فرناندو حدّاد يحاول قيادة حزب العمال لاستعادة حكم البرازيل

أمام الخيار الكبير بين يسار مأزوم ويمين شعبوي مغامر

فرناندو حدّاد يحاول قيادة  حزب العمال لاستعادة حكم البرازيل
TT

فرناندو حدّاد يحاول قيادة حزب العمال لاستعادة حكم البرازيل

فرناندو حدّاد يحاول قيادة  حزب العمال لاستعادة حكم البرازيل

تشهد البرازيل، كبرى دول «العالم اللاتيني» خلال أيام انتخابات رئاسية استثنائية في أهميتها، وسط استقطاب كبير بين اليسار الاشتراكي والشعبوية اليمينية التي تتمدد في عموم العالم هذه الأيام، بما في ذلك كبرى الديمقراطيات العريقة. وفي حين يشكّل مرشح اليمين الشعبوي جاير بولسونارو «فرس رهان» اليمين، رشح حزب العمال، أقوى التنظيمات اليسارية في البرازيل والحزب الذي أعطى البلاد رئيستها السابقة ورئيسها الأسبق، رئيس بلدية ساو باولو السابق البروفسور فرناندو حدّاد... وهو أكاديمي وسياسي من أصل عربي لبناني.

في الثامن من شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل قد تستيقظ البرازيل على رئيس متحدّر من أصل لبناني يختلف عن متحدّر آخر من أصل لبناني، في خضمّ أخطر أزمة اقتصادية وسياسية واجتماعية تمرّ بها القوة العظمى الأولى في أميركا اللاتينية. إنه فرناندو حدّاد، المرشّح عن حزب العمّال اليساري الذي فاز في كل الانتخابات التي خاضها منذ عام 2002، غير أنه يواجه اليوم أزمة غير مسبوقة بعد عزل الرئيسة السابقة ديلما روسّيف وسجن الرئيس الأسبق لويس «لولا» دا سيلفا بتهم اختلاس الأموال العامة والفساد.

بطاقة هوية

وُلد فرناندو حدّاد عام 1963 في مدينة ساو باولو، كبرى مدن البرازيل و«عاصمتها الاقتصادية»، لوالدين لبنانيين؛ إذ تعود أصول عائلة الأب خليل ابن حبيب الحدّاد إلى بلدة عين عطا في قضاء راشيا بجنوب محافظة البقاع (جنوب شرقي لبنان)، بينما تنتمي الأم نورما تيريزا غصين إلى عائلة من مدينة زحلة عاصمة محافظة البقاع. وكان حبيب الحدّاد قد غادر لبنان إلى البرازيل عام 1947، ونشأ ابنه فرناندو في ساو باولو حيث تلقّى علومه الثانوية في مدارسها الرسمية، قبل أن يلتحق بجامعة ساو باولو، حيث نال شهادة الماجستير في العلوم الاقتصادية. ومن ثم حصل منها على درجة الدكتوراه في الفلسفة عن أطروحة حول كارل ماركس حظيت باهتمام واسع في الأوساط الأكاديمية والفكرية؛ ما حدا بالجامعة إلى نشرها في كتاب صدرت منه حتى الآن 22 طبعة.
انضمّ فرناندو حدّاد إلى حزب العمّال خلال دراسته الجامعية عام 1983، وبدأ نشاطه المهني مستشاراً في معهد البحوث الاقتصادية التابع لكلية الاقتصاد في الجامعة. ثم عمل مديراً للتنمية الاقتصادية والشؤون المالية في بلدية ساو باولو ومستشاراً خاصاً لوزارة التخطيط والموازنة والإدارة. لكن «نجوميته» لم تظهر حتى عام 2000 عندما بدأ يدرّس العلوم السياسية في الجامعة، وإذ ذاك كان الطلاب يتهافتون على متابعة دروسه ومحاضراته في السياسة الحديثة حول مونتسكيو وماركس، وكان أولئك الذين يتعذّر عليهم الالتحاق رسمياً بصفوفه الدراسية يطلبون من إدارة الجامعة أن تسمح لهم بمتابعتها عبر البثّ التلفزيوني الداخلي المباشر.

تألقه السياسي... ومشكلاته

في عام 2005 تولّى حدّاد حقيبة وزارة التربية في حكومة لولا ثم في حكومة روسّيف حتى عام 2012 عندما قرّر الاستقالة ليترشّح لمنصب رئيس بلدية ساو باولو الذي فاز به في الجولة الثانية. خلال العام الأول من رئاسته لبلدية ساو باولو أظهر حدّاد قدرة عالية على تنظيم القطاع التعليمي وتحديثه، ومعالجة المشكلاته البيئية وتعزيز البحوث العلمية، إلا أنه ما لبث أن واجه أزمته الكبرى الأولى عندما اندلعت أعمال الشغب في المدينة إثر قرار رفع أسعار المواصلات العامة، وما عقبها من حملات القمع التي نفذتها قوات الشرطة العسكرية. ومع اتّساع دائرة الاحتجاجات الشعبية لتشمل كل أنحاء البلاد، تعرّض حدّاد لانتقادات شديدة بسبب عجزه عن فتح قنوات للحوار من أجل احتواء الغضب الشعبي الذي كان يعتمل، خصوصاً، في أوساط المؤيدين لحزب العمّال الذي ينتمي إليه. وعموماً، كان من المآخذ الأخرى على إدارة حدّاد شؤون بلدية ساو باولو - التي يتجاوز تعداد سكانها 13 مليون نسمة – قلة تجاوبه مع مطالب الطبقة الفقيرة التي تشكّل القاعدة السياسية والحاضنة الشعبية لحزبه، رغم أنه خصّص للطلاب الفقراء برنامجاً كبيرا للمنح الدراسية في البرازيل وخارجها. ولقد اعترف عندما هُزم في الانتخابات التالية لرئاسة البلدية عام 2016 بأنه فشل في شرح برنامجه وإيصال أفكاره إلى الناخبين وتسويق إنجازاته.

أزمة حزب العمال

في أي حال، وعلى الرغم من خسارة حدّاد رئاسة بلدية ساو باولو، لم تقف هذه النكسة عائقاً أمام صعوده إلى الصفوف الأمامية في الحزب الذي كانت تهتزّ ركائزه على وقع الفضائح المتعاقبة. وللعلم، كانت هذه الفضائح قد بلغت رئيسة الجمهورية ديلما روسّيف وأدّت إلى عزلها في تصويت البرلمان عام 2016، بعدما سقط معظم القياديين البارزين في الحزب، وضاق الحصار القضائي على «لولا» (لويس دا سيلفا)، الزعيم الذي لا منازع له، والرئيس الأسبق الذي كان يتأهب للعودة من السجن إلى الرئاسة.
بل عكس ذلك، هذه الظروف أعادت تسليط الأضواء على القيادي اليساري الشاب الذي كان من القلائل الذين لم تخسفهم شخصية «لولا» داخل حزب العمّال ونجوميته الواسعة. ثم إن حدّاد لم يتورّط في فضائح الفساد الذي كان ينخر دعائم الحزب، فضلاً عن كونه يتمتع بسمعة أكاديمية مرموقة يفتقدها قادة الحزب الذين ينتمي معظمهم إلى الحركة النقابية، وفي طليعتهم «لولا». ويضاف إلى ذلك كله أن حدّاد لم يكن طامحاً لدور البطولة، بل كان مكتفياً بمواصلة مساره السياسي من الصف الثاني.
وبالتالي، لعل الوجود في الصف الثاني، وفي الوقت المناسب... هو الذي فتح أمام حدّاد باب المنافسة على رئاسة الجمهورية التي يتولّاها حاليّاً ميشال تامر، المتحدّر هو أيضاً من أصل لبناني، والذي نجا – بدوره – من العزل بتهم الرشوة والفساد؛ لأنه يحظى بتأييد غالبية مجلس الشيوخ الذي يخشى معظم أعضائه المصير ذاته إن هم قرّروا عزله.

الرهان على لولا

بعد سقوط روسّيف وانتخاب نائبها تامر – الذي قاد المؤامرة الهادفة لعزلها – رئيساً للجمهورية، سُلّطت كل الأضواء كالعادة على «لولا» دا سيلفا الذي لم يكن يشكّ أحد، بين مؤيديه كما بين خصومه، في قدرته على العودة إلى الرئاسة في الانتخابات المقبلة. إلا أنه أخطأ في حساباته عندما راهن على شعبيته لمواجهة تهم الفساد والإفلات من الملاحقات القضائية، وقلّل من قدرة أعدائه على محاصرته وعزمهم على منعه من العودة إلى صدارة المعركة السياسية من أعماق السجن. وكانت «الرصاصة الأخيرة» في جعبة «لولا» التقرير الذي استصدره مؤيّدوه من لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، الذي يوصي بالسماح له بممارسة حقوقه مرشحاً لرئاسة الجمهورية. لكن المحكمة الانتخابية تجاهلت التقرير غير المُلزم، وأصدرت حكمها النهائي بإلغاء ترشيح «لولا» محذّرة الحزب من إلغاء ترشيح نائب الرئيس إذا لم يسحب «لولا» ترشيحه قبل المهلة المحددة.
تلك كانت الفرصة التي لا شك أنها لم تكن غائبة عن حسابات فرناندو حدّاد عندما تجاوب مع عرض «لولا» للترشّح نائباً له، يوم كان الرئيس الأسبق في انتظار القرار النهائي للمحكمة الدستورية في الطعن الذي قدّمه ضد الحكم الصادر بسجنه 12 سنة بتهمة اختلاس الأموال العامة. ويوم 11 سبتمبر (أيلول) الحالي أعلن حزب العمال انسحاب «لولا» من السباق الرئاسي وترشيح حدّاد الذي أصبح الأمل الوحيد المتبقي لاستعادة هيبة الحزب الذي سيطر على الحياة السياسية في البرازيل منذ أواسط تسعينات القرن الماضي.

مرشح الاضطرار

يعرف حدّاد، المحسوب على الجناح المعتدل في الحزب، أنه ليس المرشّح الذي كانت تحلم به قواعد الحزب الشعبية في مواجهة الجناح النقابي الراديكالي الذي يقوده «لولا». وهو يعرف أيضاً أن القواعد الشعبية الفقيرة التي تشكّل الخزّان الانتخابي الأساسي للحزب، تأخذ عليه ابتعاده عنها وميوله الاقتصادية المعتدلة. لكنه، في المقابل، يدرك أنه الوحيد القادر في الحزب على استعادة الأصوات التي استقطبها تامر عند انشقاقه، وتلك التي ابتعدت عن الحزب بسبب الفساد والفضائح.
طبعاً، لن يكون من السهل على حدّاد حشد التأييد العارم الذي يتمتع به «لولا» حتى بعد دخوله الأخير السجن؛ إذ كان يتقدم على منافسيه بفارق كبير في كل الاستطلاعات، ولقد وصل إلى 90 في المائة في نهاية ولايته الثانية. وليس محسوماً أيضاً وصول حدّاد إلى الجولة الثانية؛ إذ ينافسه اثنان من الوزراء السابقين في حكومة «لولا» بجانب المرشّح اليميني المتطرّف جاير بولسونارو الذي بات من شبه المؤكد وصوله إلى الجولة الثانية.
لكن المشهد الانتخابي ما زال يتغيّر باستمرار في هذا السباق المحموم الذي لم تشهد مثله البرازيل في تاريخها. فعندما أعلن الحزب ترشيح حدّاد منذ أسبوعين لم تكن نسبة التأييد له تتجاوز 9 في المائة حسب كل الاستطلاعات. وكانت هناك شكوك كبيرة في قدرة «لولا» على تجيير شعبيته له، أو حتى في رغبته دعم وصول نائبه إلى سدّة الرئاسة. لكن ما هي إلا أيام حتى ارتفعت شعبية حدّاد لتصل إلى 26 في المائة بعد أسبوعين فقط من إعلان ترشيحه، وهو ما يرجّح وصوله إلى الجولة الثانية لمواجهة بولسونارو الذي يواصل صعوده بعد تعرّضه لمحاولة اغتيال خلال الحملة الانتخابية كادت تودي بحياته؛ إذ بلغت شعبيته 28 في المائة وفقاً لآخر الاستطلاعات.
الأمر الوحيد المؤكد في هذه الانتخابات هو أن أياً من المرشحين الرئيسين لن يكون قادراً على الفوز من الجولة الأولى، وأن الجولة الثانية ستكون صراعاً مستميتاً على كل صوت ومنافسة مفتوحة على كل الاحتمالات حتى اللحظات الأخيرة.
المرشّح اليميني والشعبوي المتطرف بولسونارو يواصل التصعيد في خطابه العنصري ويجاهر بحنينه إلى الديكتاتورية العسكرية، بل يلمّح في حال فوزه إلى احتمال القيام بانقلاب ذاتي يعيد العسكر إلى الحكم، جاعلاً الهاجس الأمني يتقدم على الهواجس المعيشية بعدما بلغ عدد ضحايا الجرائم والاغتيالات 60 ألف قتيل في العام الماضي. لكنه، في المقابل، سيواجه صعوبة كبيرة في توسيع دائرة تأييده بعد الجولة الأولى؛ إذ يفتقر إلى الدعم في مجلس النواب كونه لا ينتمي إلى أي كتلة برلمانية، ما قد يحول دون توصله إلى تحالفات مع أحزاب أخرى في الجولة الثانية.
أما حدّاد فإنه سيضطر إلى استخدام خِطابين متناقضين لضمان تجاوزه الجولة الأولى والفوز في الجولة الثانية. الأول لمخاطبة القاعدة الشعبية من الفقراء والأميين الذين لن يتزاحموا لمتابعة محاضراته في الجامعة، والذين تعوّدوا على خطاب «لولا» الذي يحاكي هواجسهم ويعرف كيف يحرّك مشاعرهم. والآخر لاستمالة أولئك المعتدلين الذين يتخوّفون من شطط المرشح اليميني المتطرف، لكنهم قد يؤيدونه أو يمتنعون عن التصويت بسبب رفضهم القاطع لسياسة «لولا» وأسلوبه...
إنه درسٌ في الماكيافيلية السياسية على «البروفسور» حدّاد أن يتقنه خلال أيام معدودة لكسب تأييد ملايين الناخبين الذين لم يحسموا موقفهم بعد، قبل أن يُكتب له الوصول إلى رئاسة الجمهورية البرازيلية.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.