نظرة إلى التطرف والإرهاب في منطقة الصحراء والساحل

وسط تداخل المصالح الدولية واستغلال الدين مع الصراعات الإثنية المحلية

سيارات مدمرة بفعل هجوم نفذته «بوكو حرام» في ميديغوري شمال شرق نيجيريا سبتمبر الماضي (أ.ف.ب)
سيارات مدمرة بفعل هجوم نفذته «بوكو حرام» في ميديغوري شمال شرق نيجيريا سبتمبر الماضي (أ.ف.ب)
TT

نظرة إلى التطرف والإرهاب في منطقة الصحراء والساحل

سيارات مدمرة بفعل هجوم نفذته «بوكو حرام» في ميديغوري شمال شرق نيجيريا سبتمبر الماضي (أ.ف.ب)
سيارات مدمرة بفعل هجوم نفذته «بوكو حرام» في ميديغوري شمال شرق نيجيريا سبتمبر الماضي (أ.ف.ب)

تعيش منطقة الساحل والصحراء وسط اضطرابات أمنية متزايدة؛ في الوقت الذي يؤكد كثير من الدراسات وتحليلات مراكز الأبحاث، أن حالة عدم الاستقرار الأمني بهذه المنطقة مرشحة لمزيد من التصعيد، لأسباب إثنية وسياسية وجغرافية مجالية. ويبدو أن تزايد خطر التنظيمات الإرهابية هو ما دفع القوى الدولية والإقليمية المهتمة بمكافحة الإرهاب إلى بذل مزيد من الجهود بالساحل الأفريقي بقصد الحد من التهديد الذي تمثله التنظيمات المتطرفة المتعددة المستوطنة بالساحل والصحراء.
عززت الولايات المتحدة الأميركية من وجودها العسكري في منطقة الصحراء الكبرى والساحل، بشمال غربي أفريقيا، وهي حالياً تقوم ببناء أكبر قاعدة عسكرية في تاريخها بالنيجر بحلول 2024. وفي الواقع، فإن واشنطن تبني قاعدتين لطائرات من دون طيار، ستستعملها القوات الأميركية في إدارة جميع المهام الجوية التي تندرج تحت إطار مكافحة «الإرهاب» بالساحل. وقد اختارت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، بناء القاعدة الأولى في الشمال الغربي للنيجر؛ بينما تتمركز الأخرى، في الشمال الشرقي للبلاد. ويتوزع الإشراف على القاعدتين بين البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية (سي آي آيه).
غير أن القاعدتين لهما هدف واحد، يتمثل في مواجهة الإرهابيين بدول الساحل، وغرب أفريقيا. وينظر الأميركيون بعيون استراتيجية لقاعدتهم بضواحي مدينة أغاديز، القريبة من أحد مفترقات الطرق الرئيسية في الصحراء، وتسمى هذه القاعدة «إيه بي 201». وتعتبر واشنطن أن موقع القاعدة العسكرية، يمكنها من الوصول إلى غرب أفريقيا ودول الساحل؛ ولذلك تعمل إدارة ترمب على جعلها أكبر قواعد القوات الجوية الأميركية في التاريخ المعاصر؛ ويتمركز فيها بشكل دائم 650 جندياً من القوات الخاصة، من أصل 800 موجودين بالنيجر.
وكانت واشنطن، قد حددت تمويلها الأول في حدود 50 مليون دولار؛ غير أنه اتضح أن عملية البناء تتطلب أموالاً طائلة، وقال الخبراء إن تكلفة التشييد ستفوق 280 مليون دولار بحلول سنة 2024، إضافة إلى أجور العاملين في القاعدة.
من جانب آخر، كشفت صحيفة «نيويورك تايمز»، عن أن «سي آي آيه» بنت قاعدتها العسكرية الخاصة في منطقة ديركو القريبة من الحدود الليبية والتشادية، منذ شهر يناير (كانون الثاني) 2017. ويعتقد أن هذه القاعدة مخصصة للرصد وتحديد مواقع الجماعات الإرهابية، وتعقب حركتها في الصحراء الكبرى. ويبدو كذلك أن وجود نوع من هذه القوات بالمنطقة لا ينفصل عن السياسة الجديدة لإدارة الرئيس الحالي ترمب في مواجهة الإرهاب في غرب أفريقيا والساحل والصحراء.
ذلك أنه يوجد حالياً ما يقرب من 7500 من العسكريين الأميركيين بأفريقيا؛ بما في ذلك 1000 فرد متعهد بالعمل مع الجيش الأميركي، منتشرين في أفريقيا، علماً بأن سنة 2017 كان فيها عدد القوات الأميركية لا يتعدى 6000 جندي فقط.
بالنسبة لقاعدة أغاديز، فإنها ستستضيف طائرات MQ - 9 Reaper من دون طيار، التي سينطلق نشاطها عام 2019. ورغم أن القاعدة تعرف نشاطاً كبيراً، حيث استعملت منذ مارس (آذار) 2018 لمهاجمة مدينة أوباري الليبية؛ فإن دخول هذا النوع من الطائرات للعمل من شأنه أن يشكل منعطفاً في المواجهة مع التنظيمات الإرهابية لما لطائرات MQ - 9 Reaper من خصائص، منها قدرتها على قطع مسافة 1150 ميلاً، في طريقها لجمع المعلومات الاستخباراتية.
وحسب أحدث تقرير حول الموضوع منشور من طرف «مؤسسة الثقافة الاستراتيجية»؛ فإن الطائرة يمكن أن تحمل قنابل GB - 12 Paveway II. وتتميز بأن لها الرادار ذا الفتحة التركيبية لدمج ذخائر الهجوم المباشر المشترك GBU - 38. كما يمكنها استعمال أربعة صواريخ مضادة للأفراد من طراز هيلفاير. وبحسب «مؤسسة الثقافة الاستراتيجية» في دراسة أخيرة لها نشرت بموقعها على الإنترنيت يوم 31 أغسطس (آب) 2018؛ فإن السياسة الأميركية الجديدة لمحاربة الإرهاب بالساحل والصحراء، تديرها القيادة الأميركية الأفريقية (AFRICOM). وتعتمد برامج مراقبة من دون طيار، وشن غارات عبر الحدود، وجمع معلومات استخباراتية. من جهة أخرى، أعلنت «أفريكوم» مسؤوليتها عن التنمية والصحة العامة والتدريب المهني، والأمني والمهام الإنسانية الأخرى بالمنطقة.
ويشارك مسؤولون عدة من وزارات الخارجية، والأمن الوطني، والزراعة، والطاقة، والتجارة، والعدل، ومن بين وكالات أخرى، في أنشطة «أفريكوم» بالمنطقة. وهذا ما يفسر حسب «مؤسسة الثقافة الاستراتيجية» كون عدد الملحقين العسكريين الأميركيين الموجودين بسفاراتهم بأفريقيا، يتفوق على عدد الدبلوماسيين في الكثير من الدول الأفريقية.

- «بوكو حرام» في قلب المشهد
في هذا السياق، نشرت الباحثة كاثرين دوكرم دراسة لها يوم 9 أكتوبر (تشرين الأول) 2018، بالمدونة الرسمية لوزارة الخارجية الأميركية بعنوان «نقل المعركة إلى بوكو حرام: صندوق الطوارئ الأمن العالمي يعزز قطاع الأمن في تشاد». تشير فيها، إلى وجه آخر من الجهود العملية المالية والأمنية، التي تحاول أميركا إنجازها على الأرض بمنطقة الساحل والصحراء.
حيث تعتمد على خطط «صندوق الطوارئ للأمن العالمي» الذي تديره بشكل مشترك، وزارتا الدفاع والخارجية الأميركيتان. وبحسب كاثرين دوكرم، فالصندوق يهدف إلى مواجهة التحديات الواقعية لدول تشاد، والنيجر، ونيجيريا، والكامرون؛ من «خلال الجمع بين الدبلوماسية والدفاع لتقديم الدعم إلى مؤسسات الأمن وإنفاذ القانون في الدول الشريكة لمعالجة التحديات والفرص الناشئة التي نعتبرها مهمة للأمن القومي للولايات المتحدة ومصالح سياستنا الخارجية. وقد استثمر الصندوق بين عامي 2015 و2017، مبلغ 40 مليون دولار أميركي من خلال المؤسسة العامة للغذاء. صرفت على تدريب والتزويد بمعدات لقوات الأمن وحرس الحدود، وغيرها من منظمات قطاع الأمن في تشاد، والنيجر، ونيجيريا والكاميرون؛ لزيادة قدرة منظمات قطاع الأمن في حوض بحيرة تشاد على الاستجابة للتهديدات من المنظمات الإرهابية عبر الوطنية».
ورغم أن لمثل هذا البرنامج نتائج مهمة، وبخاصة على مستوى تعاون الدول لتأمين الحدود المشتركة؛ فإن ذلك لا ينفي أن التهديدات التي تمثلها «جماعة بوكو حرام»، وغيرها من المنظمات الإرهابية الناشطة بالساحل وفي بحيرة تشاد، تظل قائمة. غير أن الباحثة كاثرين دوكرم، تؤكد أن مشروع «صندوق الطوارئ للأمن العالمي»، ساعد دول منطقة بحيرة تشاد على تطوير استراتيجيات وطنية لأمن الحدود وزيادة العمل المشترك بين الوزارات والتعاون. وقام المشاركون في التدريب بوضع استراتيجيات وطنية لأمن الحدود ومشاركتها مع بلدان أخرى في المنطقة. كما تم تحسين نظام الاتصالات عبر الحدود؛ وتتبادل الدول المعنية الآن بشكل روتيني المعلومات مع موظفين من منظمات أمنية أخرى. سواء داخل تشاد أو مع بلدان أخرى، في منطقة بحيرة تشاد. وقد بدأت تلك الدول تبادل المعلومات الأمنية استخباراتياً في الوقت المناسب؛ مما قوى الجانب الأمني للمنطقة.

- عوامل محلية صراعية
ورغم كل هذه الجهود العسكرية والأمنية الأميركية، فإن هناك من يرى أن المعركة الدولية مع الظاهرة الإرهابية وتناسل تنظيماتها بالساحل والصحراء؛ يقتضي الرجوع إلى الأسباب المركزية للظاهرة، والمتمثلة في الصراعات الإثنية والسياسية والجغرافية المجالية.
الطابع المحلي لظاهرة الإرهاب يبقى أحد أهم مفاتيح فهم حركة التمرد المنعش للإرهاب المتمسح مسوح الدين. ذلك أن الظروف المحلية، ووجود القوات الأجنبية سواء الأميركية أو الفرنسية بالمنطقة، عاملان يعقدان من الوضع الحالي؛ على اعتبار أن التدخلات والقواعد الأجنبية، تحمل في طياتها استراتيجية لحماية المصالح الأجنبية بالمنطقة. وبينما ينظر إليها رسمياً، على أنها سياسة للقضاء على الأسباب الحقيقية للإرهاب، يواجه شعبياً بالمقاومة المسلحة. وهذا الوجود الأجنبي سواء كان مؤسساً، كما هو الحال بالنسبة لقوات «جيش الساحل» (ج 5)، أو القوات الخاصة الأميركية وقواعدها بالنيجر؛ ينظر إليه من طرف السكان المحليين بكونه سيطرة أجنبية على أراضيهم وثرواتهم.
في هذا السياق، تشير دراسة للباحث الأميركي بمعهد هدسون ومعهد المؤسسة الأميركية، تيم كوك؛ بمجلة «جور تاوان» للدراسات الأمنية نشرت يوم 7 أكتوبر 2018 بعنوان «جهاد جنوب الصحراء: الجذور المحلية للعنف العابر للحدود»، أن هناك عوامل محلية إثنية وسياسية وجغرافية مجالية، في غاية التعقيد يجب على الدول الكبرى المناهضة للإرهاب العمل على معالجتها. فرغم كون شعب الفلاني يشكل أكبر إثنية بمنطقة الساحل وتنتشر في معظم دوله، فإنه لا يزال مهضوم الحقوق ومهمشاً سياسياً واقتصادياً في عدد من كيانات المنطقة. ويؤكد تيم كوك، أن «منطقة الساحل نفسها انقلبت ضدهم مع تغير المناخ وأساليب إدارة الأراضي السيئة التي تحول أراضيهم العشبية إلى صحراء. واضطرت المجموعة إلى التعدي على الأراضي الزراعية؛ بحثاً عن المياه والأرض الصالحة للاستخدام من أجل الماشية. وقد أدت هذه التوغلات إلى نزاعات عنيفة بين المزارعين والرعاة الذين أدانوا الفولاني في جميع أنحاء المنطقة»؛ غير أن ظروف الجفاف وقسوة الطبيعة، تجعل من عملية التعايش السلمي، أمراً صعباً في الوقت الحالي.
ومن هنا يقترح الباحث الأميركي على مجموعة «ج 5»، «أن تنظر في التوترات العرقية القديمة والمخاوف البيئية التي تزكي النزاعات. يجب أن توفر الحلول المستدامة حلولاً واقعية لإدارة الأراضي، وأن تدمج الفجوات بين الفولاني والمجموعات الإثنية الأخرى. في حين أن الشراكات الأمنية الدولية كانت ضرورية للحفاظ على الاستقرار، يجب معالجة هذه التحديات على المستوى المحلي. إذا كانت التجارب الماضية هي أي درس، فإن بناء السلام في منطقة الساحل يتطلب الصبر والبراغماتية، والاستعداد لتقاسم السلطة بصورة عادلة. لقد بدأت للتو عملية استيعاب المخاوف الأساسية للفولاني، ومن المرجح أن تستمر لسنوات عدة صعبة.
وبكلمة، أن التوترات العرقية التي تواجهها المنطقة خلقت حالة من «الجهاد الفولاني»؛ وبخاصة مع تنامي الإحساس بأن تدخل الجيش المالي، كان يقف في العادة مع شعب البامبارا، وقام باعتقالات تعسفية وانتهاكات حقوق الإنسان ضد الفولاني؛ مما أدى إلى تفاقم شعور الجماعة بالاغتراب والانخراط الجماعي في تنظيم إياد أغ غالي «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» التي أسست بداية 2017.
كما أن البامبارا، الذين يمثلون أكبر إثنية في مالي، شكلوا جماعات أهلية مسلحة لحماية مناطقهم وأفرادهم من عنف القوات المتعددة الأطراف، وكذا لتسوية النزاعات بين المزارعين والرعاة. وعليه؛ فإن زيادة هذه التوترات في غياب الحكامة، وضعف الجيش الوطني بمالي، كلها عوامل تجعل من هذه الدولة وعرقياتها المنتشرة بدول الجوار وقوداً للجماعات الإرهابية الرافعة شعارات الدين.

- أستاذ زائر للعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس - المغرب


مقالات ذات صلة

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟