أخيراً، سمحت مالطا، بعد تمنعٍ، للسفينة «أكواريوس» بالرسو في أحد موانئها وإنزال المهاجرين واللاجئين الـ58 الذين أنقذتهم، الأسبوع الماضي، في مياه المتوسط مقابل الشواطئ الليبية. وبذلك تكون حكومة فاليتا قد وضعت حداً لأزمة إنسانية وسياسية ودبلوماسية تفاقمت في الأيام الأخيرة. وهذه الأزمة الجديدة تسببت بها «أكواريوس» العائدة لمنظمة الإغاثة الإنسانية الفرنسية «إس أو إس متوسط»، وجاءت بعد الأزمة الحامية التي اندلعت بينها وبين حرس الحدود البحرية الليبيين، أواسط الأسبوع الماضي، والتي كادت تصل إلى حدود المواجهة، وانتهت بتحذير من الطرف الليبي بتفادي العودة مجدداً إلى المياه الإقليمية الليبية.
وللمرة الثالثة هذا الصيف، يجد ربان السفينة، روسي الجنسية، نفسه، ومعه المهاجرون واللاجئون الذين تم إنقاذهم، وبينهم أكثرية من النساء والأطفال (35)، في مأزق. والسبب أن كافة الموانئ المالطية (في مرحلة أولى) والإيطالية أغلقت بوجه «أكواريوس»، التي طلبت النجدة من فرنسا كـ«لفتة استثنائية وإنسانية». لكن باريس صمت أذنيها، ورفضت السماح لسفينة الإنقاذ بالرسو في مرفأ مرسيليا كما طلبت منها منظمة الإغاثة. ومثلما كان متوقعاً أثارت هذه الأزمة الإنسانية هياجاً سياسياً حاداً وانقساماً بين من يدعو للسماح للسفينة بالرسو، وهم بشكل عام اليسار واليسار المتشدد، وبين من يرفض ذلك قطعاً، وهم اليمين واليمين المتطرف. أما الحكومة فإنها تتمسك بأهداب قانون البحار الذي ينص على رسو السفينة في «أقرب ميناء آمن». وفي هذه الحالة كما في الحالتين السابقتين اللتين عاشتهما «أكواريوس»، فإن الميناء الآمن إما هو مالطي أو إيطالي، وبالتالي فإن مرفأ مرسيليا ليس الحل الأمثل. ولذا بدا أن الأزمة تدور في حلقة مفرغة حتى قبلت مالطا بتغيير موقفها بفعل الضغوط التي مورست عليها والوعود التي أغدقت بمساعدتها في تقاسم عبء هؤلاء الأشخاص.
حقيقة الأمر أن الحلقة الجديدة من مسلسل «أكواريوس» تعكس عجز الاتحاد الأوروبي حتى اليوم عن العثور على صيغة توافقية لمواجهة ملف الهجرات المكثفة التي تصب على أراضيه، رغم القمة الأخيرة التي استضافتها مدينة سالزبورغ النمساوية وقمة بروكسل نهاية يونيو (حزيران) الفائت. فالمقررات التي اتخذت خلال القمة الأخيرة تنص على أن ترسو السفينة التي تحمل مهاجرين ولاجئين في المرفأ الأقرب، على أن يسارع الأوروبيون، طوعياً وليس إلزاماً، في تقاسم الأعباء لجهة توزع اللاجئين على البلدان المتبرعة.
الحال أن روما وفاليتا ترفضان العمل بهذا المبدأ، على عكس الآخرين، وعلى رأسهم فرنسا، التي تتمسك به لأنه يعفيها من فتح موانئها حتى لا تشكل سابقة. وأمس، قالت وزيرة الشؤون الأوروبية ناتالي لوازو، إنه يتعين «إنزال ركاب (أكواريوس) فوراً، وليس تغليبهم عناء الإبحار خمسة أيام إضافية (للوصول إلى مرسيليا)، واليوم المرفأ الأقرب يقع في مالطا أو في إيطاليا». وأضافت الوزيرة الفرنسية: «إننا نعمل من أجل حل أوروبي، كما فعلنا في مناسبات سابقة» ما يعني توزيع اللاجئين والمهاجرين، وإبعاد من لا يحق له اللجوء إلى المكان الذي جاء منه. وهاجمت لوازو، إيطاليا، متهمة إياها بمخالفة القانون الدولي، وبالتجرد من كل حس إنساني. ورغم ذلك، فقد بدت «متفائلة» بإمكانية العثور على حل سريع.
الواقع أن فرنسا، بعكس مالطا أو إيطاليا، لم تسمح أبداً لأي سفينة إنقاذ بالرسو في موانئها، ويستبعد أن تلين هذه المرة مخافة أن تستدعي بعدها مرات كثيرة. والأسباب ليست فقط متعلقة بالبعد الجغرافي للموانئ الفرنسية، والدليل على ذلك أن «أكواريوس» اضطرت في مرة سابقة أن ترسو في ميناء فالنسيا، وأن تنزل هناك المئات من المهاجرين واللاجئين، رغم أن مرفأ مرسيليا أقرب مسافة من مرفأ فالنسيا. ولذا، فإن الأسباب سياسية أكثر منها جغرافية. لكن اللافت أن الرئيس ماكرون، الذي يريد أن يكون رأس حربة «التقدميين» المنفتحين والليبراليين في الانتخابات الأوروبية، الربيع المقبل، في مواجهة «القوميين المنغلقين»، لا تنم مواقفه عن كثير من الانفتاح في موضوع الهجرات.
أمس، أطلق فريدريك بينار، مدير العمليات في منظمة «إس أو إس متوسط»، نداءً «رسمياً» ملحاً باتجاه السلطات الفرنسية يطلب منها «لأسباب إنسانية» أن تسمح بدخول «أكواريوس» إلى مرفأ فرنسي، وإنزال الأشخاص الذين أنقذتهم في مياه المتوسط مقابل الشواطئ الليبية. لكن حتى مساء أمس لم تصدر عن السلطات الفرنسية أي إشارة تدل على ليونة في الموقف، خصوصاً بعد أن حمل اليمين واليمين المتشدد بعنف على الرئيس ماكرون وحكومته. فقد أعلن وزير الداخلية الأسبق ومستشار رئيس حزب «الجمهوريون» اليميني، أن فرنسا «ليس لها أن تتلقى أمثولات من أحد»، وأنه إذا كانت إسبانيا تتبع سياسة استقبال المهاجرين «فليذهبوا إلى إسبانيا».
وقال النائب أريك سيوتي من الحزب نفسه إنه «لا يتعين أن يتحول أي مرفأ فرنسي إلى لامبادوزا ثانية»، في إشارة إلى الجزيرة الإيطالية الأقرب إلى شواطئ شمال أفريقيا، التي تتجه إليها غالبية مراكب الهجرات. أما مارين لوبن، زعيمة حزب «التجمع الوطني» (الجبهة الوطنية سابقاً) فقد غردت قائلة: «كلا وألف كلا. لا يجب السماح لـ(أكواريوس) بالرسو في مرسيليا».
على الجهة المقابلة للخريطة السياسية الفرنسية، ترتفع أصوات اليسار واليسار المتطرف داعية إلى فتح الموانئ بوجه «أكواريوس». وقال ديفيد أسولين، نائب رئيس الحزب الاشتراكي، إنه «لا يجوز أن نترك أشخاصاً لمصيرهم بحجة أنه يتعين على آخرين القيام بذلك». وذهب جان لوك ميلونشون، النائب وزعيم اليسار المتشدد في الاتجاه نفسه، معتبراً أن مساعدة هؤلاء الأشخاص «واجب وعمل يشرف فرنسا».
لا يكفي «أكواريوس» أن أحداً لا يريدها في داره، الأسوأ أنه بعد جبل طارق التي حرمتها الصيف الماضي من أن ترفع علمها، فقد عمدت بنما بدورها إلى حرمانها من علمها بفعل ضغوط مارستها عليها إيطاليا. وهكذا سيجد مشغلو «أكواريوس» أنهم سيكونون عاجزين قريباً جداً عن الاستمرار في مهمة إنقاذ اللاجئين والمهاجرين في مياه المتوسط. من هنا، جاء نداء الاستغاثة الذي وجهه مدير العمليات لبلدان الاتحاد الأوروبي من أجل إنقاذ الوضع، والطلب من بنما التراجع عن قرارها، أو أن «يتبرع» أحد البلدان الأوروبية بالسماح لـ«أكواريوس» بأن ترفع علمها.