لماذا لم تنتج حروبنا الكثيرة أدباً؟

لماذا لم تنتج حروبنا الكثيرة أدباً؟
TT

لماذا لم تنتج حروبنا الكثيرة أدباً؟

لماذا لم تنتج حروبنا الكثيرة أدباً؟

في مثل هذه الأيام من عام 1980، بدأت الحرب العراقية - الإيرانية، وهي من أكثر الحروب عبثية وغرابة في التاريخ الحديث، فلم تكن حتى حرباً بالمعنى المعروف، وإنما صراع بين ثورين وقودهما البشر.
كان صدام والخميني، كما كتب الزميل أمير طاهري مرة في هذه الجريدة، «يتمتعان بقدر من الغرور في حجم جبل إيفرست ويعتقدان - في السر على الأقل - أنهما جهبذان في كافة مجالات النشاط البشري، وكان كلاهما يجدان ثناءً من الحاشية الخنوعة المحيطة بهما ووسائل الإعلام، كما جرى عدّ كل منهما شخصية معظمة تضطلع بمهمة المسيح المُخَلِص. كان صدام يعد ذاته بمثابة صلاح الدين الجديد. ومن جهته، كان الخميني - الذي ادعى أنه من نسل الحسين - يعتقد أنه سينتقم لقتل جده الأكبر على يد الخليفة الأموي يزيد».
وكانت هذه الحرب من أطول الحروب أيضاً، وأكثرها تكلفة: مليون قتيل من الطرفين، وألوف مؤلفة من الجرحى والمعوقين، بالإضافة إلى التدمير الهائل في البنية التحتية للبلدين.
هذه التراجيديا البشرية، أعقبتها بالطبع كوميديا لا تقل فظاعة، إذ بلغ اليأس منتهاه، وتعب الثوران الهائجان العنيدان من بعضهما البعض. حافظ كل منهما على رأسه سليماً، ونام مطمئناً، و«كأن شيئاً لم يكن»، كما صرح صدام حسين حينها.
إذا نحن أمام تراجيديا كاملة العناصر، بكثفاتها الدرامية، وأحداثها، وشخوصها، وأمام كوميديا مكتملة العناصر أيضاً.
والسؤال: هل انعكس هذا الحدث الكبير، بكثافته الدرامية، ومآسيه وفواجعه، ونتائجه الاجتماعية والإنسانية الكارثية، ولا معقوليته المضحكة، في قصائدنا ورواياتنا وقصصنا بحيث تحول إلى ظاهرة يمكن أن نسميها «أدب حرب»؟
انتهت الحرب العراقية - الإيرانية منذ ثلاثين عاماً، أي مرت ثلاثة أجيال، وهي فترة طويلة نسبياً، لكننا لم نقرأ بعد أعمالاً ترتقي إلى تراجيدية تلك الحرب وكوميديتها أيضاً. بالطبع، صدرت أعمال أدبية كثيرة عنها، من كتاب شاركوا فيها فعلياً، ومن شهود عليها، ولكن من الصعب في تقديرنا أن نتحدث عن أدب حرب أنتجته تلك الفترة الملتبسة. وهذا ينطبق أيضاً على حرب الخليج الثانية، التي أعادت العراق إلى ما قبل العصر الصناعي.
ولكن ظاهرة غياب أدب الحرب، ولو نسبياً، لا تقتصر على العراق وحده، رغم أنه تجاوز الجميع بكثرة حروبه، بل يمكن تعميمها عربياً.
فحروب 1948، ويونيو (حزيران)، وأكتوبر (تشرين الأول)، لم تنتج أيضاً أدباً يمكن أن يرتقي إلى مستوى الظاهرة، كما نقول أدب الحرب العالمية الأولى، خصوصاً شعرياً، وأدب الحرب الثانية، وأدب الحرب الإسبانية.
لا يستطيع المرء أن يضع إصبعه على سبب واحد. هل يتعلق الأمر بالموهبة الفردية الخلاقة، القادرة، حتى بعد مرور زمن طويل، أن تقرأ الجوهري والأساسي في أي حادثة إنسانية كبرى، وتقدمها حية، حارة النبض بشخوصها، وتعقيداتها، ومسارها المتعرج، فتلقيها على حاضرنا وكأنها تجري الآن أمام أعيننا؟ كما فعل تولستوي، مثلاً، حين كتب «الحرب والسلام» بعد ستين سنة من احتلال فرنسا لروسيا؟ أم أن الأمر كله متعلق بمنظومة ثقافية كاملة؟



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.