جماليات التوازي بين فنيّ التصوير والشعر

سعى الفنان التشكيلي الدكتور ممدوح شهبة في كتابه «القيم الجمالية والتعبيرية في منمنمات المنظومات الخمسة» إلى تقديم دراسة نقدية وتحليلية لمنمنمات التصوير الإسلامي والخاصة بالتعبير عن موضوعات قصائد «المنظومات الخمسة» للشاعر الفارسي نظامي الكنجوي، الذي ولد في كنجه بإقليم آران الأذربيجاني عام 539 هجرية، وتوفي قبل أن يتم السبعين من عمره، ودفن في مسقط رأسه.
ومن خلال ذلك، حاول شهبة ضمن فصول كتابه الذي صدر مؤخراً عن المجلس الأعلى للثقافة بمصر، الكشف عن قيم التوازي والالتقاء بين فني التصوير والشعر، واستخلاص نظرية الجمال والتعبير في الفن الإسلامي من واقع العقيدة والفكر الصوفي.
وتتبع المؤلف، الذي توفي قبل صدور كتابه بعدة أعوام، أثر مثنويات الشعر الفارسي في التصوير الإسلامي من خلال مدرستين، الأولى نشأت في مدينة تبريز بين سنتي «946 - 950»، ووثائقها محفوظة في مكتبة المتحف البريطاني تحت رقم «2265»، والثانية في أصفهان، وتم إنجازها بين عامي «1029 - 1033»، وجميعها محفوظة ضمن وثائق المكتبة القومية الفرنسية، دارساً أبعادها الأدبية، والثقافية، والتشكيلية، والرياضية، فضلاً عن أثر الفكر الفلسفي والرياضي لفلسفة الإحداثيات في الهندسة التحليلية في تصميم تلك المنمنمات.
وهو يرى في كتابه أن مفهوم الجمال ارتبط في أعمال الفن الإسلامي بثقافة الفنان المسلم النابعة من عقيدته، ما جعله يسعى إلى تحقيق التوازن بين حياته وآخرته، وهي ما يمكن تسميته بالواقعية الميتافزيقية، التي تعكس مفهوم الموائمة بين الجمال الظاهر، ونظيره الباطن، وجعلت «المنمنمات» صنواً للشعر، حيث امتزجت بالتصوير في علاقة حميمية ظهرت آثارها الجمالية في إبداعها، بعدما ارتقت إلى المستوى الفني والجمالي لنظم الشعراء، واستحالت معادلاً بصرياً لما أبدعوه من قصائد.
واشتمل الكتاب، الذي تضمن خمسة فصول وعدداً من الملاحق، على 381 صورة تنوعت بين المنمنمة والشكل البياني، فضلاً عن الخرائط والأغلفة الداخلية، والوحدات الأرابيسكية، والمحاور الدائرية والمنحنيات العرجونية.
وفي الفصل الرابع «المنظومات الخمسة وتصويرها الصفوي»، تعرض شهبة لموضوعات كل منظومة، بدءاً من «مخزن الأسرار»، وقدم شهبة دراسة تحليلية لمنمنمات «المعراج»، و«كسرى آنوشروان ووزيره ينصتان لحديث البومتين»، و«شكوى المرأة العجوز للسلطان سنجر»، و«الحكيمان المتنازعان»، وذكر أن الفنان الذي أبدعها سعى لتجسيد المضمون الروحي والأدبي في القصائد، فجعل الصورة تشع إيحاء بالحركة، ما يجعل المشاهد يلمح في الصور ضوءاً مبهجاً، وقد برع الفنانون في تصوير ما فيها من جلال وقدسية، وتجلت قدرتهم في سعة خيالهم، وقد جسدوا المشاهد الروحية واقعاً، وحققوا في الصور البهجة والفرحة والسعادة، فضلاً عما يشعر به المتأمل فيها من متعة روحية، وقد بدا ذلك في الألوان التي استخدموها في كامل نضارتها، والعلاقة المتوازية بينها وبين الخطوط، وتناسب أجزاء كل منمنمة، وقد حقق كل ذلك ترابطاً مثالياً في العلاقات الشكلية وعلاقة كل جزء بالآخر.
وأشار شهبة إلى أن المنمنمات تجلت فيها قدرة الفنان المسلم على استخلاص الجمال من الطبيعة، ثم إحالته إلى جمال فني، عكس من خلاله ولعه بحب الحياة، وقد مزج فيها بين الواقع والخيال مزجاً يوحي بدلالات أسطورية، وحقق قدراً من وقائع المجتمع والحياة، وما يحدث فيهما من ظلم وخراب، ورغم ذلك بث الفنانون في منمنماتهم أجواء من الشاعرية تجلت في الانتقالات الضوئية للألوان، وفي طزاجتها، وانسجامها، لتشعر متلقيها بمتعة بصرية وفيض غير قليل من العاطفة.
ولفت شهبة إلى أن الخطوط الموجية في بعض المنمنمات أتاحت في حركتها الانسيابية انتقالاً سهلاً للرؤية البصرية، من جزء فيها لآخر، ما حقق ثراءً فنياً، وتنوعاً في الإيقاع، وجاء تكرار بعض الوحدات بتشكيلاتها الأرابيسكية ليضفي قدراً من الحيوية على عناصر تشكيل المنمنمات.
ففي منمنمة «الحكيمان المتنازعان» التي تعود إلى عصر الشاه طهماشب بين عامي «946 - 950»، تتجسد مشاعر الغيرة والحقد في النفس البشرية، وحب الإنسان للزهو والانتصار على خصومه حتى لو أدى الأمر إلى قتله، وهذه المنمنمة منسوبة للمصور أغاميرك، وقد استطاع استلهام القصة، وجسد النزاع بين الحكيمين، لتنطق الصورة بشاعرية تشد العين للمتأمل في مضمون القصيدة، وقد تجلت قدرة الرسام في تناسق ألوانه، وانسجامها، وفي المزاوجة بين التوريقات النباتية في الأشجار، التي احتوت خلفية المشهد، والتشكيلات الهندسية لموقع النزاع، والكتابات الخطية لأبيات من القصيدة، جمل بها باب الحديقة والجوسق، ليحقق في منمنمته ثراءً فنياً، جعلها، رغم موضوعها، تفيض بالبهجة، والمتعة البصرية والجمالية، ليستحوذ من خلال تفاصيل اللوحة على عاطفة المتأمل لها، ويحرك في نفسه جدلاً ممزوجاً بالحيرة والتساؤل.
وفي القسم الثاني من الفصل الرابع، عرض شهبة تحليلاً شاملاً لـ«منمنمات منظومة خسرو وشيرين»، وتحتوي على اثنتي عشرة منمنمة، من بينها «خسرو يفاجئ شيرين وهي تستحم»، و«خسرو يصرع أسداً»، و«شابور يوضح لشيرين قصة خسرو صاحب الصورة» و«المعركة بين خسرو وبهرام جوبين» و«ذهاب خسرو لرؤية شيرين وحديثها معه من شرفة القصر» و«اغتيال خسرو»، وهذه المنمنمة الأخيرة منسوبة لأسلوب المصورين رضا عباسي وحيدر نقاش. وهي تمثل، حسب شهبة، مشهد النهاية لقصة عشق خسرو وشيرين، وتعتبر من المنمنمات بالغة الدلالة، في التعبير عن النفس البشرية ورغبتها في التملك التي تمتزج في أحيان كثيرة بقدر من الخيانة والغدر والفجور. وقد تحقق فيها من التعبير الفني لمشهد الاغتيال المأساوي، إذ برع الفنان في تصوير الموقف بلون الدم، وفي تكنيك بالغ الدلالة، جعل فيه السيادة للون الأحمر بدرجاته، ليحقق بذلك توازناً رمزياً، ويعادل ما ورد في القصيدة من صورة شعرية وما جسده رسماً، أضفى من خلاله الطابع السكوني للخطوط الرأسية والأفقية، المتعامدة في البناية، تعبيراً عن حال الحراس النائمين في ثبات عميق، فيما الملك نائم في مخدعه وبجواره زوجته شيرين.
وذكر شهبة أن الخطوط الموجية في منمنمة «اغتيال خسرو» أضفت معادلاً بصرياً لإيحاء حركي يجعل المشاهد يقف في قلب الحدث، وقد أراد المصور أن يعيد له قدراً من التوازن النفسي، يصرفه عن المأساة، ويبث في روحه شيئاً من الهدوء والسكينة، فأشاع في المنمنمة نوعاً من البهجة في تشكيل فني جميل، مزجه بحالة من الشاعرية، تجلت في هندسيات أرابيسكية، وتنميقات رقيقة لجوسق سطح المبنى، ومقر خسرو ومخدعه، على حين اشتمل الجانب الأيمن من المنمنمة على توريقات نباتية بديعة لشجرة الدلب، وزهور الحديقة، ما حقق توازناً تشكيلياً وتماسكاً وثيقاً بين مصراعي اللوحة.