نظرة إلى التطرف والإرهاب في منطقة الصحراء والساحل

وسط تداخل المصالح الدولية واستغلال الدين مع الصراعات الإثنية المحلية

سيارات مدمرة بفعل هجوم نفذته «بوكو حرام» في ميديغوري شمال شرق نيجيريا سبتمبر الماضي (أ.ف.ب)
سيارات مدمرة بفعل هجوم نفذته «بوكو حرام» في ميديغوري شمال شرق نيجيريا سبتمبر الماضي (أ.ف.ب)
TT

نظرة إلى التطرف والإرهاب في منطقة الصحراء والساحل

سيارات مدمرة بفعل هجوم نفذته «بوكو حرام» في ميديغوري شمال شرق نيجيريا سبتمبر الماضي (أ.ف.ب)
سيارات مدمرة بفعل هجوم نفذته «بوكو حرام» في ميديغوري شمال شرق نيجيريا سبتمبر الماضي (أ.ف.ب)

تعيش منطقة الساحل والصحراء وسط اضطرابات أمنية متزايدة؛ في الوقت الذي يؤكد كثير من الدراسات وتحليلات مراكز الأبحاث، أن حالة عدم الاستقرار الأمني بهذه المنطقة مرشحة لمزيد من التصعيد، لأسباب إثنية وسياسية وجغرافية مجالية. ويبدو أن تزايد خطر التنظيمات الإرهابية هو ما دفع القوى الدولية والإقليمية المهتمة بمكافحة الإرهاب إلى بذل مزيد من الجهود بالساحل الأفريقي بقصد الحد من التهديد الذي تمثله التنظيمات المتطرفة المتعددة المستوطنة بالساحل والصحراء.
عززت الولايات المتحدة الأميركية من وجودها العسكري في منطقة الصحراء الكبرى والساحل، بشمال غربي أفريقيا، وهي حالياً تقوم ببناء أكبر قاعدة عسكرية في تاريخها بالنيجر بحلول 2024. وفي الواقع، فإن واشنطن تبني قاعدتين لطائرات من دون طيار، ستستعملها القوات الأميركية في إدارة جميع المهام الجوية التي تندرج تحت إطار مكافحة «الإرهاب» بالساحل. وقد اختارت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، بناء القاعدة الأولى في الشمال الغربي للنيجر؛ بينما تتمركز الأخرى، في الشمال الشرقي للبلاد. ويتوزع الإشراف على القاعدتين بين البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية (سي آي آيه).
غير أن القاعدتين لهما هدف واحد، يتمثل في مواجهة الإرهابيين بدول الساحل، وغرب أفريقيا. وينظر الأميركيون بعيون استراتيجية لقاعدتهم بضواحي مدينة أغاديز، القريبة من أحد مفترقات الطرق الرئيسية في الصحراء، وتسمى هذه القاعدة «إيه بي 201». وتعتبر واشنطن أن موقع القاعدة العسكرية، يمكنها من الوصول إلى غرب أفريقيا ودول الساحل؛ ولذلك تعمل إدارة ترمب على جعلها أكبر قواعد القوات الجوية الأميركية في التاريخ المعاصر؛ ويتمركز فيها بشكل دائم 650 جندياً من القوات الخاصة، من أصل 800 موجودين بالنيجر.
وكانت واشنطن، قد حددت تمويلها الأول في حدود 50 مليون دولار؛ غير أنه اتضح أن عملية البناء تتطلب أموالاً طائلة، وقال الخبراء إن تكلفة التشييد ستفوق 280 مليون دولار بحلول سنة 2024، إضافة إلى أجور العاملين في القاعدة.
من جانب آخر، كشفت صحيفة «نيويورك تايمز»، عن أن «سي آي آيه» بنت قاعدتها العسكرية الخاصة في منطقة ديركو القريبة من الحدود الليبية والتشادية، منذ شهر يناير (كانون الثاني) 2017. ويعتقد أن هذه القاعدة مخصصة للرصد وتحديد مواقع الجماعات الإرهابية، وتعقب حركتها في الصحراء الكبرى. ويبدو كذلك أن وجود نوع من هذه القوات بالمنطقة لا ينفصل عن السياسة الجديدة لإدارة الرئيس الحالي ترمب في مواجهة الإرهاب في غرب أفريقيا والساحل والصحراء.
ذلك أنه يوجد حالياً ما يقرب من 7500 من العسكريين الأميركيين بأفريقيا؛ بما في ذلك 1000 فرد متعهد بالعمل مع الجيش الأميركي، منتشرين في أفريقيا، علماً بأن سنة 2017 كان فيها عدد القوات الأميركية لا يتعدى 6000 جندي فقط.
بالنسبة لقاعدة أغاديز، فإنها ستستضيف طائرات MQ - 9 Reaper من دون طيار، التي سينطلق نشاطها عام 2019. ورغم أن القاعدة تعرف نشاطاً كبيراً، حيث استعملت منذ مارس (آذار) 2018 لمهاجمة مدينة أوباري الليبية؛ فإن دخول هذا النوع من الطائرات للعمل من شأنه أن يشكل منعطفاً في المواجهة مع التنظيمات الإرهابية لما لطائرات MQ - 9 Reaper من خصائص، منها قدرتها على قطع مسافة 1150 ميلاً، في طريقها لجمع المعلومات الاستخباراتية.
وحسب أحدث تقرير حول الموضوع منشور من طرف «مؤسسة الثقافة الاستراتيجية»؛ فإن الطائرة يمكن أن تحمل قنابل GB - 12 Paveway II. وتتميز بأن لها الرادار ذا الفتحة التركيبية لدمج ذخائر الهجوم المباشر المشترك GBU - 38. كما يمكنها استعمال أربعة صواريخ مضادة للأفراد من طراز هيلفاير. وبحسب «مؤسسة الثقافة الاستراتيجية» في دراسة أخيرة لها نشرت بموقعها على الإنترنيت يوم 31 أغسطس (آب) 2018؛ فإن السياسة الأميركية الجديدة لمحاربة الإرهاب بالساحل والصحراء، تديرها القيادة الأميركية الأفريقية (AFRICOM). وتعتمد برامج مراقبة من دون طيار، وشن غارات عبر الحدود، وجمع معلومات استخباراتية. من جهة أخرى، أعلنت «أفريكوم» مسؤوليتها عن التنمية والصحة العامة والتدريب المهني، والأمني والمهام الإنسانية الأخرى بالمنطقة.
ويشارك مسؤولون عدة من وزارات الخارجية، والأمن الوطني، والزراعة، والطاقة، والتجارة، والعدل، ومن بين وكالات أخرى، في أنشطة «أفريكوم» بالمنطقة. وهذا ما يفسر حسب «مؤسسة الثقافة الاستراتيجية» كون عدد الملحقين العسكريين الأميركيين الموجودين بسفاراتهم بأفريقيا، يتفوق على عدد الدبلوماسيين في الكثير من الدول الأفريقية.

- «بوكو حرام» في قلب المشهد
في هذا السياق، نشرت الباحثة كاثرين دوكرم دراسة لها يوم 9 أكتوبر (تشرين الأول) 2018، بالمدونة الرسمية لوزارة الخارجية الأميركية بعنوان «نقل المعركة إلى بوكو حرام: صندوق الطوارئ الأمن العالمي يعزز قطاع الأمن في تشاد». تشير فيها، إلى وجه آخر من الجهود العملية المالية والأمنية، التي تحاول أميركا إنجازها على الأرض بمنطقة الساحل والصحراء.
حيث تعتمد على خطط «صندوق الطوارئ للأمن العالمي» الذي تديره بشكل مشترك، وزارتا الدفاع والخارجية الأميركيتان. وبحسب كاثرين دوكرم، فالصندوق يهدف إلى مواجهة التحديات الواقعية لدول تشاد، والنيجر، ونيجيريا، والكامرون؛ من «خلال الجمع بين الدبلوماسية والدفاع لتقديم الدعم إلى مؤسسات الأمن وإنفاذ القانون في الدول الشريكة لمعالجة التحديات والفرص الناشئة التي نعتبرها مهمة للأمن القومي للولايات المتحدة ومصالح سياستنا الخارجية. وقد استثمر الصندوق بين عامي 2015 و2017، مبلغ 40 مليون دولار أميركي من خلال المؤسسة العامة للغذاء. صرفت على تدريب والتزويد بمعدات لقوات الأمن وحرس الحدود، وغيرها من منظمات قطاع الأمن في تشاد، والنيجر، ونيجيريا والكاميرون؛ لزيادة قدرة منظمات قطاع الأمن في حوض بحيرة تشاد على الاستجابة للتهديدات من المنظمات الإرهابية عبر الوطنية».
ورغم أن لمثل هذا البرنامج نتائج مهمة، وبخاصة على مستوى تعاون الدول لتأمين الحدود المشتركة؛ فإن ذلك لا ينفي أن التهديدات التي تمثلها «جماعة بوكو حرام»، وغيرها من المنظمات الإرهابية الناشطة بالساحل وفي بحيرة تشاد، تظل قائمة. غير أن الباحثة كاثرين دوكرم، تؤكد أن مشروع «صندوق الطوارئ للأمن العالمي»، ساعد دول منطقة بحيرة تشاد على تطوير استراتيجيات وطنية لأمن الحدود وزيادة العمل المشترك بين الوزارات والتعاون. وقام المشاركون في التدريب بوضع استراتيجيات وطنية لأمن الحدود ومشاركتها مع بلدان أخرى في المنطقة. كما تم تحسين نظام الاتصالات عبر الحدود؛ وتتبادل الدول المعنية الآن بشكل روتيني المعلومات مع موظفين من منظمات أمنية أخرى. سواء داخل تشاد أو مع بلدان أخرى، في منطقة بحيرة تشاد. وقد بدأت تلك الدول تبادل المعلومات الأمنية استخباراتياً في الوقت المناسب؛ مما قوى الجانب الأمني للمنطقة.

- عوامل محلية صراعية
ورغم كل هذه الجهود العسكرية والأمنية الأميركية، فإن هناك من يرى أن المعركة الدولية مع الظاهرة الإرهابية وتناسل تنظيماتها بالساحل والصحراء؛ يقتضي الرجوع إلى الأسباب المركزية للظاهرة، والمتمثلة في الصراعات الإثنية والسياسية والجغرافية المجالية.
الطابع المحلي لظاهرة الإرهاب يبقى أحد أهم مفاتيح فهم حركة التمرد المنعش للإرهاب المتمسح مسوح الدين. ذلك أن الظروف المحلية، ووجود القوات الأجنبية سواء الأميركية أو الفرنسية بالمنطقة، عاملان يعقدان من الوضع الحالي؛ على اعتبار أن التدخلات والقواعد الأجنبية، تحمل في طياتها استراتيجية لحماية المصالح الأجنبية بالمنطقة. وبينما ينظر إليها رسمياً، على أنها سياسة للقضاء على الأسباب الحقيقية للإرهاب، يواجه شعبياً بالمقاومة المسلحة. وهذا الوجود الأجنبي سواء كان مؤسساً، كما هو الحال بالنسبة لقوات «جيش الساحل» (ج 5)، أو القوات الخاصة الأميركية وقواعدها بالنيجر؛ ينظر إليه من طرف السكان المحليين بكونه سيطرة أجنبية على أراضيهم وثرواتهم.
في هذا السياق، تشير دراسة للباحث الأميركي بمعهد هدسون ومعهد المؤسسة الأميركية، تيم كوك؛ بمجلة «جور تاوان» للدراسات الأمنية نشرت يوم 7 أكتوبر 2018 بعنوان «جهاد جنوب الصحراء: الجذور المحلية للعنف العابر للحدود»، أن هناك عوامل محلية إثنية وسياسية وجغرافية مجالية، في غاية التعقيد يجب على الدول الكبرى المناهضة للإرهاب العمل على معالجتها. فرغم كون شعب الفلاني يشكل أكبر إثنية بمنطقة الساحل وتنتشر في معظم دوله، فإنه لا يزال مهضوم الحقوق ومهمشاً سياسياً واقتصادياً في عدد من كيانات المنطقة. ويؤكد تيم كوك، أن «منطقة الساحل نفسها انقلبت ضدهم مع تغير المناخ وأساليب إدارة الأراضي السيئة التي تحول أراضيهم العشبية إلى صحراء. واضطرت المجموعة إلى التعدي على الأراضي الزراعية؛ بحثاً عن المياه والأرض الصالحة للاستخدام من أجل الماشية. وقد أدت هذه التوغلات إلى نزاعات عنيفة بين المزارعين والرعاة الذين أدانوا الفولاني في جميع أنحاء المنطقة»؛ غير أن ظروف الجفاف وقسوة الطبيعة، تجعل من عملية التعايش السلمي، أمراً صعباً في الوقت الحالي.
ومن هنا يقترح الباحث الأميركي على مجموعة «ج 5»، «أن تنظر في التوترات العرقية القديمة والمخاوف البيئية التي تزكي النزاعات. يجب أن توفر الحلول المستدامة حلولاً واقعية لإدارة الأراضي، وأن تدمج الفجوات بين الفولاني والمجموعات الإثنية الأخرى. في حين أن الشراكات الأمنية الدولية كانت ضرورية للحفاظ على الاستقرار، يجب معالجة هذه التحديات على المستوى المحلي. إذا كانت التجارب الماضية هي أي درس، فإن بناء السلام في منطقة الساحل يتطلب الصبر والبراغماتية، والاستعداد لتقاسم السلطة بصورة عادلة. لقد بدأت للتو عملية استيعاب المخاوف الأساسية للفولاني، ومن المرجح أن تستمر لسنوات عدة صعبة.
وبكلمة، أن التوترات العرقية التي تواجهها المنطقة خلقت حالة من «الجهاد الفولاني»؛ وبخاصة مع تنامي الإحساس بأن تدخل الجيش المالي، كان يقف في العادة مع شعب البامبارا، وقام باعتقالات تعسفية وانتهاكات حقوق الإنسان ضد الفولاني؛ مما أدى إلى تفاقم شعور الجماعة بالاغتراب والانخراط الجماعي في تنظيم إياد أغ غالي «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» التي أسست بداية 2017.
كما أن البامبارا، الذين يمثلون أكبر إثنية في مالي، شكلوا جماعات أهلية مسلحة لحماية مناطقهم وأفرادهم من عنف القوات المتعددة الأطراف، وكذا لتسوية النزاعات بين المزارعين والرعاة. وعليه؛ فإن زيادة هذه التوترات في غياب الحكامة، وضعف الجيش الوطني بمالي، كلها عوامل تجعل من هذه الدولة وعرقياتها المنتشرة بدول الجوار وقوداً للجماعات الإرهابية الرافعة شعارات الدين.

- أستاذ زائر للعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس - المغرب


مقالات ذات صلة

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

أفريقيا أنصار مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي يحضرون مسيرة حاشدة في أثناء فرز نتائج الانتخابات الرئاسية (إ.ب.أ)

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

مباحثات جرت، الجمعة، بين الرئيس الروسي ونظيره السنغالي، وتم خلالها الاتفاق على «تعزيز الشراكة» بين البلدين، والعمل معاً من أجل «الاستقرار في منطقة الساحل»

الشيخ محمد (نواكشوط)
شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.