جايير بولسونارو اقترب من رئاسة البرازيل... تحت رايات الشعبوية اليمينية

عندما بدأت الحملة الانتخابية لرئاسة البرازيل منتصف أغسطس (آب) الماضي، لم يكن أحد يراهن على وصول المرشح اليميني المتطرف جايير بولسونارو إلى الجولة الثانية المقررة في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، حاصداً أصوات 46 في المائة من الناخبين الذين يبلغ عددهم 147 مليوناً كبرى دول أميركا اللاتينية والخامسة على مستوى العالم.
مسافة ضئيلة تفصل هذا المرشح اليميني اليوم عن النصر النهائي بعد أسبوعين، غير أن اجتيازها لن يكون سهلاً بقدر ما سيكون من الصعب على منافسه مرشّح حزب العمّال اليساري فرناندو حدّاد أن يحقق الفوز بعدما حصل على 29.2 في المائة من التأييد في الجولة الأولى.

قد يبدو جايير بولسونارو مستجدّاً على المشهد السياسي البرازيلي الذي لم يألف مثل خطابه المتطرف والعنصري المشحون بالانتقادات اللاذعة والحقد المكشوف على الأقليات العرقية والجنسية والمهاجرين، والسخط على الطبقة السياسية الحاكمة، وفي طليعتها حزب العمّال. ذلك الحزب اليساري الذي يمرّ في أحرج المراحل بعد فضائح الفساد التي عصفت به ودفعت بزعيمه التاريخي لويس «لولا» دا سيلفا – رئيس الجمهورية الأسبق – إلى السجن وحرمته من الترشّح للانتخابات.
إلا أن هذا المرشح الشعبوي واليميني والمتطرف، الذي بات قاب قوسين من الرئاسة البرازيلية، مضى على دخوله البرلمان أكثر من ثلاثين سنة. وتنقّل خلال هذه الفترة بين تسعة أحزاب مختلفة لكنه ظلّ مغموراً، إلى أن بدأ يتصدّر عناوين الصحف والنشرات الإخبارية منذ سنتين بفعل مواقفه الراديكالية وتصريحاته الاستفزازية المثيرة للجدل والهواجس.

من هو بولسونارو؟
وُلد جايير بولسونارو في ساو باولو، «العاصمة الاقتصادية» للبرازيل. وفيها تلقّى علومه الابتدائية والثانوية، قبل أن يلتحق بالمدرسة الحربية التي تخرّج منها برتبة ضابط في العام 1977. إلا أنه أُحيل إلى الاحتياط القسري بسبب سلوكه عام 1985 عندما كان لا يزال برتبة نقيب. وبعدها، دخل المعترك السياسي متنقلا بين مجلسي الشيوخ والنواب عن مقاطعة ريو دي جانيرو.
إبان وجود بولسونارو في البرلمان شارك في عضويّة لجان الدفاع والخارجية والشؤون الاجتماعية، ولم يعرف له أي نشاط بارز في أي منها. وفي مطلع العام الماضي، بعدما تراكمت فضائح الفساد المالي في مؤسسات الدولة والأحزاب السياسية التقليدية، واتسعت دائرة النقمة الشعبية على وقع الأزمة الاقتصادية المتفاقمة وموجة العنف المستشري، قرّر فجأة أن الساعة قد أزفت لإطلاق مشروعه السياسي نحو رئاسة الجمهورية. وجاء هذا القرار المفصلي بينما كانت شعبية حزب العمّال، الذي سيطر على المشهد السياسي البرازيلي طوال عشرين سنة، تتراجع إلى مستويات غير مسبوقة وتتفكك أوصال قواعده ويرتفع منسوب النقمة على زعمائه.
الخطوة الأولى في هذا السبيل التي أقدم عليها بولسونارو، الذي يفتقد إلى قاعدة حزبية وبرلمانية، كانت استعادة خطاب الحنين إلى الحكم العسكري الديكتاتوري الذي سبق أن استقطب تأييداً شعبياً ملحوظاً في مطالع الستينات... ومهّد للانقلاب العسكري الذي جاء مدعوماً بارتياح ظاهر في الأوساط المدنية عام 1965. أما خطوته الثانية، التي يجمع المراقبون والمحللون البرازيليون على أنها كانت حاسمة في صعوده السريع والمفاجئ، فكانت الاقتراب من الكنيسة الانجيلية المتنامية النفوذ في الأوساط الشعبية والفقيرة، والتي تملك شبكة تنظيمية واسعة وموارد مالية وإعلامية ضخمة.

دونالد ترمب... البرازيلي
قصة نجاح بولسونارو وصعوده السياسي السريع لا تختلف كثيراً عن قصة نجاح دونالد ترمب في الولايات المتحدة، والتيّار الشعبوي المؤيد لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو فوز حركة النجوم الخمس وماتّيو سالفيني في إيطاليا، ونمو التيارات الراديكالية والعنصرية والمناوئة للهجرة والمهاجرين في أوروبا.
إنها باختصار، قصة العزف على وتر الغرائز والمشاعر القوية، كالخوف والحقد، التي تحرّك الجماهير وتجذبها أكثر من أي برنامج أو مشروع سياسي. قصة السخط غير المسبوق على الطبقة الحاكمة التي - في أوروبا مثلاً - يكاد يكون هناك إجماع حول مسؤوليتها عن الأزمة الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة وتدهور مستوى حياة شرائح واسعة في المجتمع، أو في أميركا اللاتينية حيث توجّه إليها أصابع الاتهام بإفساد المؤسسات واستغلالها لمصلحتها الخاصة.
يكفي لهذه الأوساط الواسعة أن تسمع خطاباً صريحاً ومباشرا يدعو إلى محاربة هذه الطبقة ومحاسبتها، حتى تتهافت على تأييده غير مكترثة بما إذا كان هذا الخطاب الشعبوي متطرفاً أو متحاملاً أو مؤيداً للديكتاتورية.
ثم إن الأساليب والأدوات التي سخّرها بولسونارو لحملته أيضا متشابهة مع تلك التي استخدمتها الأحزاب والحركات الشعبوية لتحقيق انتصاراتها غير المنتظرة. وهي تتجسّد بانتقادات لاذعة متكررة وهجوم عنيف لا يتوقف على وسائل الإعلام التقليدية، وبراعة في استخدام منصّات التواصل الاجتماعي، ومواظبة على استقطاب عناوين الأخبار أيّاً كانت المناسبة أو الوسيلة.

تصريحات ومواقف
كل التصريحات الصاعقة التي صدرت عن بولسونارو خلال الفترة الأخيرة، التي يفترض أن يكفي واحد منها لهبوط شعبية أي مرشح أو خروجه من السباق، لم تقف حائلا دون صعود شعبيته. إذ أن يقول مثلا إن المرأة لا يجب أن تتقاضى أجراً مساوياً لأجر الرجل... أو أنه يفضّل أن يموت ابنه في حادث سير إذا كان مثليّاً... أو أن ابنته أنجبها في لحظة ضعف... وأن الشرطي الذي لا يقتل ليس شرطيّاً.
كل هذه التصريحات لم تمنع بولسونارو من أن يصبح «نجم السياسة البرازيلية» بلا منازع. وعندما كان يدافع عن الديكتاتورية العسكرية التي حكمت البرازيل من 1065 إلى 1985. وعن التعذيب الذي كانت تمارسه ضد المعارضين السياسيين، كان يدرك أن ما سيحضر في أذهان جمهوره هي أعمال العنف وتجارة المخدرات والاغتيالات التي أوقعت أكثر من 63 ألف قتيل في العام الماضي. وأنه عندما يستهزئ بالنساء فيقول لزميلة له في البرلمان إنه لن يغتصبها لأنها لا تستحق ذلك (!)... فلأنه كان يعرف في قراراته أن المجتمع البرازيلي «ذكوري» بامتياز، وأن مثل هذه التصريحات المستفزّة لا يمكن إلا أن تعزّز صورته عند قطاع من الجمهور كقائد حازم.

استغلال واقع مأزوم
كان بولسونارو يعرف أيضاً أن البرازيليين، الذين يقاسون أصعب أزمة اقتصادية في تاريخهم، ويعانون من أعلى معدلات العنف الاجتماعي في العالم، ناقمون بشدة على الطبقة الحاكمة التي فقدوا كل ثقتهم فيها... ومن ثم، فهم يريدون حلولا سريعة لمشاكلهم خارج الأطر التقليدية للبرامج السياسية. لكنه كان يدرك أيضا أن صعوده ما كان ناشئاً عن السخط الشعبي الذي كان يعبّر عنه فحسب، بل لأنه بتصريحاته الناريّة كان أيضا يدغدغ العنصرية الكامنة في نفوس كثيرين من البرازيليين البيض الذين لا يتجاوز عددهم نصف السكان.
لقد كان ينظر حوله ويرى كيف أن البلد الذي كان مرشّحاً - بفضل ثرواته الطبيعية الهائلة وموارده البشرية - لتصدّر معدلات النمو في العالم، ينهار اقتصاده وتتفشّى فيه آفات الفقر والعنف والبطالة، وتغرق مؤسساته في الفساد... بدءا بمجلسي الشيوخ والنواب... وصولاً إلى أجهزة القضاء والمراقبة والمحكمة الاتحادية (الفيدرالية) العليا. وكان يراقب كيف تتسع دائرة الخيبة من السياسة والسياسيين الذين يدخلون السجون بتهم الفساد أو يُعزلون من مناصبهم مثل الرئيسة السابقة ديلما روسّيف... أو كيف أن الرئيس الأسبق «لولا» الذي بلغت شعبيته في نهاية ولايته الثانية 90 في المائة بين مواطنيه، يقبع في زنزانة لن يخرج منها قبل 12 سنة.
بالمختصر المفيد، أدرك بولسونارو أن البرازيل بحاجة ماسّة إلى «منقذ»، ورأى أنه الرجل المناسب ليتقمّص هذا الدور الراسخ بعمق في الثقافة السياسية والاجتماعية في أميركا اللاتينية. وبما أن «المنقذ» في هذه المنطقة من العالم لا يأتي إلا من طينة العسكر والمؤسسة الدينية، جهّز خطابه بهذه العدّة وفتح أبواب مشروعه على الكنيسة الإنجيلية التي سخّرت قدراتها التنظيمية والمالية والإعلامية لدعمه، وعلى المؤسسة العسكرية التي ترشّح نحو 200 من القدامى في صفوفها للانتخابات البرلمانية. وبالفعل، اختار بولسونارو معه مرشحاً لمنصب نائب الرئيس الجنرال المتقاعد هاملتون موراو، الذي افتتح حملته بتصريح أكّد فيه أن «الدستور قابل للتعديل من غير الرجوع إلى الشعب»، وأنه «بإمكان الحكومة أن تنقلب على ذاتها وتسلّم الأمن للقوات المسلحة».

تحالف الجيش والإنجيليين

التفاف المؤسسة العسكرية حول ترشيح بولسونارو، وإن بشكل غير معلن، لم يكن إنجازاً له صعب المنال وذلك نظراً لتاريخه ومواقفه الإيجابية المعلنة من الديكتاتورية بيد أن هويّته «الكاثوليكية» كانت تقف حاجزاً لإشكال في وجه حصوله على دعم تأييد الكنيسة الإنجيلية (البروتستانتية المتشددة) التي تركّز معظم جهودها لاستمالة المسيحيين من أتباع الفاتيكان. لكنه في العام 2016 توجّه مع أولاده إلى الأردن برفقة كاهن إنجيلي قام بتعميدهم في مياه النهر، ومن ثم، تحوّل من كاثوليكي يميني متطرف إلى إنجيلي متعصّب يضمن تأييد 28 في المائة من مواطنيه الذين يتبعون المذهب البروتستانتي الإنجيلي.
هذا ما يفسّر حصول بولسونارو على 46 في المائة من الأصوات في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة بعد أن كانت آخر الاستطلاعات تتوقع حصوله على 35 في المائة. في أفضل الأحوال. ويرجّح المراقبون أن تكون الكنيسة الإنجيلية البرازيلية، مدعومة بامتداداتها العالمية (الأميركية، بالذات)، قد لعبت دوراً في دفع المؤسسات المالية المحلية والأجنبية إلى سحب اعتراضاتها على ترشحه، لا بل إلى الترحيب به، خاصة بعدما صمدت شعبيته وارتفعت في أعقاب المظاهرات النسائية الحاشدة التي خرجت في أوّل الشهر احتجاجا على تصريحاته المهينة للمرأة.

أسواق المال مرتاحة
وحقاً، ما أن ظهرت نتائج الجولة الأولى التي كادت تحسم لمصلحته المعركة باكراً، حتى سارعت أسواق المال إلى الاحتفاء به والتنويه ببرنامجه المالي. كيف لا وهو الذي عهد به إلى مستشار متخرّج من «مدرسة شيكاغو الاقتصادية» – أي التوجهات الفكرية الاقتصادية الليبرالية اليمينية التي ارتبطت ببعض كبار المنظرين والأكاديميين في جامعة شيكاغو، منهم البروفسور ميلتون فريدمان – يروّج منذ أسابيع لخصخصة المؤسسات العامة، واستغلال الأراضي الزراعية التي كان «لولا» قد خصّصها للسكان الأصليين ولإقامة محميات طبيعية حفاظاً على البيئة في البلد... الذي ينتج 10 في المائة من الأكسجين في العالم.
وبينما كان سعر صرف الدولار الأميركي يتراجع لأول مرة منذ أربع سنوات، وبورصة ريّو دي جانيرو تسجّل ارتفاعاً لم تعرفه منذ العام 2016. كانت الجبهة الزراعية في البرلمان التي تضمّ الأحزاب الريفية القوية تعلن تأييدها لبولسونارو، وعقبتها الكتلة الإنجيلية الواسعة النفوذ في المدن الكبرى.
وفي هذه الأثناء كان بولسونارو، الذي امتنع عن إجراء مقابلات صحافية خلال الحملة الانتخابية، يُكثر من الأحاديث والتصريحات الهادئة والمطمئنة لتبديد الصورة التي ارتسمت عنه بعد مواقفه العنصرية والمتطرفة. حتى أنه لم يتردد في انتقاد مرشحه لمنصب نائب الرئيس على ما قاله بشأن تعديل الدستور والانقلاب الذاتي، مدعياً أنه يلتزم أحكام الدستور ويحترم المرأة والأقليات... وما شابه ذلك.
أيام حاسمة
أخيراً، قبل أسبوعين من الجولة الأولى للانتخابات قال جايير بولسونارو إنه لن يقبل بالنتيجة ما لم يكن هو الفائز. يومها لم يكن يتوقع أنه في الجولة الأولى سيلامس النصر لأول مرة في تاريخ انتخابات الرئاسة البرازيلية منذ العام 1998 عندما فاز بالرئاسة فرناندو كاردوزو.
لم يكن في حساب بولسونارو هذا العدد الهائل من البرازيليين المستعدّين لإضرام النار في الهشيم السياسي على أمل أن يقوم نظام جديد من الرماد. إلا أن المسافة التي تفصله الآن عن الفوز في الجولة الثانية بنهاية هذا الشهر تبدو قصيرة جداً. نعم، قصيرة جداً بالمقارنة مع تلك التي على منافسه اليساري حداد أن يجتازها للوصول إلى الرئاسة.
مع هذا، ينتظر حلم بولسونارو عقبات عدة، ليس أقلها ضمانه كل الأصوات التي أيدته في الجولة الأولى.