إثيوبيا... اكتشاف خارج الزمن اللاهث ودوّامة الحياة

تكشف أخيراً عن مفاتنها الطبيعية المجهولة وكنوزها التاريخية المنسيّة

TT

إثيوبيا... اكتشاف خارج الزمن اللاهث ودوّامة الحياة

هل سئمت من الدروب السياحية المطروقة، ومن المدائن التي تزهو بمتاحفها وتتباهى بحدائقها الغنّاء وساحاتها العريقة؟ هل مللت من سياحة التسوّق والمطاعم الفخمة والمنتجعات الراقية؟ هل ما زال عندك فضول للاكتشاف، وتحدوك الرغبة في العودة إلى المنابع العذراء خارج الزمن اللاهث ودوّامة الحياة الجامحة؟
إن كان كذلك، فثمّة بلاد ما زالت تعيش في غابر العصور، ساحرة الطبيعة قاسيتها، تفرش لك التاريخ من بداياته وتذكّرك بأن السعادة هنا، كما في مطارح كثيرة من العالم، ما زالت مجرّد سعي إلى زوال الشقاء!
إنها إثيوبيا، مهد البشرية الأول بحسب ما تؤكد آخر الاكتشافات في علوم الأجناس، ومنهل النيل العظيم الدافق خيرات في سهوب السودان وبطاح النوبة ومخصِّب أرض الكنانة منذ الأزل. منها ملكة سبأ التي نسجت الأساطير عباءة تاريخها، والبُنُّ الذي منه عطر قهوة الصباح الأولى، واللغة التي لا تشبه أبجديتها أي لغة أخرى في العالم، الأمهرية.
حتى أواسط العقد الماضي لم يكن اسم إثيوبيا يظهر على أي من الخرائط السياحية في العالم، رغم كونها العاصمة السياسية لأفريقيا، إذ يوجد فيها المقرّ الرئيسي للاتحاد الأفريقي منذ تأسيسه ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا. الحروب الأهلية والاضطرابات السياسية المتواصلة، والمجاعات التي ضربتها 4 مرّات في العقود الخمسة الأخيرة، أسقطتها من مفكّرة السائحين وأقصتها عن دروب الاستجمام والاكتشاف والراحة.
لكن مع بداية الطفرة الاقتصادية والعودة التدريجية للاستقرار إلى الحياة السياسية، فتحت إثيوبيا أبواب قطاع السياحة على مفاتنها الطبيعية العذراء وكنوزها التاريخية المنسيّة أو المجهولة، وبدأ توافد السيّاح إليها بأعداد متزايدة حيث تجذبهم طبيعتها البِكر والموروث الأثري والفني في تاريخها.

- لاليبيلا
إثيوبيا هي البلد الأفريقي الذي يضمّ أكبر عدد من مواقع التراث العالمي التي ترعاها منظمة اليونيسكو. وأبرز هذه المواقع بلا منازع هي مجموعة الكنائس الإحدى عشرة في مدينة لاليبيلا، التي يصنّفها كثيرون ثامنة عجائب الدنيا، وهي المقصد الرئيسي للسيّاح الذين يزورون إثيوبيا. ويعود تاريخ هذه الكنائس المحفورة في الصخر نزولا من سطح الأرض، والفريدة من نوعها في العالم، إلى القرن الثالث عشر. وهي أيضا، محجّة يتوافد إليها الإثيوبيون المعروفون بتدّينهم الشديد من كل أنحاء البلاد ليمارسوا فيها الشعائر حسب الطقوس القديمة.
تقع لاليبيلا وسط منطقة واسعة وخصبة تكثر فيها الأنهار وتعلوها جبال يعيش فيها أكثر من 100 قبيلة ما زالت إلى اليوم تمارس طقوسها وشعائرها كما في العصور القديمة.

- آكسوم وغوندار
من لاليبيلا إلى آكسوم التي كانت عاصمة للمملكة الشهيرة التي تحمل الاسم نفسه، والتي كانت تمتدّ بين القرنين الأول والسادس من أقاصي السودان إلى اليمن، وفيها اليوم بقايا المعابد والمباني الإدارية التي يجري ترميمها بمساعدة خبراء دوليين تحت إشراف اليونيسكو.
في الطريق من آكسوم إلى غوندار ترتفع على مسافة عشرات الكيلومترات سلسلة جبال Simien الساحرة التي صنفّتها اليونيسكو أيضا على قائمة التراث الإنساني من بين المواقع الطبيعية. وتتميّز هذه الجبال الخضراء العالية بتضاريس مدهشة وفوالق سحيقة تعطي الانطباع بأنها من كوكب آخر.
وتكثر فيها قطعان الماعز وفصيلة من القِرَدة لا توجد في أي مكان آخر من العالم، تعيش معظم أيام السنة عند قمة Rasdejen التي يبلغ ارتفاعها 4533 مترا، وهي أعلى قمة في إثيوبيا.
عند الوصول إلى غوندار تطالعك مجموعة من القصور على طراز البارّوك الأوروبي المتأثر بالأسلوب المعماري البرتغالي عندما احتلها البرتغاليّون في القرن السادس عشر.

- بازاويت
ومن غوندار إلى بازاويت التي تشرف الهضاب عند مدخلها على مجرى النيل الأزرق عندما يغادر بحيرة تانا نحو الخرطوم ليعانق النيل الأبيض ويتّحدان في النيل العظيم. وعلى بعد 70 كيلومترا من بازاويت توجد منابع النيل الأزرق التي زارها الرحّالة الإسباني بيدرو باييز عام 1618 عندما كان مستشارا في بلاط الإمبراطور الإثيوبي.

- أديس أبابا
ختام جولتنا الإثيوبية في العاصمة أديس أبابا التي يتوسّطها القصر الضخم المهجور الذي كان يسكنه الإمبراطور هيلاسيلاسي الذي كان يزعم أنه يتحدّر مباشرة من الملك سليمان، والذي كان أول رئيس لمنظمة الوحدة الأفريقية. وقبالة القصر يقوم المَعلَم الوحيد الذي يستحق زيارة متأنية في العاصمة إلى جانب كاتدرائية القديس جاورجيوس، ألا وهو المتحف الوطني الذي يضمّ مجموعات نفيسة من الأيقونات والمخطوطات القديمة والقطع الأثرية التي يعود بعضها إلى الألف الثاني قبل الميلاد، لكن درّة هذا المتحف التي بفضلها ذاعت شهرته في العالم، هي بقايا الهيكل العظمي الذي يعرف باسم «لوسي» والذي يعود لمخلوق بشري السمات يتراوح عمره بين 2.3 و5.3 مليون سنة، اكتشفه الأميركي دونالد جوهانسون عام 1974 على بعد 159 كيلومترا من أديس أبابا.
وتشكّل هذه العظام 40 % من الهيكل العظمي لأنثى في بداية العقد الثالث من عمرها، قصيرة القامة لا يزيد طولها عن 110 سنتيمترات، ويبلغ وزنها 27 كيلوغراماً. أما الاسم الذي أطلقه عليها مكتشفها، فمردّه إلى عنوان أغنية فرقة «البيتلز» البريطانية الشهيرة التي كان الباحثون يستمعون إليها عندما وقعوا على تلك العظام، التي ترقد اليوم في صندوق حديدي مقفل، فيما تُعرض في المتحف نُسَخٌ طبق الأصل عنها.


مقالات ذات صلة

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

الاقتصاد سياح صينيون يزورون مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء (رويترز)

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

أعلنت وزارة السياحة المغربية، الاثنين، أن عدد السياح الذين زاروا المغرب منذ بداية العام وحتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) بلغ 15.9 مليون سائح.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
سفر وسياحة من بين الأدوات التي استخدمها المجرمون في قتل ضحاياهم (متحف الجريمة)

«متحف الجريمة» في لندن... لأصحاب القلوب القوية

من براميل الأسيد التي استخدمها القاتل جون جورج هاي لتذويب ضحاياه والتي تعرف باسم Acid Bath «مغطس الأسيد» إلى الملابس الداخلية لـ«روز ويست».

عادل عبد الرحمن (لندن)
يوميات الشرق آلاف الحقائب التي خسرتها شركات الطيران في متجر الأمتعة بألاباما (سي إن إن)

المسافرون الأميركيون يفقدون ملايين الحقائب كل عام

داخل المساحة التي تبلغ 50 ألف قدم مربع، وإلى مدى لا ترى العين نهايته، تمتد صفوف من الملابس والأحذية والكتب والإلكترونيات، وغيرها من الأشياء المستخرجة من…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سفر وسياحة «ساحة تيفولي» في كوبنهاغن (الشرق الأوسط)

دليلك إلى أجمل أضواء وزينة أعياد الميلاد ورأس السنة حول العالم

زينة أعياد الميلاد ورأس السنة لها سحرها. يعشقها الصغار والكبار، ينتظرونها كل سنة بفارغ الصبر. البعض يسافر من بلد إلى آخر، فقط من أجل رؤية زينة العيد.

جوسلين إيليا (لندن)

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)
TT

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)

«إن أعدنا لك المقاهي القديمة، فمن يُعِد لك الرفاق؟» بهذه العبارة التي تحمل في طياتها حنيناً عميقاً لماضٍ تليد، استهل محمود النامليتي، مالك أحد أقدم المقاهي الشعبية في قلب سوق المنامة، حديثه عن شغف البحرينيين بتراثهم العريق وارتباطهم العاطفي بجذورهم.

فور دخولك بوابة البحرين، والتجول في أزقة السوق العتيقة، حيث تمتزج رائحة القهوة بنكهة الذكريات، تبدو حكايات الأجداد حاضرة في كل زاوية، ويتأكد لك أن الموروث الثقافي ليس مجرد معلم من بين المعالم القديمة، بل روح متجددة تتوارثها الأجيال على مدى عقود.

«مقهى النامليتي» يُعدُّ أيقونة تاريخية ومعلماً شعبياً يُجسّد أصالة البحرين، حيث يقع في قلب سوق المنامة القديمة، نابضاً بروح الماضي وعراقة المكان، مالكه، محمود النامليتي، يحرص على الوجود يومياً، مرحباً بالزبائن بابتسامة دافئة وأسلوب يفيض بكرم الضيافة البحرينية التي تُدهش الزوار بحفاوتها وتميّزها.

مجموعة من الزوار قدموا من دولة الكويت حرصوا على زيارة مقهى النامليتي في سوق المنامة القديمة (الشرق الأوسط)

يؤكد النامليتي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن سوق المنامة القديمة، الذي يمتد عمره لأكثر من 150 عاماً، يُعد شاهداً حيّاً على تاريخ البحرين وإرثها العريق، حيث تحتضن أزقته العديد من المقاهي الشعبية التي تروي حكايات الأجيال وتُبقي على جذور الهوية البحرينية متأصلة، ويُدلل على أهمية هذا الإرث بالمقولة الشعبية «اللي ما له أول ما له تالي».

عندما سألناه عن المقهى وبداياته، ارتسمت على وجهه ابتسامة وأجاب قائلاً: «مقهى النامليتي تأسس قبل نحو 85 عاماً، وخلال تلك المسيرة أُغلق وأُعيد فتحه 3 مرات تقريباً».

محمود النامليتي مالك المقهى يوجد باستمرار للترحيب بالزبائن بكل بشاشة (الشرق الأوسط)

وأضاف: «في الستينات، كان المقهى مركزاً ثقافياً واجتماعياً، تُوزع فيه المناهج الدراسية القادمة من العراق، والكويت، ومصر، وكان يشكل ملتقى للسكان من مختلف مناطق البلاد، كما أتذكر كيف كان الزبائن يشترون جريدة واحدة فقط، ويتناوبون على قراءتها واحداً تلو الآخر، لم تكن هناك إمكانية لأن يشتري كل شخص جريدة خاصة به، فكانوا يتشاركونها».

وتضم سوق المنامة القديمة، التي تعد واحدة من أقدم الأسواق في الخليج عدة مقاه ومطاعم وأسواق مخصصة قديمة مثل: مثل سوق الطووايش، والبهارات، والحلويات، والأغنام، والطيور، واللحوم، والذهب، والفضة، والساعات وغيرها.

وبينما كان صوت كوكب الشرق أم كلثوم يصدح في أرجاء المكان، استرسل النامليتي بقوله: «الناس تأتي إلى هنا لترتاح، واحتساء استكانة شاي، أو لتجربة أكلات شعبية مثل البليلة والخبيصة وغيرها، الزوار الذين يأتون إلى البحرين غالباً لا يبحثون عن الأماكن الحديثة، فهي موجودة في كل مكان، بل يتوقون لاكتشاف الأماكن الشعبية، تلك التي تحمل روح البلد، مثل المقاهي القديمة، والمطاعم البسيطة، والجلسات التراثية، والمحلات التقليدية».

جانب من السوق القديم (الشرق الاوسط)

في الماضي، كانت المقاهي الشعبية - كما يروي محمود النامليتي - تشكل متنفساً رئيسياً لأهل الخليج والبحرين على وجه الخصوص، في زمن خالٍ من السينما والتلفزيون والإنترنت والهواتف المحمولة. وأضاف: «كانت تلك المقاهي مركزاً للقاء الشعراء والمثقفين والأدباء، حيث يملأون المكان بحواراتهم ونقاشاتهم حول مختلف القضايا الثقافية والاجتماعية».

عندما سألناه عن سر تمسكه بالمقهى العتيق، رغم اتجاه الكثيرين للتخلي عن مقاهي آبائهم لصالح محلات حديثة تواكب متطلبات العصر، أجاب بثقة: «تمسكنا بالمقهى هو حفاظ على ماضينا وماضي آبائنا وأجدادنا، ولإبراز هذه الجوانب للآخرين، الناس اليوم يشتاقون للمقاهي والمجالس القديمة، للسيارات الكلاسيكية، المباني التراثية، الأنتيك، وحتى الأشرطة القديمة، هذه الأشياء ليست مجرد ذكريات، بل هي هوية نحرص على إبقائها حية للأجيال المقبلة».

يحرص العديد من الزوار والدبلوماسيين على زيارة الأماكن التراثية والشعبية في البحرين (الشرق الأوسط)

اليوم، يشهد الإقبال على المقاهي الشعبية ازدياداً لافتاً من الشباب من الجنسين، كما يوضح محمود النامليتي، مشيراً إلى أن بعضهم يتخذ من هذه الأماكن العريقة موضوعاً لأبحاثهم الجامعية، مما يعكس اهتمامهم بالتراث وتوثيقه أكاديمياً.

وأضاف: «كما يحرص العديد من السفراء المعتمدين لدى المنامة على زيارة المقهى باستمرار، للتعرف عن قرب على تراث البحرين العريق وأسواقها الشعبية».