منح نابليون للشعب الفرنسي كل ما كان يتمناه بعد سنوات طويلة من العناء والثورة والدم والتغيير والتخبط الفكري والتطبيقي، فلقد منح الرجل فرنسا الاستقرار على أسس سياسية وقانونية معروفة بل وراقت للشعب، وهي الأمور التي دفعت الأغلبية لمنحه لقب «قنصل مدى الحياة» ثم بعد ذلك منحه لقب إمبراطور في احتفال مهيب شهدته كل أوروبا، وبذلك أصبح نابليون بونابرت القابض على أمور فرنسا منذ ذلك التاريخ.
وهكذا اعتنق الشعب الفرنسي فكر «روسو» فاعتنق الثورية وتخلص من الملك، ثم فشلت قياداته المتعاقبة في تطبيق مبادئ الثورة التي نادت بها من الأساس، ثم جاءت الثورة المضادة، ثم الثورة العكسية والفوضى، فلم تسترح فرنسا إلا بعدما اتفقت على شخصية نابليون بونابرت قائدا للبلاد، ولكن حديث الثورة الفرنسية لم ينته بعد.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».