متاهة تفكيك سلاح الميليشيات في ليبيا

استعراضات محمومة تقوّد مساعي الحل السياسي

متاهة تفكيك سلاح الميليشيات في ليبيا
TT

متاهة تفكيك سلاح الميليشيات في ليبيا

متاهة تفكيك سلاح الميليشيات في ليبيا

في مطلع العام الحالي رصدت أطراف محلية ودولية، آلية قتالية روسية الصنع من ترسانة أسلحة معمر القذافي، مخصصة لمواجهة الدبابات، وتحمل صواريخ يصل مداها إلى 6 آلاف كيلومتر. حصل ذلك إبان اشتباكات دارت بين ميليشيات مسلحة بمحيط مطار معيتيقة الدولي في العاصمة الليبية طرابلس، في واحدة من المعارك الاستعراضية الكاشفة لحجم ونوعية السلاح الذي تستخدمه القوى المتناحرة، وتحتكم إليه عند أول خلاف لتوسّع نفوذها على الأرض، وتزيد من حصيلة الدم.

صار العتاد المخزون لدى المجموعات الليبية المسلحة والمواطنين الأفراد، خارج إطار الدولة، مصدر أرق وقلق لليبيا منذ إسقاط نظام معمر القذافي عام 2011، وبات يمنعها من مغادرة «الفترة الانتقالية»، وسط إصرار على أن يبقى الوضع على ما هو عليه، فكلما هدأت الاشتباكات أوقدت الميليشيات نارها؛ بغية الاستبقاء على ليبيا سوقاً رائجة للسلاح تدرّ ملايين الدولارات على «أمراء الحرب».
هذا الأمر وغيره، انقسم حيالها عسكريون وسياسيون ونواب في أحاديث مع «الشرق الأوسط» بين ما رآه البعض ضرورة الاستفادة من «سلاح الميليشيات الخيَرة»، في مواجهة من ذهب إلى أن «الأزمة أكبر من قدرات ليبيا حالياً ما يتطلب حلاً دولياً عاجلاً». ولقد قال مسؤول عسكري سابق بوزارة الدفاع بحكومة «الوفاق الوطني»، إن الأسلحة التي تمتلكها الميليشيات المسلحة في طرابلس ومصراتة «تفوق تسليح بعض الدول». مضيفاً أن «التشكيلات المسلحة مثل (ثوار طرابلس)، و(قوة الردع الخاصة) و(الرحبة) لديهم مخازن هائلة تضم أسلحة حديثة وذخائر متعددة».

- بداية أزمة السلاح
بدأت الأسلحة تحتل مكانة بارزة في ليبيا منذ إسقاط نظام القذافي، في ظل نشوء خلافات قبائلية حادة، دفعت البعض منها إلى الاحتماء بالسلاح المتراكم في مستودعاته لـ«وقت الحاجة». وعلى مدار السنوات السبع الماضية، وقعت اشتباكات كثيرة في البلاد قضى فيها مئات المدنيين، وفي كل معركة كانت تُسمع مناشدات ونداءات استغاثة بضرورة نزع سلاح الميليشيات. ولعل آخر هذه النداءات فرضته طبيعة الاقتتال الأخير بين المجموعات المسلحة في جنوب طرابلس، عندما أعطى «الملتقى الوطني للقبائل والمدن الليبية»، الذي احتضنته مدينة ترهونة (88 كيلومتراً) جنوب شرقي العاصمة، حكومة «الوفاق الوطني» حتى منتصف سبتمبر (أيلول) مهلة ثلاثة أيام، لحل الميليشيات المسيطرة على العاصمة ونزع الشرعية عنها، وتسليم كامل أسلحتها ومعداتها للجهات الرسمية المختصة. وحذّر من «أي ترتيبات أمنية من شأنها المماطلة أو الإبقاء على هذه الميليشيات أو إعادة تدويرها بأي صورة من الصور».
لكن الحاصل أن مهلة «ملتقى القبائل» انتهت، وبقي السلاح - المحظور توريده إلى ليبيا - يتزايد في أيدي الميليشيات، وبقدرات فائقة، حيث المدرعات العسكرية ترابط أسفل المنازل، وتجول سيارات الدفع الرباعي من نوع «تويوتا» حاملة مدافع رشاش (14.5) ويستعرض بها الشباب في الشوارع. إزاء هذا المشهد، قال المواطن الليبي - الذي رمز لاسمه بـ«فواز»، معلقاً «السلاح في بلادنا مثل النفط يزيد ولا ينقص، والقذافي ترك لنا منه مخازن ومستودعات هي الآن في حوزة المجموعات المسلحة»!

- «مافيات» اخترقت الحظر
وبعيداً عن الحظر الدولي المفروض على ليبيا منذ مارس (آذار) 2011، تمكنت «مافيا» السلاح من اختراق هذا الحظر عبر وسطاء دوليين لإغراق البلاد بمزيد من الأسلحة والصواريخ، مستغلة حالة من الفوضى وتعطش السوق الليبية إلى الحديث والمتقدم منه. وهذا ما كشف عنه تقرير فريق الخبراء الأخير إلى مجلس الأمن الدولي؛ الأمر الذي دفع رئيس «مجلس أعيان ليبيا للمصالحة» الشيخ محمد المُبشر للقول «إذا استمر وجود السلاح على هذه الصورة ستستمر معاناة المواطنين». وأضاف المُبشر في حديث إلى «الشرق الأوسط» موضحاً «إن تفكيك سلاح الميليشيات في ليبيا لن ينجح إلا بقرار من مجلس الأمن الدولي... ما يكذب عليك أحد، لا الليبيون ولا العرب يستطيعون تحقيق ذلك».
هذا، ورصد فريق الخبراء نشاط ثلاثة مواطنين إيطاليين، هم: ماريو دي ليفا وزوجته أناماريا فونتانا وأندريا باردي، قبضت عليهم السلطات الإيطالية وأخضعتهم للمحاكمة، بتهمة تيسير نقل الأسلحة، إلى ليبيا بين 2011 و. وكان بين السلاح المنقول، أنواع كثيرة من الذخائر والقذائف المضادة للدبابات ومنظومات الدفاع الجوي المحمولة، وكلها نُقلت إلى مدينة مصراتة (200 كيلومتر شرق طرابلس)، بالاشتراك مع مواطن ليبي يدعى محمود علي ششويس. وأشارت مذكرة متصلة بإحدى الشحنات إلى أن كميات الذخائر كانت من كثرتها يستلزم نقلها ست طائرات شحن من طراز إيليوشن «IL76».
ويُعتقد، وفقاً لتقرير الخبراء، أنه جرى سداد قيمة إحدى الشحنات لشركة «غلوبال واي إلكترونيكس» Global way Electronics التي يملكها ماريو دي ليفا، بمبلغ مليونين و240 ألف دولار، وتم الشراء الفعلي للذخائر من خلال شركة أخرى يملكها أيضا ماريو دي ليفا، وهي شركة «هاي تكنولوجي سيستمز ليمتد» High Technology Systems Limited. ومن أجل تمكين ششويس الذي مثل أيضاً المشترين الليبيين من الاجتماع مباشرة بشركات الأسلحة، صُوّر كشريك في الشركة نفسها، بل ورئيس للإنتاج بها.
أيضاً، أظهر التقرير الأممي أن المحاولات الأخرى لانتهاك حظر توريد الأسلحة شملت التفاوض على عقود مع أندريا باردي، من خلال شركة «سوسييتا إيتاليانا إليكوتيري» Societa Italiana Elicotteri، وهي شركة يرتبط بها باردي، لشراء ثلاث طائرات هليكوبتر من طراز مانغوستا «A129 Mangusta» بسعر إجمالي قدره 18.6 مليون يورو. و13ألفاً و950 بندقية من طراز إم 14 «M14»، بلغ مجموع تكلفتها 41.85 مليون يورو، و12 وحدة إغلاق محرك للطائرات، بلغ مجموعة تكلفتها 69.6 مليون يورو (الطبيعة والمواصفات الدقيقة لتلك الوحدات غير واضحة)، وذخائر صواريخ، بلغ مجموع تكلفتها 44.8 مليون يورو.
ووفق الخبراء، فإن باردي صاغ هذه العقود، التي نصت على أن يتم التسليم جواً إلى مصراتة أو طرابلس، على أن يجرى السداد بالتقسيط وفقاً لمراحل الشحن، لكن هذه العقود لم تنفذ بسبب إلقاء القبض على الأفراد المعنيين. ولفت فريق الخبراء إلى أنه على الرغم من تلقيه «تفاصيل تتعلق بجواز السفر الذي استخدمه ششويس (الشريك الليبي) أثناء الاجتماعات بالموردين المحتملين، فإنه لم يتلق أي رد من حكومة ليبيا على استفساراته بشأن ذلك».

- من تركات القذافي
وللعلم، مدّد مجلس الأمن الدولي في يونيو (حزيران) الماضي، بالإجماع حظر السلاح المفروض على ليبيا لعام آخر، بسبب ما سماه «وجود جماعات مسلحة تتقاتل فيما بينها، وغياب أي بوادر لحل سياسي في القريب العاجل». وأيّد المبعوث الأممي لدى ليبيا، الدكتور غسان سلامة هذا الحظر، وقال في إفادة سابقة إلى مجلس الأمن «حظر الأسلحة مهم اليوم أكثر من أي وقت مضى... إن بلداً به 20 مليون قطعة سلاح لا يحتاج إلى قطعة إضافية».
وهنا نشير إلى أن صحيفة «روسيسكايا غازيتا» الروسية نشرت في السابع من سبتمبر الحالي، إن العاصمة الليبية شهدت تدمير آلية نادرة، عبارة عن مدفع هاوتزر «بالماريا» ذاتي الحركة. وهذا المدفع الذاتي، من ضمن ترسانة أسلحة حرص القذافي على استيرادها من الاتحاد السوفياتي وحلفائه والدول الغربية، وظل يستخدم في الاقتتال بالعاصمة إلى أن جرى تدميره قبل أسبوعين. ونقلت وكالة «سبوتنيك» الروسية، عن «روسيسكايا غازيتا» أنه في مجال المدفعية الذاتية الحركة امتلك الجيش الليبي مدافع «دانا» التشيكية ومدافع «غفوزديكا» و«أكاتسيا» الروسية. أما عن مدافع «بالماريا» التي تنتجها شركة «ميلارا» الإيطالية فقد أصبحت ليبيا أكبر مشترٍ لها، إذ اشترت نحو 150 مدفعاً من هذا النوع منذ بداية ثمانينات القرن الماضي. مضت الصحيفة معددة مميزات المدفع، قائلة إنه صنع من أجل التصدير إلى الخارج، واعتبر في ثمانينات القرن الماضي واحداً من أفضل المدافع الذاتية الحركة الغربية، إذ يبلغ مداه 24 ألف متر عند استخدام القذائف العادية، و30 ألف متر عند استخدام القذائف الصاروخية. ولفتت إلى أن ليبيا تمتلك من هذه النوعية قرابة 30 مدفعاً.
من جهة ثانية، تحدث المسؤول العسكري السابق بوزارة الدفاع بحكومة «الوفاق الوطني»، وهو ينتمي إلى مدينة مصراتة، عن أن الميليشيات تمتلك صواريخ وآليات عسكرية حديثة هي جزء من عتاد جيش القذافي، وتقاتل بها حالياً في صراع على طرابلس، مستكملاً «المخازن مفتوحة في حرب السيطرة على طرابلس. ويعتقد بعض المتاجرين في السلاح أن هذه التجارة كانت موجودة أثناء عهد القذافي، من خلال تهريب مسدسات وبنادق آلية من نوع «كلاشينكوف» من مخلفات الحرب الليبية - التشادية، أو تأتي عبر الحدود المصرية، لكنها ازدهرت عقب رحيل النظام السابق ووصلت إلى راجمات الصواريخ وصواريخ «غراد».

- مبادرات منذ 2012
هذا، وأعلن في عموم ليبيا عن مبادرات عدة لجمع السلاح بداية من عام 2012، انطلقت أولاها بمدينتي طرابلس وبنغازي تحت شعار «أمن بلادك بتسليم سلاحك» برعاية من أجهزة الدولة الحاكمة وقتها. وفي فبراير (شباط) 2013 وضعت الولايات المتحدة مع ليبيا خطة سرية تقضي بتوفير برنامج مخصص لشراء الأسلحة، وتحديداً الصواريخ المحمولة المضادة للطائرات والمقدّر عددها بعشرين ألف صاروخ، وهذا الأمر لم يحدث. ثم في يوليو (تموز) 2014 قدم البرنامج الليبي للإدماج والتنمية (LPRD)، الذي عرف بعد تأسيسه بـ«هيئة شؤون المحاربين» استراتيجية مفصلة لجمع السلاح، بالتعاون مع المنظمة الدولية للعدالة الانتقالية.
وما يجدر ذكره هنا، أنه سبق لصحيفة «روسيسكايا غازيتا» الكشف عن أن اشتباكات العاصمة التي وقعت بين الميليشيات في محيط مطار معيتيقة استخدمت فيها آلية قتالية روسية الصنع مخصصة لمواجهة الدبابات في الحروب، تعرف باسم «كريزانتيم إس» تحمل صواريخ مداها 6 آلاف متر. وأشارت إلى أن ليبيا حصلت من روسيا في عام 2013 على 10 آليات من النوعية نفسها».
كذلك، قالت الصحيفة، إن ليبيا حصلت على أربع قواذف صواريخ «كريزانتيم إس» و150 صاروخاً خلال حكم القذافي، لافتة إلى أن «آليات (كريزانتيم إس) تستطيع العمل حتى في ظروف انعدام الرؤية، ويمكن توجيه صواريخها بشعاع الليزر أو عبر أجهزة الاتصال اللاسلكي». وعددت الصحيفة مميزات آليات «كريزانتيم إس» فقالت إنها تستطيع السير فوق الطريق المعبدة بسرعة 70 كيلومترا في الساعة، وتزن 20 طنًّاً، وتستطيع الانطلاق على سطح الماء بسرعة 10 كيلومترات في الساعة.

- لا ثقة بين الليبيين
عودة إلى مسألة تفكيك السلاح، وأمام تزايد دعوات تفكيك سلاح الميليشيات وجمعه من أيدي الأفراد لصالح الدولة، استبعد المُبشر، حدوث ذلك، معتبراً أن الأمر «صعب جداً لانعدام الثقة بين الليبيين». غير أن العقيد الطاهر الغرابلي رئيس «المجلس العسكري بصبراتة» (المنحل) ذهب إلى ضرورة التمييز بين الميليشيات، وذهب إلى أن الميليشيات المسلحة هي من استحوذ على السلاح من أيدي قوات القذافي أثناء اندلاع ثورة 17 فبراير، ومنذ ذلك الوقت لم تجد حكومة جادة قادرة على تطويع الميليشيات، واحتوائها دون تفرقة أو تمييز». وقسّم الغرابلي الميليشيات في حديثه إلى «الشرق الأوسط» قائلاً، إن «منها ميليشيات خيّرة تستخدم سلاحها في الدفاع عن الدولة الليبية، والتصدي لموجات الهجرة غير الشرعية، والمخربين وغيرهم... وهذه يجب التعامل معها بمهنية. وهناك في المقابل، ميليشيات مسلحة عبارة عن عصابات تمارس السرقة والسطو على المواطنين، وتهرّب الوقود وتتاجر في البشر، وهذه يجب نزع الشرعية عنها والتعامل معهم بقوة وحسم».
ولام الغرابلي على «حكومة الوفاق» والأمم المتحدة، معتبراً أن حكومة المجلس الرئاسي «فشلت ولم تستطع قراءة الأحداث منذ دخولها طرابلس قبل أكثر من سنتين، كما لم تتمكن من إدارة الأمور بشكل سلسل يجتذب جميع الليبيين»، متابعاً «لقد قرّبت منها ميليشيات غير منضبطة ولا تتعامل مع المواطنين بالقانون، ومنحتها الشرعية، مثل (قوة الردع الخاصة) وغيرها، ويجب تطهير وزارة الداخلية منها، في حين استبعدت البعض الآخر»، كما أن البعثة الأممية أدارت الأزمة «بشكل غير محايد».
الغرابلي يفضّل إبقاء الوضع على ما هو عليه الآن، شارحاً «أعتقد اقتراح نزع السلاح غير ممكن في الوقت الحالي... العسكريون في شرق وغرب البلاد، ليسن لديهم الكفاءة أو القدرة المطلوبة لتنفيذ هذه المهمة... ويمكننا دمج الميليشيات الخيرة في (قوة احتياط) لمكافحة الهجرية، يكون تعاملها بعيداً عن المواطنين». ويخلص إلى القول «يجب تطهير وزارة الداخلية (بحكومة الوفاق) من الميليشيات، والاكتفاء بالاعتماد على الشرطي المتدرب خريج كلية الشرطة فقط».
جدير بالإشارة، أن رئيس «المجلس الرئاسي» فائز السراج - بصفته القائد الأعلى للجيش الليبي - حل «المجلس العسكري بصبراتة»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وأمر أن تؤول كل الوثائق التي بحوزته إلى غرفة عمليات محاربة تنظيم داعش في صبراتة. ورأى الجيش الوطني أن الأسلحة والذخائر المنتشرة في البلاد ليست في يد القبائل والعشائر، وإنما يحوزها الخارجون عن القانون و«الميليشيات المتواجدة بالمنطقة الغربية، وبخاصة في مصراتة وطرابلس». وقال إنه تمكن من تقليل وجود الأسلحة خارج المعسكرات بشكل كبير، وأن هناك توجهاً عاماً للتعامل مع تلك النوعية إمّا بالشراء أو القضاء، داعياً إلى سنّ مجلس النواب قانوناً يحرّم حمل السلاح خارج المؤسسات الشرعية للدولة.
ولكن حكومة السراج التي تمارس أعمالها منذ سنتين في العاصمة لم تحرز أي تقدم في هذا المجال، باستثناء تحذيرات أطلقتها وزارة الداخلية، نهاية الأسبوع الماضي، من أن «انتشار السلاح في البلاد يهدد بإراقة المزيد من الدماء، ويمتد هذا التهديد على الصعيدين الإقليمي والدولي، في ظل تنامي العناصر الإرهابية العابرة للحدود». وقالت الحكومة إن «الرصاص العشوائي لا يزال يسقط مزيد الضحايا في البلاد، على الرغم من التحذيرات المتكررة منها، بالإضافة إلى الحملات التوعوية، حيث تحولت كثير من المناسبات الاجتماعية إلى أحزان، نتيجة الاستعمال الخاطئ لهذه الأسلحة الفتاكة». وهو ما دعا عبد المنعم الحر، الأمين العام للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في ليبيا، إلى المطالبة «بالإبقاء على السلاح الثقيل والمتوسط داخل المعسكرات الرسمية للجيش، والعمل على تقنين الخفيف منها بالتراخيص وضبط العمل بها من خلال القانون».
أيضاً اكتفت الحكومة بالقول «إن أصوات كثيرة نادت بجمع السلاح، وإعادته للدولة والاتجاه نحو التنمية والإعمار، ودعوة المواطنين كافة لتسليم أسلحتهم، والانخراط في بناء الوطن والنهوض به، وهذا لا يتأتى إلا بالعمل على توفير فرص عمل للشباب، ووضع سياسات تنموية ترعى هذه الشريحة المهمة والاهتمام بها، وتوجيههم نحو العلم والمعرفة». لكن عبد الرحمن الشاطر، العضو في المجلس الأعلى للدولة، يرى أن الموضوع أكبر وأعقد من أن تقوم به دولة واحدة... مضيفاً «الموضوع ليس جمع قمامة يُوكل لشركة، وعليه فإن جمع السلاح يعد أولوية الأوليات التي يطالب بها الشعب الليبي». وتابع الشاطر لـ«الشرق الأوسط» معلقاً «هذا إجراء لم يحظ بالاهتمام الفعلي طيلة سنوات ما بعد انتصار انتفاضة فبراير، لكنه يمثل تحدياً كبيراً للسلطتين التشريعية والتنفيذية، وأعتقد أنها لن تكون قادرة على تنفيذ جمع السلاح المنتشر بشكل مرعب لأنها لا تملك لا القدرة ولا الكفاءة ولا الخبرة ولا الوسائل اللازمة».
وأشار الشاطر إلى أن مجلس الأمن هو «صاحب الاختصاص، وهو من يملك تشكيل فرق فنية، ومن يملك معاقبة من لا يمتثل لتسليم سلاحه، فمافيا السلاح التي دأبت على شرائه طيلة السنوات الماضية لا يردعها رادع. وتقرير الخبراء التابع لمجلس الأمن رصد هذه الانتهاكات حتى على مستوى دول». وانتهي الشاطر إلى القول إن «الانفلات الأمني نتيجة متوقعة لانتشار السلاح خارج سلطة الدولة، وقد جرّ المجتمع الليبي إلى ما يعانيه من فرقة وانقسام وعدم القدرة على إنتاج موقف موحد يجمع شتات البلاد ويدفع إلى تحقيق استقرار، وبالتالي فلا حرج في الاستعانة بالتجارب التي خاضتها الأمم المتحدة في دول أخرى عانت ما تعانيه ليبيا... وأرى ضرورة تكليف البعثة الأممية بهذه المهمة والتعاون معها بشكل مطلق».


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».