الصحوة الإسلامية الحقيقية في مرآة محمد أركون

كتاب جديد يصدر بالفرنسية للمفكر الراحل بتعاون زوجته مع دار ألبان ميشال الباريسية

محمد أركون
محمد أركون
TT

الصحوة الإسلامية الحقيقية في مرآة محمد أركون

محمد أركون
محمد أركون

هذا هو الكتاب الجديد الذي صدر مؤخراً للمفكر الكبير محمد أركون بفضل تعاون زوجته السيدة ثريا اليعقوبي أركون مع الناشر الفرنسي المحترم السيد جان موتابا في دار ألبان ميشال الباريسية الشهيرة. الكتاب مؤلف من خمسة فصول وملحق. الفصل الأول يتخذ العنوان التالي: ضرورة إعادة التفكير في الإسلام اليوم. بمعنى: ينبغي على الفلاسفة والعلماء أن يدرسوا الإسلام دراسة فلسفية تاريخية لكي يُفهم على حقيقته. وهذا ما فعله فلاسفة أوروبا مع المسيحية. وقد آن الأوان لكي يمر الإسلام بالمرحلة التنويرية.
فهو في أمس الحاجة إليها حالياً. وسوف يمر بها مهما طال الزمن ومهما نعق الناعقون وزعق الزاعقون. أما الفصل الثاني فيحمل عنوان الكتاب نفسه: عندما يستيقظ الإسلام. وفيه يناقش أركون مطولا أطروحة تلميذه النجيب محمد الحداد عن الإمام محمد عبده وحركة الإصلاح الإسلامي في القرن التاسع عشر.
ويشيد أركون بتدشين الدكتور الحداد لأول شهادة للدراسات العليا في الجامعة التونسية عن تاريخ الأديان المقارنة والأنتربولوجيا الدينية أيضا. ويعتبر ذلك فتحا معرفيا شديد الجرأة قياسا إلى الظروف الهيجانية المتعصبة التي نعيشها.
ومعلوم أنه لا يمكن فهم التراث الإسلامي جيداً دون فهم التراثين التوحيديين السابقين عليه، أي التراث اليهودي والتراث المسيحي. وهذه حقيقة أصبحت واضحة حتى للعميان. إنها تشكل ما يدعوه البروفسور أركون باللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه بالنسبة للعالم العربي والإسلامي ككل. أما الفصل الثالث من الكتاب فيحمل العنوان التالي: مدخل إلى العقل المنبثق الصاعد.
وهو ما يدعوه الآخرون بعقل ما بعد الحداثة. وفيه يتحدث أركون أيضا عن الديانات التوحيدية انطلاقا من مثال الإسلام. أما الفصل الرابع فمكرس للتحدث عن السنة والشيعة وضرورة تجاوز الخلافات التاريخية بينهما.
وهي الخلافات التي أصبحت تشعل الحرائق والحروب الأهلية في كل مكان. وعنوانه الثانوي هو: من أجل التوحيد التاريخي لوعي إسلامي «آخر» جديد. والمقصود به الوعي التنويري وقد حل محل الوعي الطائفي والمذهبي الملتهب والذي يكاد يدمر المشرق العربي حاليا... أما الفصل الخامس والأخير فمكرس للتحدث عن وضع المرأة في السياقات الإسلامية. أما الملحق فهو عبارة عن مقابلة هامة وممتعة أجرتها الباحثة الأكاديمية الجزائرية تسعديت ياسين مع البروفسور أركون. وهي التي تختتم الكتاب.
عندما سمعت بالكتاب وقبل أن أراه قلت بيني وبين نفسي إنه يذكرني بعنوان كتاب شهير للوزير الفرنسي الديغولي السابق آلان بيريفيت: «عندما تستيقظ الصين... سوف يهتز العالم»!. ومعلوم أنه كان قد صدر عام 1973 أي قبل استيقاظ المارد الصيني بسنوات معدودات. ثم بعد أن وصلني الكتاب لم يخب حدسي وظني.
فالمفكر أركون اختار بالفعل عنوان كتابه على غرار كتاب المفكر الفرنسي المذكور عن قصد. يقول بالحرف الواحد تقريبا: «لقد طبقت على الإسلام العنوان نفسه الذي طبقه آلان بيريفيت على الصين. ومعلوم أن نجاح كتابه يعود إلى شحنة الآمال العراض التي يحتوي عليها. كما يعود إلى انبهار الوزير الفرنسي الشهير بالصين وإعجابه الشديد بها. فقد رحب بخروج الشعب الصيني من الآيديولوجيا الماوية ودخوله في عصر الحداثة والتاريخ الليبرالي الكبير واقتصاد السوق الحرة». ماذا يعني ذلك؟ إذا كنا قد فهمناه جيدا فهذا يعني أننا اليوم بانتظار استيقاظ العالم الإسلامي أيضا بعد الصين.
فالواقع أن مستقبل الإسلام أمامه لا خلفه. الإسلام لم يقل كلمته الأخيرة بعد! فهذه الموجة الأصولية المتطرفة ليست نهاية التاريخ! وإنما ستمر وتتبخر كفقاعة من صابون. وهذا العالم الإسلامي الذي يعد اليوم أكثر من مليار ونصف المليار شخص تماما كالصين إذا ما استيقظ يوما ما فسوف يهتز العالم أيضا. ولكن في اتجاه الخير لا في اتجاه الشر.
فكما أن الصين خرجت من الآيديولوجيا الماوية الديماغوجية العقيمة التي كانت تكبلها وتخنق روحها وطاقاتها، فإن العالم الإسلامي مدعو للخروج من يقينياته اللاهوتية الدوغمائية وعقائده التكفيرية التي شوهت سمعته في شتى أصقاع الأرض. عاجلا أو آجلا سوف يستيقظ عالم الإسلام ويخرج من حالة الانحطاط والجمود إلى حالة النهضة والصعود.
وعندئذ سوف يكتشف العالم الوجه الآخر للإسلام: أي الوجه الحضاري المشرق... ولا نبالغ إذا ما قلنا: عندما يستيقظ الإسلام من كوابيسه، ويتحرر من داعشيته وظلاميته، فسوف يتغير وجه العالم. عندما يتصالح الإسلام مع نفسه ومع الحداثة التنويرية فسوف يصبح العالم أكثر أمانا وسلاما واطمئنانا.
وسوف يتنفس التاريخ الصعداء! عندما يقبل المسلمون بتطبيق منهجية النقد التاريخي على نصوصهم التأسيسية، وشخصياتهم الأساسية، فسوف ينبثق في المنطقة كلها نور وهاج. وسوف ينفك الانسداد التاريخي للعرب.
نسيت أن أبتدئ بالفصل الأول من الكتاب: كيف نعيد التفكير في الإسلام اليوم؟ أو كيف «نعقل الإسلام اليوم» بحسب الترجمة المفضلة لأركون.
وهو هنا يوضح لنا مشروع إنعاش الدراسات العربية والإسلامية. كما يبين لنا كيف يمكن أن ندرس الإسلام بطريقة تاريخية وأنتربولوجية وفلسفية عميقة. فهذا ما يحتاجه تراثنا الإسلامي اليوم بشكل ملح وعاجل. نحن لسنا بحاجة إلى كتابات تبجيلية وخرافية فهذه شبعنا منها.
إنها تملأ الشوارع والجوامع والبيوت والمكتبات بل وحتى الجامعات. ناهيك عن الفضائيات! نحن بحاجة إلى دراسات تنويرية تضيء لنا مفاصل التراث الإسلامي. وعندئذ سوف يتجلى لنا بصورة جديدة لا تخطر على البال.
وربما صرخنا قائلين: يا إلهي ماذا فعلنا بأنفسنا؟ هل يعقل أننا كفرنا عباقرتنا وعظماءنا؟ هل يعقل أننا قلنا: من تمنطق فقد تزندق؟ هل يعقل أننا فعلنا ذلك لكي تنطفئ أنوارنا وينتقل مشعل الحضارة إلى أوروبا؟ هل يعقل أننا دمرنا أنفسنا بأنفسنا؟ هل نحن مغرمون بالانتحار الحضاري؟ أم هل نحن قوم لا ينتعشون إلا في غياهب الظلمات؟ لماذا راحوا يمجدون علماءنا وفلاسفتنا ويترجمونهم ويستفيدون من كل كلمة أو حرف منهم في حين أننا رحنا نمزق كتبهم ونصب جام لعناتنا على الكندي والفارابي وابن سينا وابن مسرة وابن رشد وابن باجة وابن عربي والمعري والقائمة طويلة؟ ومن سيحرر التراث من ذاته، من فتاواه التكفيرية وتراكماته؟ وهي التراكمات التي أصبحت تتفجر الآن كالقنابل الموقوتة بعد طول احتقان. ثم سؤال أخير: متى سيستيقظ أهل الكهف؟
نريد من المفكرين المعاصرين أن يجدوا لنا أجوبة على كل هذه التساؤلات المتلاحقة.
نريد منهم أن يجددوا فهم هذا الدين الحنيف الذي اختطف رهينة من قبل جماعات الإخوان المسلمين والظلاميين أجمعين. ومن أفضل من محمد أركون للقيام بهذه المهمة الجليلة؟ فهو أحد علماء الإسلام الكبار في هذا العصر إن لم يكن العالم الأول والأكبر بحسب رأي الفيلسوف الإيراني الشهير الراحل: داريوش شايغان... وهو كان يمتلك كل الكفاءات المنهجية والابيستمولوجية والمعرفية العميقة التي قلما توافرت في شخص واحد مهما علا شأنه. ما فعله أركون في الكتاب هو حفر أركيولوجي في الأعماق، بل وأعماق الأعماق. إنه تحرير جذري وراديكالي للروح العربية الإسلامية السجينة داخل الشرنقة منذ قرون وقرون. إنه تحرير التحرير. ذلك أنه لا تحرير سياسيا حقيقياً من دون تحرير لاهوتي ديني. وهذا يعني أن نقد الظلامية الدينية هو بداية كل نقد والتحرير منها شرط مسبق لكل تحرير كما يقول أحد فلاسفة التنوير الكبار. هذه حقيقة أصبحت واضحة لكل ذي عينين بعد تلك الهوجة الكبيرة المدعوة «بالربيع العربي» التي حولت بلادنا إلى خرائب وأنقاض. لن أستطيع الدخول في التفاصيل هنا لأن ذلك يتطلب عدة مقالات لا مقالة واحدة. وأعتذر للقارئ مسبقا عن عدم التعرض لنقاط هامة عديدة يمتلئ بها هذا الكتاب المكثف والمركز إلى أقصى الحدود.
فهو حتما من أنجح كتب أركون وأقواها. ولكن النسخة العربية سوف تصدر قريبا عن دار الساقي في بيروت. وعندئذ يمكن للقراء العرب أن يطلعوا على مجمل الكتاب بكل تفاصيله وحذافيره.
أخيراً سأقول ما يلي: إن العرب والمسلمين عموما يعانون من قطيعتين لا قطيعة واحدة: قطيعة مع الأنوار العربية الإسلامية والعصر الذهبي العباسي الأندلسي، وقطيعة مع الأنوار الأوروبية التي ظهرت في القرن الثامن عشر وتجاوزتنا بما لا يقاس. وهذا يعني أننا لا نزال غاطسين في عصور الانحطاط والظلمات.
والجهل طاغ وعام. ولذا ينبغي أن نواجه الحقيقة المرة وجها لوجه: برامج التعليم العربية تهيمن عليها المرجعيات الظلامية لا المرجعيات التنويرية وإلا لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من جحافل النصرة والقاعدة وداعش والجماعة الأم التي ولدتهم كلهم. من هنا خطورة الوضع الحالي. من هنا الخوف على المستقبل، وعلى براعم المستقبل.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».