اسبينوزا.. محاولة الإفلات من قبضة الخرافة

رفض الفصل بين الذهن والجسم

اسبينوزا
اسبينوزا
TT

اسبينوزا.. محاولة الإفلات من قبضة الخرافة

اسبينوزا
اسبينوزا

كانت فلسفة اسبينوزا، ومن خلال المفاهيم التي نحتها، والظواهر التي بحثها، والأنماط التي شرّحها واختبرها، محاولة للإفلات من قبضة حاضر تهيمن عليه الخرافات والأباطيل، أراد بمعاول علمه مستخدما مطارقه أن ينقض على هذا الغول الخرافي الرابض على أوروبا من أقصاها إلى أقصاها، وظف المفاعيل الهندسية والأسس النظرية الطبيعية من أجل تخطيط منهجه وتشييد فلسفته، وهو بهذا يحاول أن يخاتل ويناور ذلك أن الزمن العصيب الذي عاشه كان منفجرا على المستوى الديني والسلطات الكنسية التي تضرب من دون رحمة كل من مس لها أسطورة أو كذب لها أيقونة أو شطب لها فكرة، على النحو الذي ذكرناه في الحلقة التي خصصتُها عن حياته. هنا سأقف مع أبرز المفاهيم المتعلقة بالمعرفة والدولة التي تضمنتها فلسفته.
ألحّ اسبينوزا على أن أول درجة في سلم التفكير تكون: «أنطولوجية» عبر البحث عن الوجود وعن الطبيعة، متجاوزا البدء الذاتي في كوجيتو ديكارت: «أنا أفكر إذن أنا موجود». راح يبحث ويحدد أنواع المعرفة أولها: معرفة نكونها عن الأشياء الخاصة بواسطة حواسنا، وتتمثل لنا فيها الأشياء جزئية مختلطة لا ترتيب فيها، ثم إلى معرفة سماعية تؤدي بنا إلى تكوين فكرة عن الأشياء مشابهة لما نتخيله عنها فحسب. والثاني: ينشأ من وجود أفكار لدينا مشتركة بين جميع الناس، وأفكار كافية عن خصائص الأشياء «العقل». ثالثها: وهو المفهوم المثير للجدل في فلسفة اسبينوزا، وهو «الحدس» عبر الانتقال من فكرة كافية عن الماهية المطلقة للصفات إلى المعرفة الكافية لماهية الأشياء. ورغم الربط بين هذا المفهوم (الحدس) وبين سياق الصوفية في الوصول إلى الحقيقة، كما ذهب إلى ذلك فندلبنت غير أن الحدس الاسبينوزي هو حدس لا يتجاوز معطيات العقل والعلم على النحو الذي تكون فيه الشطحة الصوفية، وهذا مجال بحث آخر.
يعتبر المعرفة العقلية جزء منها فيزيائي انطلاقا من عدم الفصل بين الذهن والجسم، ذلك أن ما يعرفه الإنسان من أفكار تنبعث من حالته الفيزيائية، وجماع هذه الفكرة حال ائتلاف بين جسمه الخاص وعقله الخاص، علاوة على تأثير الاتصال الجسدي بالنتيجة التي يتوصل إليها العقل. يعود إلى الالتقاء بديكارت من خلال مفهوم «التميز» للفكرة التي تمحض الصحيح والخاطئ، فالفكرة الأوضح والأكثر تميّزا أصدق من الفكرة الغامضة المشوشة، وليس علينا أن نقارن بموضوعها لنعرف ذلك، باختصار: «ما دام نظام الأفكار وارتباطها هنا نفس نظام الأشياء وارتباطها، فإننا نستطيع أن نكون متأكدين أن الفكرة الواضحة تماما والمتميزة في ذاتها متضايفة في عقولنا مع ما يناظرها بين الأحداث فقط في صفة الامتداد، وبأنها تتضايف تماما مع هذا الحادث، ومثل هذه الفكرة تشغل مكانها المناسب في سلسلة النظام الضروري للأفكار الذي يكون حقيقة نظام الكون».
على مستوى الرؤية السياسية، والتشييد النظري لمفهوم الدولة، توضح الدراسات التي اشتغلت على فلسفة اسبينوزا أن ثمة تأثيرا من قبل توماس هوبز عليه وبالأخص من خلال كتاب: «اللفياثان»، كلاهما يرى أن كل إنسان مقدر عليه بطبيعته أن يسعى لتحقيق مصلحته، وكلاهما حاول أن يبين أن تكوين المجتمع السياسي بما ينطوي عليه ذلك من قيود على الحرية الفردية للإنسان يمكن تبريره لأسباب مصلحية عقلية.
يكتب عبد الرحمن بدوي في قراءة مقارنة بين هوبز واسبينوزا: «إن هوبز مثل اسبينوزا يتحدث عن القانون الطبيعي والحق الطبيعي، ويقصد بالقانون الطبيعي: المجرى الذي حددته الطبيعة كي يسير فيه الإنسان، والحق الطبيعي وهي مجموع القوانين الطبيعية التي بها نتصور كل فرد على أنه مقدر عليه بالطبيعة أن يعيش على نحو معين». ثمة تقاطعات حول الدولة والسياسة بين الفيلسوفين واضحة ضمن مفاهيم رئيسة تتعلق بالإنسان والدولة والقانون والحرب، واسبينوزا في رسالته رأى أن أفضل أنواع الحكم: «ذلك الذي يتأسس على العقل ويسترشد بالعقل».
كتب اسبينوزا بلغة جافة علمية صارمة، مستخدما الهندسة للمخاتلة، والنقد غير المباشر، واستعمال الصيغ النظرية لهدم الخرافة والأباطيل، لا تزال بعض مفاهيميه وبعد مرور أربعة قرون عليها يصعب تداولها في بلدان كثيرة من العالم، ويستحيل نقاشها وتدريسها بأوساط قلقة محتقنة تجاه الأطروحات المختلفة، بقي غائبا عن التداول الفكري العربي كما أشرنا من قبل غير أن انبعاث مفاهيمه كان قويا عبر أطروحات بدأت في منتصف القرن العشرين على يد فؤاد زكريا، ومن ثم عبد الرحمن بدوي، وصولا إلى حسن حنفي، وانفرط العقد الآن بفضل الجيل الفلسفي الشاب.
اسبينوزا يشبه مفاهيمه، عاش متخفيا في قرى نائية، لكنه موجود في كل لحظة، والمفهوم الذي تطرده من الباب يأتيك من الشباك، إنه طيف اسبينوزا الكبير الذي لا مثيل له في التاريخ.



مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يؤكد مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج

جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)
جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)
TT

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يؤكد مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج

جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)
جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)

أكد البيان الختامي لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة، الذي اختُتم مساء السبت، إقامة مشروع بحثي فلسفي يدرس نتاج الفلاسفة العرب وأفكارهم وحواراتهم.

وبعد اختتام مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة، الذي أُقيم بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، وذلك بمقر «بيت الفلسفة» بالإمارة، برعاية الشيخ محمد بن حمد الشرقي، ولي عهد الفجيرة؛ اجتمع أعضاء «حلقة الفجيرة الفلسفيّة» في مقرّها بـ«بيت الفلسفة»، وأصدروا بياناً دعوا إلى تأسيس نواة «اتحاد الجمعيات الفلسفية العربية»، ومقرّه الفجيرة، وتشجيع الجمعيات على الانضمام إلى «الفيدرالية الدولية للفلسفة».

الشيخ محمد بن حمد الشرقي ولي عهد الفجيرة خلال رعايته مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة (بيت الفلسفة)

وأكد البيان أهمية مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج العربي، مثل مشكلة الهوية وتعزيز الدراسات حولها.

ودعا للسعي إلى «الإضاءة على الفلسفة في العالم العربي وتمييزها من الفلسفة الغربية؛ لأنّ هدف بيت الفلسفة المركزي تعزيز الاعتراف بالآخر وقبوله».

كما دعا البيان إلى تعزيز دائرة عمل «حلقة الفجيرة الفلسفيّة»، بما يضمن تنوّع نشاطها وتوسّع تأثيرها؛ بدءاً بعقد جلسات وندوات شهريّة ودوريّة من بُعد وحضورياً، ومروراً بتعزيز المنشورات من موسوعات ومجلّات وكتب وغيرها، وانتهاء باختيار عاصمة عربيّة في كلّ سنة تكون مركزاً لعقد اجتماع «حلقة الفجيرة الفلسفيّة» بإشراف «بيت الفلسفة».

وأكد توسيع دائرة المشاركين خصوصاً من العالم الغربي؛ بحيث يُفعّل «بيت الفلسفة» دوره بوصفه جسراً للتواصل الحضاري بين العالمين العربي والغربي.

كما بيّن أهمية إصدار كتاب يجمع أعمال المؤتمرات السابقة. وبدءاً من العام المقبل سيعمد «بيت الفلسفة» إلى تعزيز الأبحاث المطوّلة في المؤتمر ونشرها في كتاب خاصّ.

ومؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة هو الأول من نوعه في العالم العربي، وتشارك فيه سنوياً نخبة من الفلاسفة البارزين من مختلف أنحاء العالم، ويحمل المؤتمر هذا العام عنوان: «النقد الفلسفي».

وتهدف دورة هذا العام التي بدأت يوم الخميس الماضي واختُتمت السبت، إلى دراسة مفهوم «النقد الفلسفي»، من خلال طرح مجموعة من التساؤلات والإشكاليات حوله، بدءاً بتعريف هذا النوع من النقد، وسبل تطبيقه في مجالات متنوعة؛ مثل: الفلسفة، والأدب، والعلوم.

وتناول المؤتمر العلاقة بين النقد الفلسفي وواقعنا المعيش في عصر الثورة «التكنوإلكترونية»، وأثر هذا النقد في تطوّر الفكر المعاصر.

وخلال مؤتمر هذا العام سعى المتحدثون إلى تقديم رؤى نقدية بنّاءة جديدة حول دور الفلسفة في العصر الحديث، ومناقشة مجموعة من الموضوعات المتنوعة، تشمل علاقة النقد الفلسفي بالتاريخ الفلسفي وتأثيره في النقد الأدبي والمعرفي والعلمي والتاريخي، ومفاهيم مثل «نقد النقد»، وتعليم التفكير النقدي، إلى جانب استكشاف جذور هذا النقد وربطه ببدايات التفلسف.

الشيخ محمد بن حمد الشرقي ولي عهد الفجيرة خلال رعايته مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة (بيت الفلسفة)

وعملت دورة المؤتمر لهذا العام على أن تصبح منصة غنيّة للمفكرين والفلاسفة لتبادل الأفكار، وتوسيع آفاق النقاش حول دور الفلسفة في تشكيل المستقبل.

وشملت دورة هذا العام من مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة عدداً من الندوات والمحاضرات وجلسات الحوار؛ حيث افتُتح اليوم الأول بكلمة للدكتور أحمد البرقاوي، عميد «بيت الفلسفة»، وكلمة للأمين العام للاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية.

وتضمّنت أجندة اليوم الأول أربع جلسات: ضمت الجلسة الأولى محاضرة للدكتور أحمد البرقاوي، بعنوان: «ماهيّة النّقد الفلسفيّ»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الغذامي، بعنوان: «النقد الثقافي»، وترأس الجلسة الدكتور سليمان الهتلان.

وضمت الجلسة الثانية محاضرة للدكتور فتحي التريكي، بعنوان: «النقد في الفلسفة الشريدة»، ومحاضرة للدكتور محمد محجوب، بعنوان: «ماذا يُمكنني أن أنقد؟»، ومحاضرة ثالثة للدكتور أحمد ماضي، بعنوان: «الفلسفة العربية المعاصرة: قراءة نقدية»، وترأس الجلسة الدكتور حسن حماد.

أما الجلسة الثالثة فضمت محاضرة للدكتور مشهد العلّاف، بعنوان: «الإبستيمولوجيا ونقد المعرفة العلميّة»، ومحاضرة للدكتورة كريستينا بوساكوفا، بعنوان: «الخطاب النقدي لهاريس - نقد النقد»، ومحاضرة للدكتورة ستيلا فيلارميا، بعنوان: «فلسفة الولادة - محاولة نقدية»، وترأس الجلسة: الدكتور فيليب دورستيويتز.

كما ضمت الجلسة الرابعة محاضرة للدكتور علي الحسن، بعنوان: «نقد البنيوية للتاريخانيّة»، ومحاضرة للدكتور علي الكعبي، بعنوان: «تعليم الوعي النقدي»، وترأس الجلسة: الدكتور أنور مغيث.

كما ضمّت أجندة اليوم الأول جلسات للنقاش، وتوقيع كتاب «تجليات الفلسفة الكانطية في فكر نيتشه» للدكتور باسل الزين، وتوقيع كتاب «الفلسفة كما تتصورها اليونيسكو» للدكتور المهدي مستقيم.

جانب من الحضور (الشرق الأوسط)

وتكوّن برنامج اليوم الثاني للمؤتمر (الجمعة 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2024) من ثلاث جلسات، ضمت الجلسة الأولى محاضرة للدكتورة مريم الهاشمي، بعنوان: «الأساس الفلسفي للنقد الأدبيّ»، ومحاضرة للدكتور سليمان الضاهر، بعنوان: «النقد وبداية التفلسف»، وترأست الجلسة: الدكتورة دعاء خليل.

وضمت الجلسة الثانية محاضرة للدكتور عبد الله المطيري، بعنوان: «الإنصات بوصفه شرطاً أوّلياً للنّقد»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الجسمي، بعنوان: «النقد والسؤال»، وترأس الجلسة الدكتور سليمان الضاهر.

وضمت الجلسة الثالثة محاضرة للدكتور إدوين إيتييبو، بعنوان: «الخطاب الفلسفي العربي والأفريقي ودوره في تجاوز المركزية الأوروبية»، ومحاضرة الدكتور جيم أي أوناه، بعنوان: «الوعي الغربي بفلسفة ابن رشد - مدخل فيمونولوجي»، ويرأس الجلسة: الدكتور مشهد العلاف.

وتكوّن برنامج اليوم الثالث والأخير للمؤتمر (السبت 23 نوفمبر 2024) من جلستين: تناولت الجلسة الأولى عرض نتائج دراسة حالة «أثر تعليم التفكير الفلسفي في طلاب الصف الخامس»، شارك فيها الدكتور عماد الزهراني، وشيخة الشرقي، وداليا التونسي.

وشهدت الجلسة الثانية اجتماع «حلقة الفجيرة الفلسفية» ورؤساء الجمعيات الفلسفية العربية.