«مفروش».. سوق للكتب القديمة تعيد للخرطوم ثقتها بثقافتها

الثلاثاء الأول من كل شهر موعد عرضها وسط العاصمة السودانية

الكتب القديمة في وسط الخرطوم  -  جانب من الكتب المفروشة على الطريق
الكتب القديمة في وسط الخرطوم - جانب من الكتب المفروشة على الطريق
TT

«مفروش».. سوق للكتب القديمة تعيد للخرطوم ثقتها بثقافتها

الكتب القديمة في وسط الخرطوم  -  جانب من الكتب المفروشة على الطريق
الكتب القديمة في وسط الخرطوم - جانب من الكتب المفروشة على الطريق

في أزمان سابقة، كانت الخرطوم تباهي المدن المثيلة بمكتباتها، وكانت تتيه بينها بأنها الأعلى قراءة في الإقليم، بل واختارت في ذلك الزمان لنفسها من المقولة المتعالية «القاهرة تؤلف، وبيروت تطبع، والخرطوم تقرأ»، اختارت أن تقرأ وكانت واثقة بنفسها حد الافتراء، كان الكتاب يصلها طازجا من أكبر وأشهر دور النشر العالمية، فتتلقفه أيديها قبل أن يجف حبره.
لكن، أتاها زمان فقدت شهيتها لكل شيء، أو فلنقل جاعت لكل شيء، وجاءتها «المجاعة» والفقر، لكن المدينة القارئة كان جوعها إلى الكتاب الذي غلا ثمنه وعز الحصول عليه أفتك بها من جوعها لكسرة خبز أو جرعة دواء، فغادرتها دور الكتب والنشر، وأغلقت مكتباتها الشهيرة أبوابها «سودان بوك شوب، الخرطوم»، ومن لم تسدل أستارها ظلت تصارع الدولار والحال الاقتصادي المائل والكتاب الذي «أصابه البوار» عنوة واقتدارا، بسبب الأزمة الماحلة التي أصابت البلاد.
فهل تستكين المدينة المزهوة بثقافتها وتقبل أن تكون «أمية»، أم أنها ستعصف ذهنها لتلد أفكارا جديدة، تواجه بها ضنك القراءة والكتاب؟ يستحيل على مدينة مثل الخرطوم قبول حال كونها أمية، لذا ولدت من بين هذه العواصف «مفروش» لبيع وتبادل الكتاب المستعمل في وسط الخرطوم، من رحم «جماعة عمل الثقافية»، واختير له ساحة مقهى «أتنيّ» بكل محمولها الثقافي، وموقعها وسط المدينة.
الثلاثاء الأول من كل شهر هو زمان تجمع الكتب والأوراق والوراقين هنا في أتنيّ، لكن الشهر الكريم «رمضان» لعب قليلا بالمواقيت، فاجتمعت الكتب ووراقوها الثلاثاء الماضي، وكانت «الشرق الأوسط» تقلب مع الناس الكتب القديمة في «مفروش»، وتتحدث إليهم عن شجون وجنون الكتاب والقارئ معا.
وتعني «مفروش» السلع التي تباع على الأرض، و«الفريشة» هم بائعو السلع على الأرض، وهي سلع خفيفة لم يكن الكتاب من بينها، لكن أصبح منها بولادة الاسم، وتفرش في شوارع متعددة بكل من مدن العاصمة، يفد إليها جمهور القارئين في كل مكان.
«بدأت عملية استبدال وبيع الكتاب المسترجع أو القديم مطلع تسعينات القرن الماضي بمحل شمال جامع الخرطوم العتيق، ووقتها كان الناس يستبدلون بكتبهم القديمة أخرى جديدة ويحدثون مكتباتهم باستمرار، لكن الحال لم يستمر هكذا، فبعد أن جاءتنا مكتبات المهاجرين، وكتب القارئين الراغبين في التجديد، وحل عام 2005 تغيرت الطقوس وجاءنا الكتاب الجديد، ولم نبع الكتب القديمة وحدها»، هكذا بدأ أحد أقدم الوراقين السودانيين «كمال وداعة» حديثه مع «الشرق الأوسط»، يقول: «منذ ذلك الوقت، لم نعد نتداول الكتب القديمة فعلا، إذ أطلت الكتب الجديدة غالية الثمن، ومعظمها منسوخة عن إصدارات دور نشر مصرية، أو ملخصات لكتب خاصة تراجم كبار المفكرين.
وبأسى من يهيم بمهنته، يقول وداعة: «سوق الكتاب السوداني بدأت تعاني ندرة الكتاب الجيد بعد تلاشي فكرة الكتاب المستعمل، وصار القارئ في حالة ملاحقة مستمرة للكتاب الجيد، وصارت المكتبة السودانية تفتقر إلى الكثير، وخصوصا المؤلفات السودانية، خاصة التاريخية منها».
أما بشأن خيارات القراءة، فيقول وداعة: «إن السرد والرواية يحتلان المركز الأول، يليهما الشعر، ثم الدراسات الفلسفية والفكرية والاجتماعية، وفي الرواية الأجنبية ما زال ماركيز يحتل مكان صدارة في الطلب على السرديات، يليه جورج إمادو، فيما يجلس إبراهيم الكوني، وعبد الرحمن منيف، وحيدر حيدر، وأحلام مستغانمي، والطاهر بن وطار وبن جلون، وواسيني الأعرج، مكان صدارة في السرد العربي».
أما سودانيا، فإن مؤلفات صلاح أحمد إبراهيم أبو سليم، إضافة للأحاجي السودانية للبروفسور عبد الله الطيب، فتحتل صدارة الكتب القديمة إضافة لمحمد طه القدال، والبروفسور أبو سليم، فيما يجلس على قمة السرديات السودانية الشابة كل من عبد العزيز بركة ساكن، ومنصور الصويم.
ويوضح وداعة أن هيئة المصنفات الفنية والأدبية تصادر الكتب الممنوعة وفقا لمعايير تحددها، بعض الكتب الممنوعة من التداول سودانية، ويقف على رأس قائمتها كتب عبد العزيز بركة ساكن: «الجنقو مسامير الأرض، ومسيح دارفور»، فضلا عن منشورات نصر حامد أبو زيد وفاطمة المرنيسي.
أما الكتب الأكثر ندرة وطلبا، فكتاب البروفسور عون الشريف قاسم «القبائل السودانية»، و«الأحاجي السودانية» للبروفسور عبد الله الطيب، ويوضح وداعة أن «معظم القراء من جيل الستينات والسبعينات، أما الشباب فبسبب الظروف الاقتصادية وغلاء الكتب فهم يهتمون بالقراءة، وقد يقرأون بعيونهم إذا عجزوا عن الشراء»، ومع هذا يعود وداعة للقول: «زاد اهتمام القارئ بالكتاب رغم الميديا الحديثة والظروف الاقتصادية، وما زال الكتاب الورقي رائجا».
القاص وأحد رواد مفروش محفوظ بشرى، يقول إن فعالية «مفروش» تجاوزت المكان والمكتبة، وتحولت لملتقى تعقد فيه صفقات كتب، ومحل للنقاش، وملتقى لراحة الناس والصحاب، وتجاوز كونه مجرد فكرة مكتبة وبيع للكتاب ويضيف: «حاليا، تحول لمتنفس على الهواء الطلق في ظل ندرة المكتبات والمراكز الثقافية والفعاليات».
يأتي بشرى لـ«مفروش» لسببين حسب قوله، أولهما أنه صديق للجماعة، وثانيهما أنه يأتي لاصطياد الكتب النادرة التي لم تعد طباعتها منذ 30 - 40 سنة، هذه المرة عثرت على كتاب «الفقهاء والسلطنة في سنار - براغ 1991.»، و«قراءة في تاريخ الإسلام والسياسة في السودان 1500 - 1821».
وبحزن، يقول بشرى وهو قارئ عتيد: «للأسف، فإن القراءة أصبحت ضعيفة، فمعظم القراء هاجروا وتركوا البلاد، أما من تبقوا منهم فهم جمهور (مفروش)، لكن الوجوه الجديدة ليست بمستوى الهدر، ولم تعوض فاقد القراء الكبير، ويقول إن اتجاهات القراءة تركز بشكل عام على سرديات لأسماء عالمية ومحلية، مثل بركة ساكن وعماد براكة وماركيز».



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».