بحث بنكهة آيرلندية عن معنى في قلب اللامعقول

قراءة في «بائع الحليب» لآنا بيرنز الفائزة بـ«بوكر» البريطانية

الروائية الآيرلندية آنا بيرنز وروايتها «بائع الحليب»
الروائية الآيرلندية آنا بيرنز وروايتها «بائع الحليب»
TT

بحث بنكهة آيرلندية عن معنى في قلب اللامعقول

الروائية الآيرلندية آنا بيرنز وروايتها «بائع الحليب»
الروائية الآيرلندية آنا بيرنز وروايتها «بائع الحليب»

إذا كان ثمة من خيط ذهبي يمتد ليربط بين الأعمال الثلاثة للروائية المنحدرة من آيرلندا الشمالية آنا بيرنز «بلا عظام – 2002» و«تشكيلات صغيرة – 2007» و«بائع الحليب»، التي توجت مؤخراً بجائزة «بوكر» للرواية 2018، فهو ذلك التسجيل المرهف والشديد الحساسية لمناخات العيش في أجواء الصراع الأهلي الذي عاشته بلفاست خلال سبعينات القرن الماضي، من انقسام وقبائلية وتناحر طائفي، وتفشي إساءة استعمال مصادر القوة من قبل مختلف الأطراف في ظل غياب الاستقرار الأمني. ومع أن نصوص بيرنز تنزع إلى شخصنة الحدث والتركيز على المشاعر التي تعتمل داخل صدور الشخصيات في مواجهة وقائع عبثية يومية تبدو شكلاً وكأن لا تماس مباشراً لها مع السياسة، إلا أن تقاطع تلك المشاعر تكتسب معنى عميقاً وحقيقياً، وتنتظم ببراعة مذهلة كمنطق أعلى وخلفية كونية لمعاناة البشر عندما تستعاد في أجواء التاريخ السياسي للمدينة. هذا البحث المضني عن المعنى في قلب العبثي واللامعقول يمنح أعمال آنا بيرنز نكهة آيرلندية لا تخفى، ويجعل منها تكريساً معاصراً لتقليد أدبي آيرلندي لم ينته بصموئيل بيكيت، ويكاد يكون فضاءً مغلقاً وملكية فكرية خاصة للكتاب المنحدرين من آخر الأراضي الأوروبية غرباً، فلا يجرؤ أدباء البقاع الأخرى على ارتياده. بيرنز التي مع ذلك لا ترغب في أن تُقرأ في سياق «بيكتي» محض أو أن تُعلب في خانة الأدب الآيرلندي الضيقة، ذهبت بسردية «بائع الحليب» إلى إسقاط الأسماء عن شخوص الرواية وشوارع مدينتهم لتنقلها إلى صعيد بشري كلي، حيث غياب بلفاست المغرقة في الرمادية وظلال الديستوبيا وكأنه حضور ساطع لكل مدينة تعيش على حافة الاختناق. ولولا إشارات باهتة هنا وهناك في ثنايا السرد إلى ماضي بلفاست لكانت «بائع الحليب» عملاً أقرب إلى ديستوبيا مارغريت آتوود الشهيرة «قصة خادمة منزلية»: أي صورة أزمنة مظلمة تنتظر البشر على المنعطف التالي لحياتهم القصيرة البائسة.
في ذلك، قد يبدو خيار هيئة تحكيم «بوكر» بمنح «بائع الحليب» جائزتها لهذا العام انحيازاً سياسياً صار متوقعاً إلى حد ما بوصفها صوتاً محسوباً على المؤسسة الثقافية البريطانية التي يطيب لها الترويج لعمل يظهر الأوضاع الحالية المستقرة في آيرلندا الشمالية تحت حكم المملكة المتحدة وكأنها جنان مقارنة بمرحلة السبعينات الصعبة. ومما يدفع باتجاه قراءة مثل تلك كون بيرنز تلمح في ثنايا سطور روايتها إلى أن الشخصية الشريرة الرئيسية التي تحمل لقب «بائع الحليب» هي قائد ميليشياوي في الجيش الجمهوري الآيرلندي. لكن وحتى لو كانت هذه القراءة مجرد تحميل ما لا يحتمل للنص، فإن الرواية تبدو بشكل أو بآخر كما بوح داخلي وسجل مشاعر لكاتبتها التي عاشت مراهقتها في تلك المرحلة بالفعل متجنبة السياسة والسياسيين كما تفعل الغالبية الصامتة في المجتمعات المقطعة الأوصال، متلهية بقراءة الروايات القديمة من قرن سابق لأنها لا تحتمل خفة الوجود التي تقدمها تجربة عيش القرن العشرين. ولما انتقلت بيرنز إلى لندن لدراسة اللغة الروسية في إحدى جامعاتها أحست بانقلاب طريقة إحساسها بالعالم والحياة على نحو دفعها لأن تقرأ بتعمق في كتب السياسة والتاريخ المتعلقة بالمسألة الآيرلندية محاولة لفهم حالة اللامعقول التي عايشتها بنفسها في ذلك الصندوق المغلق المسمى بلفاست، التي يستحيل تفكيكها دون القبض على تقمصات السياسة عبر تقلبات الأيام. ولذا؛ فلا مندوحة من سماع صوت بيرنز نفسها يأتينا مغلفاً بشخصية بطلتها التي لا يعرف لها اسم وتصفها بالأخت الوسطى فحسب. الروائية التي تحدثت عن تجربتها في الكتابة وكأنها عملية انتظار طويل: - «ترتدي ثيابك، وتجلس بانتظار الشخصيات لحين أن تأتيك وتشرع بسرد حكاياتها لك» - لا بد أنها كانت تقرأ كوابيسها ومخاوفها الذاتية في حكايات تلك الشخصيات المتخيلة.
تسرد الكاتبة أحداث «بائع الحليب» على لسان تلك «الأخت الوسطى» التي تبلغ من العمر 18 عاماً ويلاحقها ميليشياوي بضعف عمرها محاولاً إغواءها، مستقوياً بالسلطة التي يتمتع بها في وقت لا أحد من قاطني بلفاست يتصل بالشرطة (البريطانية) إلا ربما لإيقاعها في كمين إطلاق النار عليها.
«بائع الحليب» وفق الرواية ما هو إلا اسم حركي لذلك الميليشياوي المرعب الذي تقول عنه الأخت الوسطى «لا أعرف من هو بائع الحليب هذا. بالتأكيد هو ليس بائع الحليب في منطقتنا، ولا أي منطقة أخرى. بل ربما هو أصلاً ليس بائع حليب بالمرة». ومع ذلك؛ فإن هنالك ثمة بائع حليب في كل حي، يهدد كل «أخت وسطى» بأنه سيقتل رفيقها أو أخاها إن هي لم تستسلم لنزواته. تعيش البطلة إحساساً خانقاً بالعدمية والعجز في مواجهة المطاردة الدائمة من بائع الحليب، ولا سيما أن الإشاعات بدأت تتردد في مجتمعها المرتعد المغلق على ذاته بأنها على علاقة به وأنها محظيته الخاصة. وهكذا يتداخل الشأن الخاص بالشأن العام وتتقاطع الأحداث لتجعل أيامها أشبه بلحظات طريدة وقعت في مصيدة وتنتظر مصيرها بلا حول ولا قوة، وهي فترة ستجد كثير من النساء العربيات المحاصرات داخل مجتمعات مغلقة ومنشطرة أنها تعيش أو عاشت مثلها على مستوى ما ربما في بيروت الحرب الأهلية أو جزائر العشرية السوداء أو الأزمة السورية المعاصرة.
لا تذكر بيرنز العنف مباشرة ولا تسرد أياً من أحداثه، لكنها تستعرض بعيني الفتاة اليافعة تمثلاته مدققة بنتائج حضوره الطيفي المختبئ وراء انقسامات طبقية أو طائفية، وفي خضوع الأغلبية الذليل للزعامات المحلية والبطريركيات الجندرية والعمرية والدينية، وفي مناخ الخوف والبارانويا والالتباسات النفسية.
يعيب البعض على الكاتبة بأن سرديتها الممتدة عبر رواياتها الثلاث تشير إلى أنها لا تزال رهينة العيش في مرحلة مؤسفة، لكنها انقضت من تاريخ آيرلندا الشمالية، بينما معظم الجيل الحالي من سكان بلفاست ولدوا بعدها، وصارت لهم هموم جديدة مختلفة تماماً عن هموم جيل السبعينات. لكن تلك تماماً مأساتها التي تحوك منها أقمشة خيالاتها؛ إذ إن البشر الذين يخضعون لتجربة العيش في ظل المجتمعات المخنوقة بالخوف والعجز والحصار الاجتماعي تغيرهم تلك التجربة بشكل جذري فلا هم يخرجون من خوفهم، ولا يخرج خوفهم منهم حتى وإن تغيرت مساراتهم لاحقاً أو رحلوا إلى مدن أقل اختناقاً.
نثر «بائع الحليب» ليس سهلاً ويتطلب جهداً كبيراً قبل أن يُلقي بمفاتيحه إلى القارئ. ومع ذلك؛ فإن صوتها الشاهق بتفرده في وصف حدود العبثي واللامعقول يختلط بطعم سخرية لاذع يجعل من الرحلة الصعبة أمراً يمكن احتماله، أقله قبل بلوغ لحظة التخلي القاسية التي تنتهي إليها البطلة. هذا النثر الواثق المسبوك الذي لا يستسلم حتى لأي جمل قصيرة أو فواصل تمكن القارئ من استرداد الأنفاس فرض نفسه أمام تجارب روائية ثرية وأسماء لامعة ترشحت للجائزة، وانتزع لصاحبته التكريم كأول آيرلندية شمالية تفوز بها منذ إطلاقها في فضاء الثقافة الإنغلوفونية قبل نصف قرن من الزمان.



موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
TT

موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)

تأتي موسوعة الفنان سعيد العدوي (1938-1973) لترصد مسيرة مؤسس جماعة التجريبيين المصريين وأحد أبرز فناني الحفر والجرافيك في النصف الثاني من القرن العشرين.

وتتضمن الموسوعة، حسب قول المشرف عليها والباحث في شؤون الحركة الفنية المصرية الدكتور حسام رشوان، المئات من أعمال العدوي ويومياته ومذكراته واسكتشاته، مدعومة بعدد كبير من الدراسات التي تم إعداد بعضها خصوصاً من أجل هذه الموسوعة، ومعها دراسات أخرى نشرها أصحابها في صحف ومجلات ومطبوعات خاصة بالفن في مصر والوطن العربي.

وقال لـ«الشرق الأوسط»: «إن مقدمة الدكتورة أمل نصر تتناول جميع المقالات، والزاوية التي نظر منها الناقد لأعمال العدوي موضع الدراسة، كما تقوم بقراءتها وتحليلها وبسط عناصرها أمام الباحثين ومحبي فنه».

موسوعة العدوي تضمنت اسكتشاته ورسوماته (الشرق الأوسط)

وتأتي موسوعة العدوي التي نشرتها مؤسسة «إيه آر جروب» التي يديرها الفنان أشرف رضا، في صورة مونوغراف جامع لكل أعماله، التي تعبق برائحة الماضي، وعالم الموشحات، وحلقات الذكر والمشعوذين، وعربات الكارو والحنطور، وتجمعات الموالد والأسواق والأضرحة، فضلاً عن لوحة «الجنازة» بعد رحيل عبد الناصر. وجمعت الموسوعة كل كراساته واسكتشاته بالكامل، ومذكراته الخاصة التي كتبها وتعتبر دراسات نفسية قام بكتابتها، وقد ساعدت هذه المذكرات النقاد والباحثين في فن العدوي على تناول أعماله بصورة مختلفة عن سابقيهم الذين تصدوا لفنه قبل ظهورها، وفق رشوان.

ولأعمال العدوي طابع خاص من الحروفيات والزخارف والرموز ابتكرها في إبداعاته وهي تخصه وحده، وتخرّج العدوي ضمن الدفعة الأولى في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1962، وأسس مع زميليه محمود عبد الله ومصطفى عبد المعطي جماعة التجريبيين. وتأتي الموسوعة باللغة العربية في قطع كبير بالألوان، تزيد على 600 صفحة، من تصميم وتجهيز وإنتاج طباعي «إيه آر جروب» للتصميم والطباعة والنشر.

الموسوعة ضمت العديد من الأعمال الفنية ودراسات عنها (الشرق الأوسط)

وتتضمن الموسوعة، وفق رشوان، دراستين جديدتين للدكتور مصطفى عيسى، ودراسة لكل من الدكتورة ريم حسن، وريم الرفاعي، والدكتورة أمل نصر، ودراسة للدكتورة ماري تيريز عبد المسيح باللغة الإنجليزية، وجميعها تم إعدادها خصوصاً للموسوعة، وهناك دراسات كانت موجودة بالفعل للدكتور أحمد مصطفى، وكان قد جهّزها للموسوعة لكن عندما أصدرت مجلة فنون عدداً خاصاً عن فن العدوي قام بنشرها ضمن الملف، وإلى جانب ذلك هناك بحث عن أعمال العدوي للراحلين الدكتور شاكر عبد الحميد والفنان عز الدين نجيب وأحمد فؤاد سليم ومعهم عدد كبير من النقاد والفنانين الذي اهتموا برائد التجريبيين المصري وأعماله.

والتحق سعيد العدوي بمدرسة الفنون بالإسكندرية سنة 1957، وقبلها بعام كان في كلية الفنون بالزمالك، وقضى خمس سنوات لدراسة الفن في عروس البحر المتوسط، أما الأعمال التي تتضمنها الموسوعة وتوثق لها فتغطي حتى عام 1973؛ تاريخ وفاته. وهناك عدد من رسوم الكاريكاتير كان قد رسمها وقت عمله بالصحافة، وهذه الأعمال اهتمت بها الموسوعة ولم تتجاهلها لأنها تكشف عن قدرات كبيرة للعدوي وسعيه للدخول في مجالات عديدة من الفنون التشكيلية، وفق كلام رشوان.

من أعمال العدوي (الشرق الأوسط)

ولفت إلى أن «تراث العدوي بكامله بات متاحاً من خلال الموسوعة للباحثين في فنه والمهتمين بأعماله وتاريخ الفن التشكيلي المصري، وقد توفر لدى كتّاب الموسوعة عدد مهول بالمئات من اللوحات الكراسات والاسكتشات، فأي ورقة كان يرسم عليها اعتبرناها وثيقة وعملاً فنياً تساعد في الكشف عن رؤية العدوي التشكيلية وعالمه الخَلَّاق».

ولا تعتمد الموسوعة فكرة التسلسل الزمني، لكنها توثق عبر المقالات كل الأعمال التي تناولتها، من هنا بنى رشوان رؤيته وهو يرسم الخطوط الرئيسية لفن العدوي على الدراسات البانورامية التي تشتغل بحرية كاملة على الأعمال دون التقيد بتاريخها.

وسبق أن أصدر الدكتور حسام رشوان، بالاشتراك مع الباحثة والناقدة الفرنسية فاليري هيس، موسوعة فنية عن رائد التصوير المصري محمود سعيد عن دار «سكيرا» الإيطالية عام 2017 بمناسبة مرور 120 عاماً على ميلاد محمود سعيد، وتضمنت الموسوعة في جزئها الأول أكثر من 500 لوحة و11 مقالاً ودراسة نقدية.