«التحقيقات الجينية» تكشف مرتكبي الجرائم القديمة

عالمة أنساب أميركية رصدت «قاتل ولاية كاليفورنيا الذهبي» بعد أكثر من 4 عقود

«التحقيقات الجينية» تكشف مرتكبي الجرائم القديمة
TT

«التحقيقات الجينية» تكشف مرتكبي الجرائم القديمة

«التحقيقات الجينية» تكشف مرتكبي الجرائم القديمة

شكّلت بربارا راي - فينتر، المحققة البارعة المتخصصة بعلم الأنساب الجيني، الذي يحدد النسب والقرابة بين الأشخاص اعتماداً على الجينات، مصدر إلهام للآخرين لمساعدة السلطات الأمنية في القضايا الجنائية التي يكتنفها الغموض، بعيداً عن الجدالات القائمة حول الأخلاقيات والخصوصية.
قررت المحققة التي ساعدت في حل قضية «قاتل الولاية الذهبي» أن تبقي هويتها سرية في بداية التحقيق، وقالت في حديث للإعلام الأميركي «كنت خائفة على سلامتي؛ لهذا السبب تأخرت كثيراً قبل الخروج إلى الأضواء».
لكن المحامية التي تبلغ 70 عاما من العمر وتعيش في ولاية كاليفورنيا، شعرت بأنها باتت جاهزة للإعلان عن هويتها، متسلحة بالتفاعل الذي حاز عليه الدور الذي لعبته في تحديد هوية جوزيف دي آنجلو، شرطي سابق يواجه اليوم تهماً بقتل 13 امرأة في أنحاء كاليفورنيا بين السبعينات والثمانينات.
تعتبر راي - فينتر الشخصية الأحدث ظهوراً في تحقيقات «قاتل الولاية الذهبي»، التي ألهمت الكثير من المتخصصين في علم الأنساب الجيني والمهرة في حل ألغازه لعرض خدماتهم على السلطات الأمنية. وعلى الرغم من أن هذا التحالف بين المحققين والعلماء أثمر عن ثمانية اعتقالات على الأقل في الأشهر الأربعة الأخيرة، فإنه يثير ارتياب البعض في مجتمع علم الأنساب.

تحقيقات جينية

يعود تحوّل راي - فينتر من عملها الأساسي محامية إلى خبيرة في تقنيات التحقيق الجيني إلى جهود بذلتها لمساعدة قريب لها، عرفت حديثاً أنه من عائلتها. وفقد التقى الاثنان عبر موقع «فاميلي تري دي إن إيه»، (أي «موقع شجرة العائلة وفقاً للحمض النووي») عام 2012، بعد أسابيع قليلة من معرفة القريب الجديد أن الرجل الذي رباه ليس والده البيولوجي.
في ذلك الوقت، وجدت المحامية أن موقع DNAAdoption.org، المختص بتحليل الحمض النووي للأشخاص الذين جرى تبنيهم، يقدم صفوفاً تعليمية حول كيفية استخدام مطابقات الحمض النووي، والأشجار العائلية، والسجلات العامة للعثور على الآباء البيولوجيين.
لم تكن راي - فينتر تلميذة عادية؛ لأنها حازت دكتوراه في علم الأحياء قبل حصولها على شهادة الحقوق. وكمحامية متخصصة في براءة الاختراع، ركزت في عملها على اختراعات التقنيات البيولوجية، وكانت غالباً تتعاون مع شركات متخصصة في اختراعات البيولوجيا الجزيئية.
انتقلت المحامية التي تتحدر من نيوزيلندا إلى الولايات المتحدة الأميركية مع زوجها السابق جي كريغ فينتر، عالم الجينات الذي اكتسب لاحقاً شهرة واسعة لمهارته في كشف سلسلة الجينوم البشري.
وبعد فترة قصيرة من إنهائها هذه الدورة، بدأت بتعليمها. وهي اليوم تخوض محادثات مع وكالات أمنية مختلفة لحل ما يقارب 50 قضية تتضمن جرائم قتل غامضة.

تحديد الهوية

كيف وصل بها الأمر إلى المشاركة في التحقيق بالجرائم؟ عام 2015، قدمت راي – فينتر المساعدة لمحقق كان يحاول تحديد هوية امرأة تدعى ليزا في العقد الثالث من عمرها، كانت قد اختطفت وهي طفلة.
أمضت ليزا ثلاثين عاماً من حياتها وهي تظن أن الشخص الذي أساء إليها وهجرها، ومن ثم أدين بارتكاب جريمة قتل، هو والدها. وخلال التحقيق، اكتشف المحققون أن حمض ليزا النووي لم يطابق حمض ذلك الرجل النووي. وبدأت الأسئلة حول هوية والديها الحقيقيين، والمكان الذي أتت منه، لكن المتهم رفض الإجابة على الأسئلة المتعلقة بأصولها.
بعد 20000 ساعة من العمل ومساعدة أكثر من 100 متطوع، نجحت راي – فينتر أخيراً بالاعتماد على تقنياتها، في تحديد اسم المرأة عند الولادة وهو «داون»، وتواصلت مع جدها، أقرب أفراد عائلتها الأحياء المهتمين بالتواصل معها.
وتمكنت المحامية المتخصصة في علم الأنساب أيضاً من حصر أسماء الرجال الذين يحتمل أن يكون أحدهم والد ليزا بمجموعة من الرجال الذين تزوجوا بالتزامن مع تاريخ مولدها. لكن الرجال الذين استطاعت أن تصل إليهم رفضوا الخضوع لفحص الحمض النووي. إلا أنها ورغم هذا الرفض، تمكنت ليزا التي لم تكن تعرف شيئاً عن أصولها، من الوصول إلى شجرة عائلية تضم آلاف الأشخاص.
بعدها، علم شخص يدعى هولز، بعمل راي - فينتر في هذه القضية عام 2017؛ مما دفعه إلى التساؤل «بعد نجاحها في التوصل إلى تحديد هوية هذه الفتاة من خلال أدلة قليلة جداً، هل ستعجز عن تحديد هوية أحدهم من خلال عينة محفوظة من السائل المنوي»؟

احتدام الجدل

لم تكن راي - فينتر عالمة الأنساب الوحيدة التي تعاونت مع السلطات الأمنية والقضائية؛ لذا بدأت موجات من الجدل تستعر في مؤتمرات علم الأنساب حول ما إذا كان يجب التعاون مع هذه السلطات أم لا.
لا تستطيع الأجهزة القضائية البحث في مواقع متخصصة بعلم تحديد الأنساب مثل موقع «23 أند مي» (لرصد نوع الحمض النووي) دون إذن من المحكمة، إلا أن حل هذه المشكلة كان متوفراً لدى علماء الأنساب الذين يعملون في حل قضايا التبني، فهم يستطيعون تحميل أدلة من مسرح الجريمة على موقع «جي إي دي ماتش» (GEDmatch)، وهو عبارة عن موسوعة إلكترونية تشبه «ويكيبيديا»، لكن للبحث في الأحماض النووية، وتعرف بشروطها غير الصارمة في خدمة الزبائن.
وقد رأى البعض في مساعدة السلطات المختصة للدخول والبحث في هذا الموقع ثغرة لاستغلال المستخدمين وخيانة ثقتهم، بينما شعر آخرون بأنه لا بأس بهذه المساعدة، لكن كان من الأفضل لو أنها قدمت دون جلبة، لتفادي نفور الناس من الموقع.
أما راي – فينتر، فقد أكدت أنها لم تكن تعلم بهذه الأحاديث، وقالت «لم أدخل في أي من هذه الجدالات». كما أنها قررت، وبعد الاطلاع على قضايا هولز السابقة، أن تساعده. لكنها لم تعرف بتفاصيل قضية «قاتل الولاية الذهبي» إلا لاحقاً.

القاتل الذهبي

وعلمت المحامية لاحقاً أن جرائم الرجل لم تنحصر في قتل 13 امرأة فحسب، بل إنه أيضاً عمد إلى اغتصاب عشرات أخريات، فزادتها هذه المعلومات إصراراً على المساعدة في القضية.
وقالت «يجب منع هذا الرجل من التجول على الطرقات».
يشيع اليوم مفهوم خاطئ مفاده أن حل قضية معينة باستخدام هذه المقاربة الجينية الجديدة بسيط كما هو الحال عند العثور على تطابق جيني في قاعدة بيانات معينة. لكن الحمض النووي هو بنظر راي - فينتر دليل أولي متواضع.
ويعتبر هذا الدليل دون قيمة، وتحديداً إذا وقع بين يدي شخص لا يملك خبرة في مجال علم الأنساب الجيني، وفي حال كان يعود إلى قريب من الدرجة الثانية أو الثالثة عثر عليه في قاعدة بيانات موقع GEDmatch.
تضمنت قضية «قاتل الولاية الذهبي» الكثير من العوائق التي كان يجب تخطيها. وقد تمثلت الخطوة الأهم بملاحقة جميع أقارب المشتبهين المحتملين حتى النجاح في تحديد هوية جد مشترك بينهم. خلال البحث، تبين أن أجداد الكثير من المشتبه بهم هم من المهاجرين الإيطاليين الجدد؛ مما أوصل الفريق إلى طريق مسدود في تحديد البيانات المرتبطة بالأشجار العائلية.
وأخيراً، ومن خلال التركيز على الجانب البريطاني من شجرة العائلة، بدأ الفريق في تحقيق تقدم ووضع خطوط عريضة تقريبية للأشجار، التي سيصار أخيراً إلى دمجها.
بعدها، تولت الباحثة راي - فينتر قيادة الفريق نحو كيفية ملء فروع الأشجار عبر استخدام سجلات الولادة، وقصاصات الجرائد، وحسابات التواصل الاجتماعي، وبيانات الأشجار العائلية.
وكشفت راي - فينتر أن متدربيها، ومن بينهم شخصان من مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) ومحاميان من وكالة مقاطعة «ساكرامنتو كاونتي» إلى جانب هولز، كانوا طلاباً مهرة وسريعي التعلم.

رصد المجرم

لكن الفصل الصعب يكمن في تعلم كيفية مقارنة ملفي حمض نووي كروموسومي (من كل الكروموسومات عدا الجنسية)، وفهم ما تشير إليه الأجزاء المتداخلة، لمعرفة الفرع الذي يجب التركيز عليه من الشجرة، وتوضيح ما إذا كانت هذه الأجزاء ستتوافق مع بعضها لتحديد الشخص المجهول.
وقال هولز، إن علماء الأنساب الجينية أمثال راي - فينتر قيّمون جداً لأنهم «يفهمون اختبار الحمض النووي، ووراثة الحمض النووي، وجوانب علم الأنساب»، وهذه المهارة نادراً ما تتوافر في شخص واحد. بعد أشهر عدة، برز عدد من المشتبهين المحتملين الجدد بناءً على أعمارهم وتاريخهم في كاليفورنيا؛ مما فرض تحقيقات إضافية. استخرج الفريق عينة حمض نووي من الرجل الأكثر شبهة بينهم. لم يجد المحققون تطابقاً، لكنهم أكدوا أنه من أفراد العائلة القريبين من القاتل الذهبي؛ مما ساهم في توفير معلومات مهمة.
بعدها، لجأت راي - فينتر إلى أداة للتوقع لتحديد لون العينين على موقع GEDmatch، فتوصلت إلى أن عيني القاتل زرقاوان. من جهة أخرى، رجح موقع «برومتياز.كوم»، المتخصص في تحليل المخاطر الصحية بأن يكون المشتبه به يعاني من الصلع المبكر.
رجل واحد من بين المشتبهين الذين كان المحققون يبحثون في معلوماتهم كانت عيناه زرقاوين، وهو «دي آنجلو»، ليلاحظوا بعدها أيضاً من خلال صورة رخصة القيادة انحسار الشعر في رأسه.
عرف المحققون أن هذا النوع من التوقعات قد يكون مضللاً بعض الشيء، لكنهم أخذوا بعين الاعتبار الأدلة المتراكمة التي تدفعهم إلى السير باتجاه محدد. وانطلاقاً من هذا الاتجاه، رجحت الإجراءات البوليسية التقليدية أن يكون دي آنجلو هو غالباً المشتبه به. وأخيراً، بعد الحصول على عينة منسية من حمضه النووي وإثبات التطابق، تم اعتقاله.
بعد فترة قصيرة من إعلان تحديد هوية قاتل الولاية الذهبي، أعلنت شركة «بارابون»، المتخصصة في استشارات علم الأدلة الجنائية، أنها تعتزم إطلاق ذراع متخصصة في علم الأنساب. من جهتها، كشفت سيسي مور، عالمة متخصصة في علم الأنساب الجيني ومعروفة بعملها في قضايا التبني، عن اختراقات تم تحقيقها في قضايا تعود لست جرائم قتل وجريمتي اعتداء جنسي.
ورأى كولين فيتزباتريك، عالم متخصص في الصواريخ، تحول لاحقاً إلى علم الأنساب الجيني، أن قضية قاتل الولاية الذهبي تثبت أنهم يستطيعون الدخول في مجال حل جرائم القتل. وتجدر الإشارة إلى أن فيتزباتريك يشارك اليوم في التحقيق بعشرات جرائم القتل لصالح منظمة «آيدينتيفايندر إنترناشيونال» العاملة في مجال البحث الجنائي.


مقالات ذات صلة

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

علوم النموذج تم تطويره باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

أنتجت مجموعة من العلماء هيكلاً يشبه إلى حد كبير الجنين البشري، وذلك في المختبر، دون استخدام حيوانات منوية أو بويضات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم الهياكل الشبيهة بالأجنة البشرية تم إنشاؤها في المختبر باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء يطورون «نماذج أجنة بشرية» في المختبر

قال فريق من الباحثين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إنهم ابتكروا أول هياكل صناعية في العالم شبيهة بالأجنة البشرية باستخدام الخلايا الجذعية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

تمكنت مجموعة من العلماء من جمع وتحليل الحمض النووي البشري من الهواء في غرفة مزدحمة ومن آثار الأقدام على رمال الشواطئ ومياه المحيطات والأنهار.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
علوم صورة لنموذج يمثل إنسان «نياندرتال» معروضاً في «المتحف الوطني لعصور ما قبل التاريخ» بفرنسا (أ.ف.ب)

دراسة: شكل أنف البشر حالياً تأثر بجينات إنسان «نياندرتال»

أظهرت دراسة جديدة أن شكل أنف الإنسان الحديث قد يكون تأثر جزئياً بالجينات الموروثة من إنسان «نياندرتال».

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

توصلت دراسة جديدة إلى نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات على كوكب الأرض مشيرة إلى أن نظرية «تبلور العقيق المعدني» الشهيرة تعتبر تفسيراً بعيد الاحتمال للغاية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

5 قضايا مناخية رئيسة أمام المحاكم عام 2025

5 قضايا مناخية رئيسة أمام المحاكم عام 2025
TT

5 قضايا مناخية رئيسة أمام المحاكم عام 2025

5 قضايا مناخية رئيسة أمام المحاكم عام 2025

2025

كان هذا العام مهماً جداً لقضايا المناخ، حيث تميز ببعض الانتصارات الكبرى.

سياسات المناخ تهدد حقوق الإنسان

وعلى سبيل المثال قضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في أبريل (نيسان) الماضي، بأن سياسات المناخ الضعيفة في سويسرا تهدد حقوق الإنسان لمواطنيها، ما مهد الطريق لدعاوى قضائية مماثلة فيما يقرب من 50 دولة أخرى.

وحديثاً، دعمت المحكمة العليا في مونتانا بالولايات المتحدة 16 ناشطاً من نشطاء المناخ الشباب في دعواهم القضائية ضد الدولة لانتهاك حقهم في بيئة نظيفة.

ولكن كانت هناك أيضاً بعض الخسائر الكبيرة، مثل جهود شركة «شل» الناجحة للتملص من قاعدة تلزمها بخفض انبعاثات الكربون بشكل كبير.

قضايا المناخ أمام المحاكم

ماذا سيجلب عام 2025؟ فيما يلي حفنة من القضايا المهمة التي قد تكون على جدول الأعمال:

القضية الأولى قد تشكل قواعد المناخ الدولية. إذ تنظر محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة، التي تسمى أحياناً «محكمة العالم»، في قضية المناخ التي قد يكون لها أكبر تأثير محتمل. وفي قلب هذه القضية التاريخية سؤالان رئيسان: ما الواجبات التي تقع على عاتق الدول لمكافحة تغير المناخ؟ وما العواقب القانونية التي يجب أن تترتب على الدول إذا خانت هذه الواجبات بطريقة تضر بالمناخ؟

لن يكون رأي المحكمة بشأن هذه القضايا ملزماً قانوناً، ولكنه قد يشكل قواعد القانون الدولي ويمهد الطريق لمقاضاة كبرى الجهات المساهمة في الانبعاثات لدورها في تفاقم أزمة المناخ.

رفعت القضية دولة فانواتو في المحيط الهادئ، وهي أكبر قضية للمحكمة على الإطلاق. وعلى مدى أسبوعين في نهاية عام 2024، استمعت اللجنة المكونة من 15 عضواً إلى شهادات مما يقرب من 100 دولة والعديد من الخبراء والجماعات المناصرة الذين يجادلون لصالح وضد القواعد الدولية الجديدة لمحاسبة كبرى الجهات المساهمة في الانبعاثات الغازية المسببة للاحتباس الحراري العالمي.

الدول الفقيرة تقاضي الغنية

ويدعي عدد من الدول الفقيرة والجزر الصغيرة أن الدول الغنية مسؤولة عن معظم انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري العالمي، ومع ذلك فإن الدول النامية، التي تنتج انبعاثات منخفضة نسبياً، هي التي تخضع لأشد العواقب تطرفاً، وحتى وجودية. وتقول إن إطار تغير المناخ الحالي -أي اتفاق باريس- يعتمد على التزامات طوعية يصعب فرضها، وأن هناك حاجة إلى قواعد دولية أكثر صرامة وملزمة قانوناً لمعالجة التهديد المتزايد المتمثل في ارتفاع درجات الحرارة.

وزعمت الدول الغنية، بما في ذلك الدول الملوثة الرئيسة مثل الولايات المتحدة والصين وأستراليا، العكس من ذلك، وأصرت على أن القواعد الحالية كافية. ومن المتوقع أن تصدر المحكمة رأيها الاستشاري في عام 2025. وقال الدكتور دلتا ميرنر، العالم الرائد في مركز العلوم لقضايا المناخ في اتحاد العلماء المعنيين: «إنها (المحكمة) لديها القدرة على إعادة تشكيل حوكمة المناخ الدولية من خلال تقديم إرشادات واضحة وموثوقة بشأن التزامات الدول بموجب القانون الحالي».

قضية لولايات أميركية مناهضة للبيئة

القضية الثانية تهدد الاستثمار البيئي والاجتماعي المتوازن والحوكمة. في قضية «ولاية تكساس ضد شركة (بلاك روك)»، أقامت دعوى قضائية على بعض أكبر مديري الأموال في العالم من قبل 11 ولاية يقودها الجمهوريون بتهمة التآمر لخفض إنتاج الفحم العالمي والترويج لـ«أجندة بيئية مسيسة».

تستهدف الدعوى القضائية، التي تم رفعها في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، شركات الاستثمار «بلاك روك»، و«ستيت ستريت كوربوريشن»، و«فانغارد غروب»، ويقودها المدعي العام لولاية تكساس كين باكستون، الذي قال إن الشركات «شكلت كارتلاً للتلاعب بسوق الفحم، وتقليل إمدادات الطاقة بشكل مصطنع، ورفع الأسعار»، كل ذلك في محاولة لتعزيز أهداف خفض انبعاثات الكربون.

في الواقع، تستهدف القضية ما يسمى استراتيجيات الاستثمار البيئي والاجتماعي والحوكمة. شاركت المجموعات الاستثمارية الثلاث في مبادرات للحد من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري العالمي والوصول إلى الصفر الصافي بحلول عام 2050.

وقد وصف المحافظون مثل هذه الجهود بأنها «رأسمالية متيقّظة» وشنوا حرباً باستخدام قوانين مكافحة الاحتكار، وهو سلاحهم المفضل. وتتولى محكمة الاستئناف بالدائرة الخامسة، التي تضم عدداً كبيراً من القضاة الذين عينهم الرئيس الجديد دونالد ترمب، النظر في القضية، ويُنظر إليها باعتبارها «قوة محافظة للغاية». وقد تؤثر النتيجة على كيفية إدارة الأموال ومستقبل الاستثمار المراعي للمناخ.

قضية ضد مرافق تجهيز الطاقة

القضية الثالثة قد تكلف مزودي الطاقة الكثير من المال. إذ تتولى بلدة كاربورو الصغيرة في ولاية كارولينا الشمالية دعوى قضائية ضد شركة «ديوك إنرجي»، حيث تقاضي الشركة بتهمة إخفاء المخاطر المناخية المرتبطة بحرق الوقود الأحفوري عن صناع السياسات والجمهور. وتقول الدعوى: «لقد أدت حملة الخداع التي شنتها (ديوك) إلى تأخير التحول الحاسم بعيداً عن الوقود الأحفوري وبالتالي تفاقم أزمة المناخ بشكل ملموس».

إن قضية بلدة كاربورو ضد شركة «ديوك إنرجي» مثيرة للاهتمام لأنها تستهدف شركة مرافق بدلاً من شركة نفط، حيث يتزايد الضغط على شركات المرافق لتتولى زمام المبادرة في التحول في مجال الطاقة.

لا تهدف كاربورو إلى الحد من انبعاثات «ديوك» رغم أن هذا سيكون ممتازاً أيضاً، إذ ووفقاً لمؤشر التلوث المسبب للاحتباس الحراري Greenhouse 100 Polluters Index، تحتل «ديوك» المرتبة الثالثة في قائمة أكبر الشركات المسببة للانبعاثات في أميركا.

ويؤدي «تحميل الشركة (المسؤولية) إلى الحصول على تعويض للمساعدة في دفع ثمن الأضرار الناجمة عن تغير المناخ، مثل إصلاحات البنية التحتية وتحسيناتها لجعل المدينة أكثر قابلية للسكن ومرونة في مواجهة الطقس القاسي. لا أحد يعرف كم ستدفع شركة (ديوك)، لكن نحن نعلم أن المدينة قد تحصل على ما يصل إلى 60 مليون دولار كتعويضات في السنوات المقبلة»، كما قالت رئيسة بلدية كاربورو باربرا فوشي. وكانت الدعاوى القضائية التي تستند إلى مطالبات مماثلة تتزايد منذ عام 2017، لكن لم يتم تقديم أي منها للمحاكمة بعد.

مشاريع سكك حديدية تهدد البيئة

القضية الرابعة مهددة للبيئة، إذ قد تسهل الحصول على موافقة لإنشاء بنية تحتية كارثية من الناحية البيئية.

كانت المحكمة العليا تستمع إلى حجج حول ما إذا كان خط السكة الحديد المقترح بطول 88 ميلاً في ولاية يوتا الأميركية يمكن أن يمضي قدماً رغم تأثيراته البيئية المحتملة.

سينقل خط القطار هذا كميات كبيرة من النفط إلى ساحل الخليج، لكن بناءه كان معلقاً منذ أن قالت محكمة الاستئناف في الأساس إن الجهات التنظيمية لم تأخذ في الاعتبار التأثيرات المناخية والبيئية للمشروع في المنبع أو في المصب الناجمة عن زيادة حركة السكك الحديدية -جوانب مثل الانسكابات النفطية المحتملة، وخروج القطارات عن مسارها، وحرائق الغابات.

وبموجب قانون السياسة البيئية الوطنية (NEPA) القائم منذ فترة طويلة، يتعين على الوكالات الفيدرالية إجراء تقييمات بيئية لمشاريع البنية التحتية مثل هذه، ولكن قد تقرر المحكمة العليا أن التأثيرات البيئية المباشرة للمشروع نفسه فقط -في هذه الحالة، جوانب مثل استخدام الأراضي وجودة المياه- يجب أن تؤخذ في الاعتبار للموافقة على المشروع.

تهديد معايير الهواء النقي في كاليفورنيا

القضية الخامسة هي القرار الذي قد يضع معايير الهواء النظيف في كاليفورنيا في مرمى النيران. إذ ستدرس المحكمة العليا ما إذا كانت مجموعات الأعمال (شركات الوقود الأحفوري) يمكنها الطعن في برنامج الإعفاء الذي يسمح لكاليفورنيا بوضع قواعدها الخاصة بشأن انبعاثات المركبات.

وقد سمح الإعفاء، الذي منحته وكالة حماية البيئة، للولاية بوضع قواعد لعوادم السيارات أكثر صرامة من تلك التي فرضتها الحكومة الفيدرالية، ما أدى إلى تحسين جودة الهواء. كما تلتزم نحو اثنتي عشرة ولاية أخرى بمعايير كاليفورنيا، وكذلك تفعل حفنة من شركات تصنيع السيارات الكبرى، ما يجعل الإعفاء أداة قوية في كبح التلوث الضار ودفع شركات السيارات إلى التحول نحو المركبات الكهربائية.

وتزعم مجموعات صناعة الوقود الأحفوري أن القواعد تسببت في ضرر لها، ويجب إلغاء الإعفاء. ولكن في هذه الحالة بالذات ستقرر المحكمة العليا فقط ما إذا كانت هذه المجموعات تتمتع بالوضع القانوني لتحدي الإعفاء. وفي كلتا الحالتين، تعهد الرئيس المنتخب ترمب بالتخلص من هذا الإعفاء.

مجلة «فاست كومباني» خدمات «تريبيون ميديا»

اقرأ أيضاً