عجز الموازنة اللبنانية يصل إلى 4 مليارات دولار سنوياً

فائض ضخم في أعداد الموظفين والآلاف يقبضون رواتبهم من دون عمل

TT

عجز الموازنة اللبنانية يصل إلى 4 مليارات دولار سنوياً

تعاني الوزارات والإدارات الرسمية اللبنانية والبلديات فائضاً في عدد موظفيها، الذين يتقاضى الآلاف منهم رواتبهم من دون أي عمل، لكنّ هذه المؤسسات باتت مصابة بتخمة كبيرة، بعد توظيف ما يزيد عن عشرة آلاف شخص في العامين الأخيرين، رغم قرار الحكومة القاضي بوقف التوظيف أو التعاقد مع الدولة، لسببين: الأول وجود فائض كبير من الموظفين والأجراء، والثاني محاولة الحدّ من ارتفاع نسبة الأجور التي ترهق خزينة الدولة، وتزيد نسبة الدين العام سنوياً.
وأجمعت آراء الخبراء وأهل الاختصاص على أن الاستمرار في هذه السياسة يقوّض قدرة الدولة على المضي بالإصلاحات المطلوبة منها دولياً، ويحول دون تقليص واحتواء العجز، والمفارقة أن مخالفة قرار الحكومة بمنع التوظيف ارتكبها الوزراء الذين اتخذوا قرار وقف التوظيف، وفق ما أعلن رئيس مجلس شورى الدولة السابق القاضي شكري صادر، الذي أكد لـ«الشرق الأوسط»، أن «بعض الوزراء ضربوا بعرض الحائط قرارات مجلس الوزراء، وخالفوها عن قناعة وإرادة مسبقة».
وشدد على أن «29 وزيراً من أصل 30 خالفوا القانون، إن لم يكن الثلاثين وزيراً». وقال: «التوظيف لا يزال يتم بطرق ملتوية، وبالتحايل والالتفاف على قرارات الحكومة، عبر تعيين الموظفين الجدد كمتعاقدين أو أجراء أو مياومين». وعبَّر القاضي صادر عن أسفه، لأن «مجلس الخدمة المدنية لا يستطيع أن يخاطب وزارة المال، ويطلب منها عدم دفع رواتب الذين عينوا بطريقة خاطئة»، معتبراً أن «هذا النزف يتحمّل مسؤوليته الفريق السياسي الحاكم، الذي يمارس سياسة (اعطني وأعطيك)، ولذلك أصبح البلد في قمّة الفساد».
وتعدّ نسبة التوظيف في إدارات الدولة اللبنانية هي الأعلى مقارنة مع دول العالم، إذ يبلغ عدد موظفي القطاع العام 40 في المائة من إجمالي عمّال لبنان، وكشف الباحث في «الشركة الدولية للمعلومات» محمد شمس الدين، أن «عدد الذين جرى توظيفهم في السنتين الأخيرتين، يبلغ نحو 10 آلاف شخص، خمسة آلاف منهم في المؤسسات العسكرية والأمنية، والباقون في الوزارات والإدارات والبلديات». ورأى في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «الخطأ يبدأ بالفائض الكبير في السلك العسكري والأمني». وقال: «هناك مخطط لرفع عديد الجيش إلى 80 ألف ضابط وعنصر، وقوى الأمن الداخلي من 30 إلى 40 ألفاً، والأمن العام من 8500 إلى 12000، وهذا يشكل كلفة عالية جداً على خزينة الدولة»، لافتاً إلى أن «كلّ عميد يحال على التقاعد يتقاضى تعويضاً لا يقلّ عن 700 مليون ليرة لبنانية (466 ألف دولار أميركي) وراتباً تقاعدياً يزيد عن 6 ملايين ليرة (4 آلاف دولار)، و240 ليتر بنزين، وسائق خاص يفرز له من مؤسسته».
هذه الأرقام دفعت لجنة المال والموازنة إلى توجيه كتاب إلى التفتيش المركزي، طلبت فيه تزويدها بلوائح لكامل الوظائف الجديدة في الوزارات والإدارات الرسمية، لمساءلة الوزراء المختصين بهذا الأمر. ويراهن البعض على تحرّك مجلس شورى الدولة لوضع يده على هذه التجاوزات ومعالجتها، إلا أن القاضي شكري صادر أوضح أن «مجلس الشورى لا يستطيع أن يضع يده على هذا الملف تلقائياً، طالما لا توجد منازعة قضائية أو طعن، حتى يقول إن هذا التعيين صحيح وهذا مخالف للقانون»، معتبراً أن «الصلاحية في ذلك تعود للتفتيش المركزي وديوان المحاسبة وأجهزة الرقابة»، مستغرباً كيف أن «دولة صغيرة بحجم لبنان لا تحتاج لأكثر من 80 ألف موظف، لديها الآن ما يزيد عن 270 ألف موظف في إدارات الدولة».
وللمفارقة، فإن هذه التوظيفات العشوائية جاءت قبل وخلال الانتخابات النيابية التي جرت في 6 مايو (أيار) الماضي، وفسّرها المتابعون لهذا الملف بأنها جرت لاستمالة الناخبين، ومحاولة كلّ فريق سياسي حصد أكبر عدد من النواب، من دون الأخذ بالاعتبار الكلفة الباهظة لهذه التوظيفات على مالية الدولة المرهقة أصلاً.
ولفت الباحث في «الدولية للمعلومات» محمد شمس الدين، إلى أن «الإيرادات التي تحصلها البلديات من الجبايات، ومن الصندوق البلدي المستقل، ومن الهاتف الخليوي، تذهب رواتب على التوظيفات والتنفيعات العشوائية، وليس لصرفها على تحسين الطرقات والبنى التحتية والكهرباء وغيرها»، ونبّه إلى أن «المخيف في الأمر أن 65 في المائة من إيرادات الدولة تذهب لرواتب الموظفين في القطاع العام»، وأضاف: «معلوم أن إيرادات الدولة سنوياً تقدّر بـ12.5 مليار دولار، تدفع منها 8 مليارات للرواتب والأجور، و5.5 لخدمة الدين، ومليار للمشاريع والخدمات، ومليارين لعجز الكهرباء، ما يجعل عجز الموازنة بحدود 4 مليارات دولار سنوياً».



الحوثيون يكثّفون حملة الاعتقالات في معقلهم الرئيسي

جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
TT

الحوثيون يكثّفون حملة الاعتقالات في معقلهم الرئيسي

جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)

أطلقت الجماعة الحوثية سراح خمسة من قيادات جناح حزب «المؤتمر الشعبي» في مناطق سيطرتها، بضمانة عدم المشاركة في أي نشاط احتجاجي أو الاحتفال بالمناسبات الوطنية، وفي المقابل كثّفت في معقلها الرئيسي، حيث محافظة صعدة، حملة الاعتقالات التي تنفّذها منذ انهيار النظام السوري؛ إذ تخشى تكرار هذه التجربة في مناطق سيطرتها.

وذكرت مصادر في جناح حزب «المؤتمر الشعبي» لـ«الشرق الأوسط»، أن الوساطة التي قادها عضو مجلس حكم الانقلاب الحوثي سلطان السامعي، ومحافظ محافظة إب عبد الواحد صلاح، أفضت، وبعد أربعة أشهر من الاعتقال، إلى إطلاق سراح خمسة من أعضاء اللجنة المركزية للحزب، بضمانة من الرجلين بعدم ممارستهم أي نشاط معارض لحكم الجماعة.

وعلى الرغم من الشراكة الصورية بين جناح حزب «المؤتمر» والجماعة الحوثية، أكدت المصادر أن كل المساعي التي بذلها زعيم الجناح صادق أبو راس، وهو عضو أيضاً في مجلس حكم الجماعة، فشلت في تأمين إطلاق سراح القادة الخمسة وغيرهم من الأعضاء؛ لأن قرار الاعتقال والإفراج مرتبط بمكتب عبد الملك الحوثي الذي يشرف بشكل مباشر على تلك الحملة التي طالت المئات من قيادات الحزب وكوادره بتهمة الدعوة إلى الاحتفال بالذكرى السنوية للإطاحة بأسلاف الحوثيين في شمال اليمن عام 1962.

قيادات جناح حزب «المؤتمر الشعبي» في صنعاء يتعرّضون لقمع حوثي رغم شراكتهم الصورية مع الجماعة (إكس)

في غضون ذلك، ذكرت وسائل إعلام محلية أن الجماعة الحوثية واصلت حملة الاعتقالات الواسعة التي تنفّذها منذ أسبوعين في محافظة صعدة، المعقل الرئيسي لها (شمال)، وأكدت أنها طالت المئات من المدنيين؛ حيث داهمت عناصر ما يُسمّى «جهاز الأمن والمخابرات»، الذين يقودهم عبد الرب جرفان منازلهم وأماكن عملهم، واقتادتهم إلى معتقلات سرية ومنعتهم من التواصل مع أسرهم أو محامين.

300 معتقل

مع حالة الاستنفار التي أعلنها الحوثيون وسط مخاوف من استهداف قادتهم من قبل إسرائيل، قدّرت المصادر عدد المعتقلين في الحملة الأخيرة بمحافظة صعدة بنحو 300 شخص، من بينهم 50 امرأة.

وذكرت المصادر أن المعتقلين يواجهون تهمة التجسس لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل ودول أخرى؛ حيث تخشى الجماعة من تحديد مواقع زعيمها وقادة الجناح العسكري، على غرار ما حصل مع «حزب الله» اللبناني، الذي أشرف على تشكيل جماعة الحوثي وقاد جناحيها العسكري والمخابراتي.

عناصر من الحوثيين خلال حشد للجماعة في صنعاء (إ.ب.أ)

ونفت المصادر صحة التهم الموجهة إلى المعتقلين المدنيين، وقالت إن الجماعة تسعى لبث حالة من الرعب وسط السكان، خصوصاً في محافظة صعدة، التي تستخدم بصفتها مقراً أساسياً لاختباء زعيم الجماعة وقادة الجناح العسكري والأمني.

وحسب المصادر، تتزايد مخاوف قادة الجماعة من قيام تل أبيب بجمع معلومات عن أماكن اختبائهم في المرتفعات الجبلية بالمحافظة التي شهدت ولادة هذه الجماعة وانطلاق حركة التمرد ضد السلطة المركزية منذ منتصف عام 2004، والتي تحولت إلى مركز لتخزين الصواريخ والطائرات المسيّرة ومقر لقيادة العمليات والتدريب وتخزين الأموال.

ومنذ سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد وانهيار المحور الإيراني، استنفرت الجماعة الحوثية أمنياً وعسكرياً بشكل غير مسبوق، خشية تكرار التجربة السورية في المناطق التي تسيطر عليها؛ حيث نفّذت حملة تجنيد شاملة وألزمت الموظفين العموميين بحمل السلاح، ودفعت بتعزيزات كبيرة إلى مناطق التماس مع القوات الحكومية خشية هجوم مباغت.

خلق حالة رعب

بالتزامن مع ذلك، شنّ الحوثيون حملة اعتقالات شملت كل من يُشتبه بمعارضته لسلطتهم، وبررت منذ أيام تلك الحملة بالقبض على ثلاثة أفراد قالت إنهم كانوا يعملون لصالح المخابرات البريطانية، وإن مهمتهم كانت مراقبة أماكن وجود قادتها ومواقع تخزين الأسلحة في صنعاء.

وشككت مصادر سياسية وحقوقية في صحة الرواية الحوثية، وقالت إنه ومن خلال تجربة عشرة أعوام تبيّن أن الحوثيين يعلنون مثل هذه العمليات فقط لخلق حالة من الرعب بين السكان، ومنع أي محاولة لرصد تحركات قادتهم أو مواقع تخزين الصواريخ والمسيرات.

انقلاب الحوثيين وحربهم على اليمنيين تسببا في معاناة ملايين السكان (أ.ف.ب)

ووفق هذه المصادر، فإن قادة الحوثيين اعتادوا توجيه مثل هذه التهم إلى أشخاص يعارضون سلطتهم وممارساتهم، أو أشخاص لديهم ممتلكات يسعى قادة الجماعة للاستيلاء عليها، ولهذا يعمدون إلى ترويج مثل هذه التهم التي تصل عقوبتها إلى الإعدام لمساومة هؤلاء على السكوت والتنازل عن ممتلكاتهم مقابل إسقاط تلك التهم.

وبيّنت المصادر أن المئات من المعارضين أو الناشطين قد وُجهت إليهم مثل هذه التهم منذ بداية الحرب التي أشعلتها الجماعة الحوثية بانقلابها على السلطة الشرعية في 21 سبتمبر (أيلول) عام 2014، وهي تهم ثبت زيفها، ولم تتمكن مخابرات الجماعة من تقديم أدلة تؤيد تلك الاتهامات.

وكان آخرهم المعتقلون على ذمة الاحتفال بذكرى الإطاحة بنظام حكم أسلافهم في شمال اليمن، وكذلك مالك شركة «برودجي» التي كانت تعمل لصالح الأمم المتحدة، للتأكد من هوية المستفيدين من المساعدات الإغاثية ومتابعة تسلمهم تلك المساعدات؛ حيث حُكم على مدير الشركة بالإعدام بتهمة التخابر؛ لأنه استخدم نظام تحديد المواقع في عملية المسح، التي تمت بموافقة سلطة الحوثيين أنفسهم