المهاجرون... أحلام وآلام في هاتف جوال

ترجمة عربية لرواية الكاتبة الألمانية جيني إيربينبيك «وطن محمول»

جيني إيربينبيك
جيني إيربينبيك
TT

المهاجرون... أحلام وآلام في هاتف جوال

جيني إيربينبيك
جيني إيربينبيك

عن دار «صفصافة للنشر» في القاهرة ترجمة عربية لرواية «وطن محمول» للكاتبة الألمانية جيني إيربينبيك (1967)، وترجمها عن الألمانية الدكتور صلاح هلال أستاذ آداب اللغة الألمانية بدعم من برنامج «ليتركس»، الذي أطلقه معهد جوته بتمويل من وزارة الخارجية الألمانية.
وكانت الرواية قد رُشحت للجائزة الألمانية لأفضل كتاب، وبلغت ترجمتها الإنجليزية القائمة الطويلة لجائزة «مان بوكر» الدولية عام 2018.
يسْتقْرِئ النص القضايا الأخلاقية والوجودية الأكثر إلحاحاً وخطورة في عصرنا الحالي، كالعِرق، وهجرة الآلاف قسراً إلى الشمال، وما يسمى بـ«الهوية الأوروبية» أو ما يعنيه أن تسْكن قارة ما، سواء كانت أغلبيتها سمراء أو بيضاء.
الترجمة الحرفية للعنوان الألماني هي «ذهب.. يذهب.. ذهاباً»، وهو مأخوذ من درس في اللغة حضره بطل الرواية بصحبة أحد اللاجئين. وقد صرح المترجم لنا بأن تغيير العنوان كان «محاولة للتعبير عن أزمة لاجئين لا يبقى ما يربطهم بأوطانهم سوى (التليفون المحمول)، بما يمثله من قناة تواصل وحيدة مع أسرهم وأصدقائهم، بل ووسيلة ترابطهم في الغربة».
وكانت إيربينبيك - «عرَّافة أوروبا الأدبية» حسب وصف جريدة «ذا غارديان» البريطانية - أنفقت عاماً كاملاً في إجراء عشرات الحوارات مع ثلاثة عشر مهاجراً كخلفية بحثية لكتابة هذه الرواية، بل إنها رافقت بعضهم إلى المكاتب الحكومية بعد أن وجدتْ أن الأفارقة يخفقون في تعلم الألمانية، لأن هستيريا الخوف من الأجانب دفعت بأهل البلد إلى صد الوافد الغريب، ولا أحد يوجِّه إليهم الحديث.
بطل إيربينبيك أرملٌ تقاعد أخيراً من وظيفة أستاذ جامعي ببرلين. يخجل ريتشارد من تناول طعامه الشهي وهو يشاهد القبور الجماعية والناجين من الكوارث الطبيعية في التلفزيون. ولكن القاطن في فقاعة الطبقة المتوسطة من العالم الأول لا يخلو من سلبية العاجز وخموله، فهو لا يجد جدوى من التفاعل مع البشرية بحرمان نفسه من طعامها.
يتفق أن يلتقي بطالبي اللجوء السياسي في أحد ميادين برلين. يتذكر أن أمه طالعت له كتاباً عن صبي أفريقي يأكل لحوم البشر! يتولاه الخجل لجهله المطبق لأنه، هو الجامعي المطلع على كتابات الفيلسوفين الألمانيين هيغل ونيتشه، والشاعر الألماني برتولد بريخت، والمفكر الفرنسي ميشال فوكو، والمنظِّر الثقافي جان بودريار، يفقه القليل عن عواصم الدول الأفريقية، وأقل القليل عن ثقافاتها وما يعرقل طريقها من تحديات.
تهْدِم السلطات مخيم اللاجئين على رؤوسهم، فيتظاهرون رافعين لافتة تعلن أنهم «مرئيون». ثم يُضربون عن الطعام مطالبين الحكومة بألا تعتبرهم كماً مهملاً. يسير ريتشارد إلى جوارهم غير واعٍ في البداية بوجودهم لعدم إفصاحهم عن هوياتهم. يتذكر أستاذ الفلسفة الكلاسيكية ملحمة «الأوديسة» للشاعر اليوناني هوميروس حين وصم أوديسيوس نفسه بأنه «لا أحد» لكي يهرب من كهف العملاق الأسطوري. لا أمل إلا في «احترام البروتوكولات الألمانية»، وفي ملفاتها البيروقراطية تلصق الدولة بهم صفة «لاجئ». تقول المؤلفة إن «الناس لا يولَدون في هذا العالم لاجئين، كلمة (لاجئ) ليست مهنة!».
يقصدهم ريتشارد بدافع الفضول. ولكن هذا الأكاديمي المنضبط لا يبادرهم بدردشة غير رسمية، بل بأسئلة جاهلة ومهينة تستخف بهم، مستقاة من الكتب، ومعها يجلب افتراضاته المقولبة: هل ترعرعوا في بيوت بها تلفاز أو حيوانات أليفة؟ أين ناموا؟ ماذا أكلوا؟ هل تعلموا في مدارس؟ أين يريدون أن يُدفنوا؟ كان الأخير سؤالاً وجب عليهم التفكير فيه طويلاً.
كانوا جميعاً من ضحايا الحروب في القارة السمراء. عبَروا الشاطئ الليبي في «أوديسة جديدة» لم تشهدها القارة الأوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. تقول الشاعرة البريطانية - الصومالية وارسان شاير في قصيدتها «وطن» إنه «لا أحد يترك وطنه إلا إذا كان الوطن فم قِرْش». يخبرنا المهاجرون بقصصهم عن أفواه القروش. ماتت أم عوض الغاني وهي تلده. هاجر طفلاً مع أبيه إلى ليبيا حيث تمرن على حرفة الميكانيكا. ومع هبوب رياح «الربيع العربي»، عدَّه المجتمع، هو وأمثاله، عِبئاً، فألقى به في قارب، حمله أياماً حتى بلَغ مخيماً بصقلية. وهناك رشيد الأعرج أحد ضحايا حركة «بوكو حرام» الإرهابية. يحمل أسفل عينه ندباً غائراً. كان قد فر إلى إيطاليا على مركب حمل 800 شخص، ومنهم قضى 550 غرقاً.
يتقفَّى الأستاذ خيط هذه الملاحم الموسومة بالمعاناة والعذاب. ويخوض رحلة تحول روحي، فيصير المهاجرون بالنسبة إليه أناساً يضمرون بين جوانحهم أحلاماً بحياة ووطن سكنوا إليه عقوداً قبل أن يذوقوا مرارة التشرد.
إنهم ليسوا خبراً في نشرة الأخبار، وليس دخلاء يتطفلون ثقافياً واقتصادياً على المجتمع الغربي، أو رقماً تتناقله صفحات الحوادث عن غرقى البحر المتوسط، وإنما بشر بتواريخ إنسانية وثقافات متباينة، وذكريات يحويها هاتف جوالة. خسروا كل شيء قد يميز حيواتهم، ورأى بعضهم الموت بأعينهم، وظلوا شهوداً على موت أحبائهم.
وعلى الصعيد العام، تندد المؤلفة بالعزاء المزيَّف لليبرالية الأوروبية التي تتعاطف عن بُعْد، ودون التدخل على نحو فعلي وواقعي لإنقاذ المهاجرين من أفعال اليمين الشعبوي.
في عصر الفاشية وتفاقم صراع الهويات تضع هذه الرواية يدها على منبع الألم؛ يبدأ التعاطف البشري وينتهي من نقطة «الاستيعاب»، لا حرية تأتي عبر تشويه الآخر.
ونرى في النهاية، أن ريتشارد، من خلال تفهمه، يهجر العزلة والانكفاء على الذات، ويستحيل ناشطاً سياسياً، يؤوي المهاجرين في بيته ليجد خلاصَه في صورة قضية.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.