«الموساد» تحت مجهر مؤيد أو منتقد

الفيلم الجديد «مُهمة نهائية» يعود أدراجه إلى سواه من الأفلام التي تحدثت عن النازية واليهود. عن الفاشية الألمانية وضحاياها. لكن عبارة أنه مأخوذ عن قصّة حقيقية تكشف عن أن هناك غطاء سيستخدم لتلوين «الحقيقة» بما تتطلبه الأفلام من إضافات.
هنا، على سبيل المثال، نجد أن ابن النازي أدولف أيخمان (يؤديه بن كينغسلي)، واقع في حب امرأة يهودية. هذا ليس في زمن الحرب العالمية الثانية عندما كان أيخمان منشغلاً بإرسال اليهود إلى حتفهم، بل في الستينات عندما قامت الموساد الإسرائيلية باكتشاف مخبأ أيخمان في الأرجنتين وأرسلت بعض رجالها للقبض عليه والعودة به إلى تل أبيب ليحضر محاكمته عن الجرائم التي قام بها.
الفرقة تحت قيادة بيتر (أوسكار أيزاك) الذي لديه، على الورق، كل الأسباب التي تدفعه للنجاح في المهمّـة ومن بينها أن شقيقته كانت إحدى ضحايا أيخمان. هذا سيلعب درامياً على خلفيات الصراع بين بيتر وأدولف اللذين يمضيان الكثير من الوقت في فيلم كريس وايز وهما يتبادلان النقاش حول ما الذي حدث ولماذا وما إذا كان أيخمان أُجبر على الانصياع لأوامر عليا أو لا. كل هذا، وغيره، يمر مثل قطار محمل بضحايا يسير ببطء شديد مع اختلاف أن الضحايا هم من المشاهدين الذين عليهم متابعة لعبة مكتوبة من دون عمق بين الجلاد والضحية.
للسخرية، هناك صورة مقلوبة لا يسعى الفيلم لإبرازها فالجلاد السابق بات - حسب الأحداث التي نراها - ضحية والضحية السابقة هي الجلاد الجديد. لكن هذه الخطوة من الخطورة بحيث ليس من صالح الفيلم طرحها وإلا أصبح نقيض نفسه وهو لا يستطيع أن يفعل ذلك.
- السلام الملثّـم
الموساد في الأفلام كان لديه، خلال السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، مهمّـتان أساسيتان: مطاردة النازيين ومطاردة العرب المعادين. هذا الفريق الأخير قد يكون رجلاً ذا قضية أو لفيفاً إرهابياً.
بن كينغسلي نفسه اشترك في فيلمين من هذه النخبة. الأول حين قام ببطولة «الموت والخادمة» (رومان بولانسكي، 1994) مؤدياً شخصية مجرم نازي تلاحقه منتقمة مما حاق بأهلها (سيغورني ويفر) والثاني «المهمّة» (كرستيان دوغواي، 1996) حيث لعب شخصية عميل للموساد يساعد في ملاحقة كارلوس سانشيز (أيدان كوين).
لا يتساوى هذان الفيلمان إلا من حيث موضوعهما حول حق الانتقام والنيل ممن يهدد أمن إسرائيل أو يؤيد القضية. لكن قبلهما بنحو عقد كامل قام الأميركي جورج روي هِل باقتباس رواية للكاتب الجاسوسي الناجح جون لي كاري عنوانها «فتاة الطبل الصغيرة» (Little The Drummer Girl) وأنجز منها عملاً يستحق الإشادة لأنه ينجز ما أخفق «مهمة نهائية» إنجازه: منح العمل وضعاً سياسيا وطروحات من وجهات نظر متعددة.
في ذلك الفيلم نجد دايان كيتون في دور امرأة كانت قابلت ناشطاً فلسطينياً تم اغتياله من قِبل الموساد والآن يريدون اغتيال شقيقه خليل (سامي فراي) المنتمي إلى «منظمة التحرير الفلسطينية». رهانهم أن تشارلي (كيتون) لم تر وجه من قابلته وهو يخطب في الحق الفلسطيني، لأنه كان ملثماً والآن يريدونها طعماً لاصطياد خليل لأن الموساد، كما يقول لها كلاوس كينسكي لاعباً شخصية مدير العملية، يريد أيضاً إحلال السلام.
تشارلي الأميركية بريئة من كل ذنب كونها ساذجة وتصدق ما يُقال لها. لكن الرواية، كما الفيلم، يلقيان بظلال كثيفة على أعمال الموساد تحت مبرر الدفاع عن إسرائيل. هذا رغم أن الفيلم لا يتخلى عن محاولة الإمساك بمنتصف العصا في البداية قبل أن تقع العصا منه وتصبح القضية الأساسية هي تسجيل انتصار واضح للموساد.
سننتظر حتى سنة 2005 قبل أن يتيح لنا ستيفن سبيلبرغ إلقاء نظرة منطقية، ولهذا هي جريئة وحيادية، لصراع الموساد ضد من يعتبرهم إرهابيين عليه اقتناصهم. هذا ورد في فيلم «ميونيخ» الذي، للعجب، أثار حنق عرب وإسرائيليين معاً كل يتهم الفيلم بأنه معاد له وكل يستند إلى ذات المشاهد للتأكيد على وجهة نظره.
في ذلك الفيلم يرينا المخرج كيف أن السجال العنيف الواقع بين فريقين لا بد له أن ينتهي. الموساد يقوم بتنفيذ العملية الأخيرة في مسلسل استئصال حياة الأحد عشر فلسطينياً الذين قاموا بعملية ميونيخ سنة 1972. في الوقت ذاته، ومع قيامهم بإبادة عائلة أحدهم، يترك المخرج وتيرة العمليات ذاتها جانبا ليتناول أخلاقية مهام الموساد وإذا ما كانت تختلف عما قام به الفلسطينيون أنفسهم. مشهد مقتل العائلة الفلسطينية بكاملها ليس جيداً فقط كترتيب مونتاجي وتشويقي، بل كإدانة لمن قام بتلك العملية بصرف النظر عن مبرراتها.
- كرة متدحرجة
على أن معظم الأفلام التي تناولت عمليات الموساد لم تكن مصنوعة لكي تحتوي على أي نقاش في حق إسرائيل القيام بعملياتها سواء حيال الانتقام من النازيين أو من العرب. الفرصة لطرح الأسئلة عوض الانطلاق في الأجوبة منذ البداية فاتت معظم هذه الأعمال بما فيها فيلم آخر عن عمليات الموساد ضد من قاموا بعملية ميونيخ عنوانه «سيف جيديون» حققه مايكل أندرسن سنة 1986.
في «رجال الاتجاه» (The Point Men) لجون غلن (2001) يحاول رئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (كريستوفر لامبرت) معرفة من يقف وراء مقتل رجاله. وهناك فيلمان بعنوان «الدين» (The Debt) أولهما (2007) إسرائيلي الإنتاج يدور حول محاكمة ذاتية لثلاثة عملاء موساد، والثاني (2010) عن مهمّـة أخرى من مهام الانتقام من نازي مختبئ.
العودة إلى عملية إلقاء القبض على أدولف أيخمان تطرح فيلماً بالموضوع نفسه قام المخرج التلفزيوني ويليام أ. غراهام بتحقيقه سنة 1996 بعنوان «الرجل الذي قبض على أيخمان». الشخصيات الرئيسية هي ذاتها: بيتر مالكن أداه أرليس هوارد وأدولف أيخمان تصدّى له روبرت دوفول. الصراع بين هارب من الماضي وصاحب مهمّـة لن يرتاح الموساد إلا إذا نفذها وضم الطريدة إلى شباكه هو ذاته أيضاً.
بما أن هذه الأفلام لديها منهج تقوم عليه يقتضي بتقسيم الشخصيات إلى بطولية وشريرة ويوفر ذات النوع من المعالجات التي تزخر بها كل الأفلام التشويقية البسيطة تكوينا التي تمجد بالبعض وتهيل التراب على البعض الآخر، فإن دورها في التأثير على الرأي العام خافت دوماً. هي تؤخذ كأفلام جاسوسية خفيفة منتمية إلى صنف التشويق والإثارة وقلما تنجح في بلورة مفهوم ذي تأثير فكري.
لكن إذا ما كبرت الكرة المتدحرجة فإنها تتبلور صوب عمل كبير ينال قدراً أعلى من الاهتمام ويستحوذ على إعجاب أوسع. مثل هذا الوضع نجده في فيلم «أحد أسود» الذي قام بتحقيقه جون فرانكنهايمر بحنكته التشويقية سنة 1977.
ذلك الفيلم يتحدث عن إرهابيين فلسطينيين تقودهم مارتا كَـلر وتضم، فيمن تضم مجنداً أميركياً خرج من الحرب الفيتنامية بجروح عميقة تدفعه لأن يعادي الحياة بعدما خسر زوجته (قام به بروس ديرن). الدافع ساذج في هذا الفيلم لكن الحبكة ذاتها أبعد ما أن تكون ساذجة. فيلم فرانكنهايمر قُصد به النيل من الإرهابيين الذين سيوجهون منطاداً مليئاً بالمتفجرات فوق استاد رياضي حاشد بألوف الأبرياء. والأفدح أنه قصد كذلك التأكيد على أن إسرائيل، عبر الموساد، هي التي تستطيع الدفاع عن أمن الولايات المتحدة إذ تهب لنجدة المخابرات الأميركية التي لم تكن تعلم شيئا عن العملية الدائرة.