رغم أن مساحة النمسا لا تتجاوز 83.879 كيلومتراً مربعاً، فإن عدد بُحيراتها يصل إلى 5 آلاف بحيرة، كل واحدة منها تختلف عن الثانية من ناحية الحجم والعمق واللون. بحيرة فوشل مثلاً تتمتع بلون زمردي غامق، بينما تتميز بحيرة شفارز بكونها الأكثر دفئاً، من دون أن ننسى بحيرة زيل إم سي، التي تحظى بإعجاب السياح الخليجيين تحديداّ وهلمّ جرّا، من البحيرات التي تزخر كلها بطبيعة تُغني عن زيارة أي مكان آخر؛ لأنها وبكل بساطة تمنح تجارب وتخلّف انطباعات لا تمحى من الذاكرة إلى الأبد. ولأن المساحة لا تتسع لكل هذه البحيرات سنركز على بحيرة «بودن سي – كونستانس»؛ لما تتمتع به من تنوع شديد. فهي ليست نمساوية مائة في المائة بحكم أن النمسا تحد شرقها فقط بينما تحدها ألمانيا شمالاً وسويسرا جنوباً؛ ما يجعلها تخضع لقوانين تتفق عليها الدول الثلاث. ولنا فقط أن نتخيل مدى رومانسيتها، عندما نعرف أنها محاطة بجبال الألب الشمالية، وبشواطئ تترامى على ثلاثة من أجمل بلاد أوروبا وأكثرها ثراءً. وكأن هذا لا يكفي؛ فهي لا تبعد عنها إمارة ليشتنتاين سوى مسافة نصف ساعة بالسيارة.
تعتبر بحيرة «بودن سي» كما يسميها النمساويون والألمان، و«كونستانس» كما يسميها السويسريون، ثالث أكبر بحيرة عذبة وسط وغرب أوروبا.
يبلغ طولها 63 كيلومتراً وعرضها 14 كيلومتراً، بينما يصل عمقها إلى 252 متراً. كما تقع على ارتفاع 395 متراً فوق سطح البحر محاطة بجبال الألب الشمالية. إضافة إلى ثلاثة روافد مائية تنبع منها، فإنها أيضاً تتغذى من نهر الراين. وتوجد بها نحو 10 جزر، أهمها جزيرة مايناو ذات الملكية الخاصة، وإن كانت تتبع للضفة الألمانية. وتكتسب مياه البحيرة ألوانها وفقاً لاختلاف العمق، علماً بأن مدى هذا العمق يؤثر في قابلية المياه للتجمد شتاءً. أما من الناحية التاريخية، فتتميز بكونها من أقدم المناطق المسكونة؛ وهو ما يشهد عليه متحف مفتوح يعرض نماذج أعيد بناؤها لأكواخ من القش شيدت بالطريقة نفسها التي شُيدت بها قبل 3 آلاف سنة.
بجانب كونها موقعاً سياحياً يمتاز ببنية سياحية من الدرجة الأولى وجمال طبيعي وآثار ومدن وقلاع وكنائس تاريخية، تحولت جوانب من ضفافها إلى مناطق رياضية موجهة لهواة المغامرات وخوض المخاطر. فالتغيرات الطقسية المفاجئة التي قد تداهمها، بما في ذلك عواصف رعدية صيفية، تجعلها مناسبة لمثل هذه الرياضات. وحتى لا تعرض حياة هؤلاء للخطر، فإن دول البحيرة توفر نظم إنذار حديثة للتنبيه، كما تضيئها بأضواء برتقالية اللون تومض بمعدل 90 ومضة في الدقيقة في حال الرياح الشديدة.
شلالات الراين
من أشهر المواقع على الضفة السويسرية منطقة شلالات نهر الراين «Rehin Fall» أكبر الشلالات الأوروبية. تشكلت في العصر الجليدي الأخير، أي منذ ما يقرب من 17 ألف سنة مضت كما تشير المعلومات المنشورة عنها. تعتبر حالياً مصدر جذب سياحي لا يضاهى، وبخاصة أن رحلات منتظمة تأخذ الراغبين فيها. ما يجعلها مطلب السياح أنهم يقتربون فيها لمسافات تصل حد الصخور التي تشق المياه المنهمرة بقوة تدفق تقرب من 700 متر مكعب في الثانية، وقد تقل تلك القوة شتاءً، لكنها لا تنقطع رغم البرودة. يبلغ عرض الشلالات 150 متراً وارتفاع 23 متراً.
يمكن الوصول لمنطقة الشلالات من مختلف أنحاء البحيرة بكل وسائل المواصلات، كما تزخر بالمطاعم ووسائل الراحة.
مدينة كونستانس
تطل مدينة كونستانس على البحيرة من أقصى جنوب ألمانيا على نقطة تلامس مع الحدود السويسرية غرب ضفاف نهر الراين، وتتميز بكونها أكبر مدن البحيرة وأقدمها؛ إذ يعود تاريخها للعصر الحجري.
على عكس الكثير من المدن الألمانية، نجت كونستانس من التدمير أثناء الحرب العالمية الثانية؛ إذ ظنها الحلفاء مدينة سويسرية. حديثاً، أمست مدينة جامعية تضج بالشباب والحفلات الموسيقية والمهرجانات والمعارض.
مدينة سانت غالن
من مدن الضفة السويسرية القديمة. لم تتخلف عن ركب الحداثة رغم أن كاتدرائيتها تعود لعام 612.
الآن أصبحت موقعاً لأكبر مصانع الأقمشة، التي تعتمد عليها أكبر بيوت الأزياء، مثل «شانيل» و«كريستيان ديور». وللمدينة شهرة واسعة بين السودانيات بسبب ما تنتجه من أقمشة التوب السوداني المميز، سواء موسلين أو حرير أو قطن. هذا، ولا تخلو مدن سويسرية ونمساوية أخرى حول البحيرة من مصانع لمختلف أنواع الأقمشة مثل البرودريه والقطن المطبوع وغيره.
متاحفها
من جانبها الألماني، توجد ولاية بافاريا الثرية بتقاليدها الجرمانية العريقة وطبيعتها الخضراء وغابتها السوداء.
ومن مدنها مدينة فريدريشهافن، التي تتميز بمتاحفها المتعددة، كمتحف دورنير لتاريخ الطائرات، ومتحف Zeppeln للمناطيد والرحلات الجوية منذ القرن الـ18 وحتى عصرنا الحديث. يحتضن المتحف لوحات وأعمالاً فنية من العصور الوسطى حتى الفن الحديث. كما يضم أكبر مجموعة من الطائرات الفضائية في العالم مع غرف تعرض أفلاماً تعتمد على براعة التصوير ثلاثي الأبعاد.
ومن متاحف الأخرى، نذكر متحف «زيبلين» ويتتبع تاريخ المدارس النظامية من 1850 وكيف تغيرت في عام 1900، وما لحقها من تطور في عام 1930.
بريغنز
نمساوياً، يحتفي إقليم فورالبورغ بالبحيرة أيما احتفاء، ولا سيما عاصمته بريغنز. فقد نصبت فوق مياه البحيرة أفخم مسرح عائم، يستضيف كل سنة مهرجان بريغنز الصيفي، الذي انطلقت فعالياته بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة. كان ثمرة جهود مثقفين لاستعادة روح السلام وإشاعة فنون الأوبرا والمسرح والموسيقى. الآن أصبح المهرجان عالمياً.
يستمتع أهل بريغنز وسياحها بمنظر جبل «فاندر» المنعكس على مياه البحيرة، كما يطيب لهم الجلوس عصراً حول البحيرة لمشاهدة غروب الشمس في حين لا تتوقف حركة المدينة، وكأن كل يوم هو يوم عيد فيها، بما توفره المطاعم الشعبية البسيطة ذات الجنسيات المختلفة من أطعمة ومشروبات وحلويات.
وسط البحيرة ومن قلب مائها تبرز قطعة يابسة عطرة، تعرف باسم جزيرة مايناو «Mainau»... سبب رائحتها أنها تزدان بأكثر من مليون وردة ونبتة من 400 صنف تنتشر على مرمى البصر، وتتخللها تماثيل ومجسمات تغطيها الزهور. تعود ملكية الجزيرة لأسرة برناديت، وهي فصيل من العائلة السويدية المالكة ممن يقومون على رعايتها والعناية بها بصفتها موقعاً سياحياً يقصده الملايين سنوياً. الجميل هنا، أن التنقل فيها، سهل وسلس بفضل التخطيط الهندسي العالي الذي يربط مدن وقرى البحيرة بالبلدان الثلاثة. فهي تتوفر على مواصلات مائية وطرق برية سريعة وجسور ومطارات. لكن يبقى التنقل بالسيارات الأفضل؛ لما يوفره من حرية، خصوصاً أن العبّارات تنقل السيارات؛ الأمر الذي يوفر الكثير من الوقت، ويسمح بمزيد من الاستمتاع بالبحيرة ومناظرها البانورامية. ولا شك أن تأشيرة الدخول (شينغن) كان لها دور كبير في تسهيل حرية الحركة أوروبياً.
فرغم أن سويسرا ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي، فإنها تدخل ضمن دول «شينغن». أضف إلى ذلك وسائل المواصلات من قطارات سريعة مريحة ودقيقة، وحافلات برية وعبارات مائية منضبطة تأخذك من بحيرة إلى أخرى. هذه البنية التحتية، إضافة إلى الاهتمام السياحي، يجعل المنطقة وجهة سياحية وتجارية وثقافية رائعة. فالسائح هنا لا يحتاج إلى أكثر من هاتف ذكي متصل بالشبكة العنكبوتية لمساعدته على حجز بطاقة سفر ومكان للإقامة، ويعرفه بموعد وسائل النقل وأين يأكل، وأين يتجه، بل وحتى أين يتسوق ويتنزه.
معلومات جانبية
> تكثر حول البحيرة وفي كل ضفة مطاعم وفنادق بمختلف المستويات. ويتضاعف السعر كلما اقترب المرء من واحدة من هذه البحيرات.
وفي حين توفر معظم المطابخ أطعمة البحر بمختلف طرق الطهي بما في ذلك الأسماك المدخنة والسالمون، تتميز كل ضفة بأطعمتها الشعبية. فستجد «الشنتزل» وهو اللحم المدقوق المحمر في النمسا، بينما ستجد الفوندو، وهو «الجبن الذائب» في سويسرا، والسجق في ألمانيا.
> كل من النمسا وألمانيا تعتمد اليورو عملةً موحدةً، في حين تستخدم سويسرا الفرنك السويسري. ورغم قبولها التعامل باليورو داخل سويسرا، فإنك ستحصل على الباقي بالفرنك.
> نظراً لأهميتها، أضافت منظمة «اليونيسكو» خمسة مواقع حول البحيرة لقائمتها الخاصة بالمواقع الأثرية المحمية، نذكر منها قصر وقلعة ماركسز بورغ Marksburg بمدينة براوباخ الألمانية الذي شيد في عام 1117، وجزيرة رايشناو Reichenau حفاظاً على ديرها الذي يعود للقرن العاشر الميلادي ويعتبرونه أثراً ثقافياً ودينياً وفنياً.
كذلك، متحف بحيرة دوليلنق فاهلباوتن Lake Dwelling Museum Pfahlbauten، وهو متحف مفتوح يضم مجموعة أكواخ من القش أعيد تشييدها على أعمدة خشبية ترفعها فوق سطح مياه البحيرة بالطريقة ذاتها التي شيدت بها في العصر البرونزي.