«الفكر والنهوض» العربي: تناقض الشكل والمضمون أفشل المشاريع النخبوية

«الفكر والنهوض» عن دار الفكر (بيروت - دبي)
«الفكر والنهوض» عن دار الفكر (بيروت - دبي)
TT

«الفكر والنهوض» العربي: تناقض الشكل والمضمون أفشل المشاريع النخبوية

«الفكر والنهوض» عن دار الفكر (بيروت - دبي)
«الفكر والنهوض» عن دار الفكر (بيروت - دبي)

في كتابه الجديد الصادر في بيروت مؤخراً، يحاول الباحث الأكاديمي لؤي صافي إثارة أسئلة تطرحها جهود الإصلاح العربية بعد قرنين عليها، حول الأسس الثقافية والاجتماعية والدينية لمشروعها النهضوي والتجديدي، والطرق المختلفة التي اتبعتها المجتمعات العربية، وقادت إلى نتائج تتناقض مع الأهداف التي سعت إليها، في ظل واقع عربي يزداد تأزماً وتفككاً، تحول مؤخراً إلى أزمة وجودية تتعلق بهوية شعوب المنطقة ومصيرها.
فالمشروع القومي، الذي قادته النخب العروبية في الشام والعراق ومصر وليبيا، انتهى إلى مزيد من التمزق والتناحر بين قيادات تلك الدول بدلاً من الوحدة والتعاون. كما جرب العرب مشروع المجتمع التقدمي، بشكليه الاشتراكي والليبرالي، الذي عمل على اقتباس الأنظمة الإدارية والتعليمية والصناعية من النموذج الغربي، ولكن المشروع انتهى بمزيد من التفاوت الطبقي وتقييد الحريات ضمن دولة أمنية بامتياز. وجرب العرب طريق الدولة الدينية، وانتهى المشروع كذلك إلى تناقضات بين المظاهر الدينية والممارسات البعيدة عن قيم الإسلام ومبادئه.
ويرى المؤلف أن هذه المشاريع حققت تطوراً بنيوياً في المجتمعات التي احتضنتها، «ولكنه تطور قام على تغيير في أشكال الحياة وأدواتها، دون تحقيق تغيير عميق في الوعي والسلوك والثقافة. ومن الأمثلة على ذلك، أن المجتمعات العربية جميعاً نجحت في اقتباس المؤسسة التعليمية الحديثة، التي تنقل آخر التطورات المعرفية في العلوم والرياضيات والفيزياء إلى الطلاب، وينتشر العدد الكبير من المدارس والجامعات في مدن وقرى الدول العربية، لكن الإنسان العربي ما زال عاجزاً عن تطوير المعارف بنفسه والمساهمة في النمو المعرفي والصناعي والإنساني».
وبالمثل، نجد أن العديد من الدول العربية تتبنى أحدث الدساتير والقوانين، وتعتمد صناديق الانتخاب لاختيار أعضاء المؤسسات السياسية الحاكمة، ولكنها دول تتمتع بالميزة الشكلية للقوانين والمؤسسات الديمقراطية والشورية، في حين أن واقع حالها يدل على أن الأفراد الذين يملكون الثروة والسلطة قادرين على تطويع هذه المؤسسات لتحقيق مصالح شخصية، دون اعتراض الغالبية السكانية على الانتهاكات الحقوقية التي يرونها أمام أعينهم كل يوم.
ويرى صافي أن تحديد الأنساق الفكرية وتمييز التناقضات النظرية وعلاقتها بالبنى الاجتماعية والتحديات الثقافية التاريخية، سيمكننا من تقديم تصور للخطوط العريضة التي يمكن اعتمادها لتطوير مشروع حضاري ينبع من ضمير الأمة ووجدانها، ويسمح لها بالقيام بالنهضة الحضارية التي تعتمد على المحفزات النفسية والروحية والأخلاقية الذاتية. وأن ملامح المشروع الحضاري المطلوب تشكل نسقاً فكرياً مفتوحاً، لا مشروعاً يعتمد على اجتهاد فكري منفرد، وبالتالي هو مشروع يبني على إنجازات الماضي، ويدعو إلى عملية تراكم وتراكب فكري ومعرفي وفق خطوط عريضة تهدف إلى توليد الزخم النظري المطلوب لتحريض الفعل الحضاري، وتوجيه الجهود نحو مجتمع حضاري يحقق للإنسان حريته وكرامته، ويسمح بإخضاع المؤسسات المجتمعية للقيم الإنسانية العليا، قيم العدل والحق والجمال، التي تشكل فحوى الرسالات السماوية.


مقالات ذات صلة

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
TT

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة بأنّك حصلت لتوّك على سِفر ثمين من الحكمة السياسيّة وخبرة الإدارة في المنصب التنفيذي الأهم في إحدى دول العالم العظمى، لا سيما أن الرجل جاء إلى فضاء السلطة من الصحافة كاتباً ورئيس تحرير لمجلّة سبيكتاتور الأسبوعيّة العريقة، ومؤرخاً نشر عدّة كتب مهمة - بما فيها سيرة لملهمه وينستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية - قبل أن يُنتخب عمدة للعاصمة لندن ثم رئيساً للوزراء وزعيماً لحزب المحافظين. ولعل مما يرفع وتيرة التوقعات أيضاً أنّه كان في موقع التأثير واتخاذ القرار في مراحل مفصليّة في تاريخ بلاده المعاصر، سواء الأشهر الأخيرة من عصر الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، أو خروج المملكة المتحدة من عضويّة الاتحاد الأوروبي، أو وباء «كوفيد 19». أو الحرب في أوكرانيا، ناهيك عن شهرته عبر العالم كنسخة من دونالد ترمب على الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي، حتى أنّه ربما يكون السياسي البريطاني الوحيد الذي يعرفه سكان هذا العالم باسمه الأول (بوريس). لكن الحقيقة أن المذكرات ورغم تضمنها مقاطع مهمة هنا وهناك ولحظات صاعقة من الصراحة، فإنها في المحصلة أقرب إلى موجة جارفة من التبرير المقعّر، والإعجاب النرجسي بالذات، وتصفية الحسابات السياسيّة ولوم للجميع لأنهم أضاعوه، ويا ويلهم أي فتى أضاعوا؟

ومع ذلك، فإن «مطلق العنان» قراءة سهلة، يتم سردها بلغة قريبة من لغة الحوار اليومي أكثر منها لغة متعجرفة كما يتوقع من خريجي المدرسة النخبوية في إيتون وجامعة أكسفورد، مع كثير من علامات التعجب، والأصوات الشارعيّة المكتوبة بحروف كبيرة، والصفات المرصوفة كجمل طويلة، والإهانات الشخصيّة لمنافسيه، والأسئلة البلاغيّة عديمة الفائدة، فيما غلب عليها مزاج من السخريّة والهزل حتى في التعاطي مع القضايا التي يفترض أنّه جاد بشأنها.

هذا النّفس الذي اختاره جونسون لسرد مذكراته (والتي قد تدر عليه دخلاً سيتجاوز الثلاثة ملايين جنيه إسترليني وفق تقديرات صناعة النشر) أفقد الكتاب كثيراً من قيمته المتوقعة كوثيقة تاريخيّة، وبدت أجزاء كبيرة منه روايات ربما يتمنى كاتبها لو كانت الحقيقة، أو ربما أعتقد بالفعل أنها كانت الحقيقة كجزء مما يسميه جونسون نفسه التنافر المعرفي الذي يصيب الساسة المغمسين في وظيفتهم القياديّة لدرجة أنهم يصابون بالعمى عن المشاكل السياسية الهائلة التي تتراكم خارج مكاتبهم. هذا سوى بعض الأخطاء التفصيليّة في تسجيل الأحداث أيضاً والتي لا يفترض أن تمرّ على مؤرخ معتّق أو على ناشره المرموق (يقول مثلاً إن حكومة حزب العمال في أسكوتلندا أطلقت سراح الليبي المتهم بتفجيرات لوكربي، فيما الواقع أنها كانت حكومة الحزب القومي الأسكوتلندي).

من الناحية الإيجابيّة فإن جونسون يضمِّن كتابه تعليقات ذكيّة حول مسائل استراتيجيّة تبدو في ميزان اليوم أفضل من أدائه الفعلي رئيساً للوزراء كما مثلاً في رؤيته لأسباب اللامساواة الاقتصاديّة بين الأجيال، وتفسيره للانقسام الاقتصادي العميق بين العاصمة لندن الكبرى وبقيّة المملكة المتحدة، وتصوّراته حول رفع سويّة الأجزاء الأقل حظاً منها من خلال برامج تحديث البنية التحتية وتكنولوجيا الاتصال والاستفادة من أموال الخزينة العامّة لجذب استثمارات القطاع الخاص، وكذلك تحوّله من منكر لتحولات المناخ إلى منذر من مخاطرها ومفسّر للحجج الأخلاقيّة والاقتصاديّة الدّاعية إلى التصدي لجذورها من أجل مصلحة الأجيال المقبلة.

أثناء زيارة لمكتبه في عام 2017 طلب منه نتنياهو استخدام المرحاض بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت تم زرعه هناك

يفشل بوريس في تقديم مرافعة كانت متوقعة منه بشأن دوره فيما يعرف بـ«بريكست»، أو القرار بتخلي بريطانيا عن عضوية الاتحاد الأوروبيّ. وهو يعترف بأنّه كان مشتتاً وقتها بين اعتقاده بضرورة أن تتخلص بلاده من سلطة بروكسل عليها (مقر الاتحاد الأوروبي) من ناحية، وتفهمه لمشاعر كثيرين من عائلته وأصدقائه الذين أرادوا منه دعم حملة البقاء في النادي الأوروبيّ، ويقرّ بأنه في المساء الذي أعلن فيه قراره بدعم التوجه إلى الخروج من الاتحاد، كتب نسختين من المقال نفسه، واحدة (مع) وواحدة (ضد) كي يمكنه اختبار حنكة حججه، ليجد في النهاية أن حملة تأييد البقاء افتقدت إلى الحماس، ولم تمتلك أي رسالة إيجابيّة واضحة لتقولها. في المقابل، فإن جونسون يبدو في هذه المذكرات ليس مفتقراً فحسب لأي شعور بالمسؤولية عن الفوضى التي أعقبت التصويت على المغادرة، والإدارة السيئة للمفاوضات التي قادتها حكومات المحافظين وهو فيها مع الاتحاد الأوروبي، بل يبدو غاضباً حتى على مجرد اقتراح مساءلته من حيث المبدأ متسائلاً: «وماذا بحق الجحيم كان من المفترض علينا أن نفعل؟»، بينما يقفز للعب دور البطولة منفرداً فيما يتعلق برد حكومة المملكة المتحدة على حالات التسمم النووي التي نسبت لروسيا في سالزبوري عام 2018. في وقت صار فيه من المعلوم أن تيريزا ماي، رئيسة الوزراء حينها، هي من كانت وراء ذلك الموقف الحازم. ويخلص جونسون للقول إن حزب المحافظين كان سيفوز في انتخابات هذا العام لو بقي على رأس السلطة ولم يتعرّض للخيانة من رفاقه، وهي مسألة يكاد معظم المراقبين يتفقون على استحالتها بالنظر إلى تراكم سلسلة الفضائح وسوء الإدارة وهزالة الطرح الآيديولوجي لحكومات حزب المحافظين خلال الخمسة عشر عاماً الماضية على نحو تسبب للحزب النخبوي بأقسى هزيمة له في مجمل تاريخه العريق. في المذكرات يكتب جونسون عن زيارة قام بها بنيامين نتنياهو إلى مكتبه في عام 2017، طلب خلالها رئيس الوزراء الإسرائيلي استخدام المرحاض. بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت قد تم زرعه هناك. وقال جونسون إنه على وفاق مع نتنياهو وإن القراء يجب ألا يستخلصوا استنتاجات أوسع حول الزعيم الإسرائيلي من تلك الحكاية!