محنة إدلب تشق تحالف تركيا والتيارات المتطرفة

تكفير واتهامات... و«حركة الشباب» الصومالية تدخل على خط الأزمة

خراب ودمار في معرة النعمان شمال إدلب بفعل قصف قوات النظام السوري لأنحاء المدينة  (أ.ف.ب)
خراب ودمار في معرة النعمان شمال إدلب بفعل قصف قوات النظام السوري لأنحاء المدينة (أ.ف.ب)
TT

محنة إدلب تشق تحالف تركيا والتيارات المتطرفة

خراب ودمار في معرة النعمان شمال إدلب بفعل قصف قوات النظام السوري لأنحاء المدينة  (أ.ف.ب)
خراب ودمار في معرة النعمان شمال إدلب بفعل قصف قوات النظام السوري لأنحاء المدينة (أ.ف.ب)

تداعيات تحولات الموقف التركي من الحالة المعقدة في إدلب تتوالى تباعاً فيما يشبه فاتورة آيديولوجية باهظة الثمن والتأثير قررت تنظيمات العنف المسلح، والتيارات المتطرفة، أن وقتها حان لتدفعه تركيا والرئيس إردوغان متهمين إياه بأنه باع قضيتهم وعنفهم المسلح في بورصة التحالفات السياسية التي يشتد عودها في الحالة السورية، وزاد من حنقهم أن عدوهم القديم وخصمهم اللدود «الدب الروسي» بحسب وصفهم هو من ربح تلك الصفقة ومن وراءه نظام طهران، وحرسه الثوري ومن بعدهم النظام السوري الذي كانوا يراهنون على نهايته الوشيكة لولا تدخل المضاربين الجدد مدفوعين بالميليشيات وتردد المجتمع الدولي في التدخل.
بدأت القصة حين أخرج أبو محمد المقدسي المنظر الأول للسلفية الجهادية سهم التكفير من جعبة التطرف وأطلقها باتجاه شخص الرئيس التركي وهو يدرك أن نصله سيصيب في مقتل الشرعية التي منحها رفاق الأمس جماعة «الإخوان المسلمين» ورموز الإسلام السياسي وتأثرت بسببهم غالب الجماعات المسلحة التي تكاثرت في مناخ العنف بمناطق التوتر بشكل غير مسبوق لتبلغ المئات تحمل أسماء مجدولة من تاريخ المعارك ورموز مسيرة التطرف المعاصر، حتى تنظيم داعش تأثر بذلك المناخ وبما كشفته تقارير لمراكز بحثية عن ممرات لكوادره عبر الأراضي التركية كان يتم التغاضي عنها لإحداث فارق نوعي على مستوى إضعاف العدو القريب المباشر لتركيا، وهم الأكراد الذين وقفوا في الضفة الأخرى محاولين استغلال حالة الفوضى وانعدام السيادة في مناطق التوتر.
فتوى أبو محمد المقدسي كانت الشرارة التي أطلقت براكين الغضب للتيارات المسلحة على ما رأته خيانة لقضيتها خصوصا أنها بعد انكسارات عميقة في مواقع مختلفة من الأراضي السورية تحصنت في إدلب باعتبارها الملاذ الأخير، بينما جرت مفاوضات حثيثة من اللاعبين الفاعلين في سوريا، وفي مقدمتهم تركيا لإحداث انشقاقات داخل تلك التيارات فيما عرف بتصفية المقاومة من الإرهاب، والتي يعتقد الروس بأنها عملية جراحية مآلها الفشل، لكن موقف التكفير ونفي الشرعية هو ما أحدث انشقاقاً داخل صفوف الإسلام السياسي حيث انبرى الإخوان ومن يدور في فلك آيديولوجيتهم الحزبية ويتعاطف مع شعاراتهم بإطلاق نيران غير صديقة تجاه المقدسي والمقاتلين معتبرين الأول شخصية متناقضة تتلاعب بها الاستخبارات وواصفين التيارات المسلحة بالغموض وعدم وضوح الرؤية وضرورة العمل على استراتيجية جديدة تحافظ على بقاء شعلة الثورة التي أفسدتها «داعش» والقاعدة وكل التنظيمات المحلية التي اقتربت منهم وفي مقدمتهم جبهة النصرة ومن يناصرها من الأجنحة الوليدة في الداخل السوري.

الدعم العاجل
لم تتأخر عملية الإسناد الآيديولوجي وأتت من أقاصي تمركز التنظيمات المتشددة المسلحة، حيث قام أبو عبيدة أحمد عمر أمير «حركة شباب المجاهدين» الصومالية بشن هجوم حاد على تركيا ورئيسها متهماً إياها بأنها وراء تدهور الصومال من خلال قواعدها العسكرية لنهب خيرات البلاد حسب وصفه في كلمته التي بثتها «مؤسسة الكتائب» تحت عنوان «تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى»، في اقتباس قرآني للتدليل على طبيعة الانشقاق بين الحركات المسلحة، ليعود ويصف الدور التركي في بلاده بالانتهازية وتضييع مصير الأمة.

فتش عن السياسة
مواقف حادة كتلك واستعداء وتأليب على تركيا ورئيسها من قبل التيارات المتطرفة لا يمكن إرجاعه بقراءة تسطيحية لمعطيات عقائدية بل يجب أن نفهم السياق السياسي المتحول الذي أنتج تلك المواقف في هذا التوقيت بالذات خصوصاً مع تدهور الأوضاع وتوالي الانشقاقات في محافظة إدلب التي باتت اليوم أكبر تجمع للتنظيمات المسلحة تأتي جبهة «النصرة» في مقدمتها إضافة إلى الكثير من الفصائل الأخرى معظمها ينتمي بشكل أو بآخر لفكر تنظيم «القاعدة»، بمعنى أنها تدور في فلك «النصرة»، وهي في نظر الفاعلين في الأزمة السورية الذين أجمعوا أمرهم في مؤتمر أستانة باستحالة القيام معها بتسويات سياسية أجريت في مرات سابقة مع فصائل مسلحة أخرى لا توضع عادة في سلة «الإرهاب» التي تضع كل دولة قطافاتها الخاصة بها.

مسار أستانة

ما استثار غضب تلك التنظيمات ما فعلته قمة طهران لضامني مسار أستانة هو أنها منحت تركيا مهلة لحل جبهة «النصرة» تلك المهمة المستحيلة في نظر المختصين والمحللين حيث لا يقف الأمر على تقليم أظافر «جبهة النصرة» إضافة إلى وجود الآلاف من المقاتلين الذين ينضوون تحت مسميات كثيرة تنتمي إلى فكر القاعدة كما أن تغيير النصرة لجلدها واسمها بطابع محلي «جند الشام» لن يغير شيئا في المعادلة على الأرض، فالجماعات المسلحة تنتشر عرضاً وطولاً في إدلب «كأحرار الشام» وتنظيم «نور الدين الزنكي» و«صقور الشام» و«جيش الأحرار» و«الجبهة الوطنية لتحرير سوريا» وكلها متهمة بحمل آيديولوجية «السلفية الجهادية» وفكر «القاعدة» ويزيد التعقيد بإقامة الآلاف من المقاتلين الأجانب غير الاعتياديين ومنهم فصيل ضخم من «الإيغور الصينيين» برفقة عوائلهم إضافة إلى مقاتلين من القوقاز والشيشانيين تتوزع مناطق انتشارهم بين ريفي إدلب واللاذقية وينخرط معهم قياديون سبق أن شاركوا في القتال مع القاعدة في معاركها المختلفة.

تسويق الفزع
الروس بدورهم يلعبون على تسويق الفزع من عدم الحسم تجاه جيوب الإرهاب القاطنة في إدلب وهم يدركون خوف الدول الأوروبية وقلقها من فرار تلك العناصر إلى بلدانهم الأصلية، كما أن أي أطروحات تصالحية أو توافقية مع تركيا بشأنهم تبدو بعيدة المنال، وهو ما تدركه تلك التنظيمات ويفسر سر انقلابها وهجومها غير المسبوق كماً ونوعاً على تركيا ورئيسها.
جحيم الحالة السورية في ظل تخاذل المجتمع الدولي ومؤسساته وإزاء قبعة الحياد التي ترتديها الدول الغربية؛ يبدو أنه يتجه إلى الأسوأ فثمة تقارير استخباراتية ومستخلصات لخبراء تتفق مع ما تبشر به حسابات التنظيمات المتطرفة على مواقع التواصل الاجتماعي من تغير في المعادلة بدخول تنظيم «حراس الدين» إلى إدلب وانتشاره فيها لتغيير المعادلة لصالح التنظيمات التي تدين للقاعدة بالولاء ورفضا لاتفاق إدلب الذي أبرمه الرئيسان التركي رجب طيب إردوغان والروسي فلاديمير بوتين، الأسبوع الماضي.

مانفستو متطرف
تنظيم «حراس الدين» ينشط الآن ويكثف حملاته على الإنترنت للتحذير من مؤامرة كبرى بحق التيارات المتطرفة، في إدلب على حد وصفه مشبهاً لما يحدث بما حدث لمسلمي البوسنة والهرسك، في تنشيط وإلهام للذاكرة الجمعية للمتعاطفين مع آيديولوجيات العنف المسلح.
تنظيم «حراس الدين» يحاول بدوره وقف انشقاقات ما يسمى بـ«الصف الجهادي» حيث قام بإصدار مانفستو على طريقة «يا مقاتلي ومجاهدي العالم اتحدوا»؛ البيان الذي حمل عنوان «أنقذوا فسطاط المسلمين» دعا فيه إلى ضرورة نصرة غوطة دمشق الشرقية كما توعد بشن عمليات عسكرية ضد قوات النظام السوري لكن الأهم أنه أكد على ضرورة أن تسعى الفصائل العسكرية في الشمال السوري لـ«وقف الاقتتال فيما بينها».
يذكر أن تنظيم «حراس الدين» نجم الشباك في هذه الأيام للتنظيمات المسلحة هو تيار مسلح صاعد يستلهم إرث «القاعدة» ويتبنى فكرها ويتحرك بخبرة محاربين قدامى من تنظيم القاعدة في أفغانستان والمنشقين من تنظيم داعش ويقدر عدد أفراده بألفي مقاتل وهو رقم رغم تواضعه قد يحدث فارقاً نوعياً بفضل شعاراته وتسويقه لإرث «القاعدة» الذي قد يجعله الأكثر استقطاباً لمناطق التوتر كما أن تمركزه في إدلب سيزيد من تفاقم الأوضاع في تلك المنطقة التي تشهد تحولات جيوسياسية هي الأكثر تعقيداً وغرابة في تاريخ التنظيمات الجهادية المسلحة.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.