جائزة «مان بوكر»... الانكفاء إلى الجزيرة البريطانية أم الانفتاح على العالم؟

خيارات عيدها الذهبي أغضبت الكثيرين

أغلفة بعض الروايات المرشحة للجائزة في دورات سابقة
أغلفة بعض الروايات المرشحة للجائزة في دورات سابقة
TT

جائزة «مان بوكر»... الانكفاء إلى الجزيرة البريطانية أم الانفتاح على العالم؟

أغلفة بعض الروايات المرشحة للجائزة في دورات سابقة
أغلفة بعض الروايات المرشحة للجائزة في دورات سابقة

احتفلت جائزة مان بوكر البريطانيّة للرّواية هذا العام بمرور نصف قرن على إطلاقها في الفضاء الأدبي الأنغلوفوني. لكن عيدها الذهبي الذي تزامن مع إعلانها لقائمتها الطويلة من الأعمال المرشحة لدورة 2018 غرق في لجة جدلٍ غير مسبوق حول فشلها المزمن الخروج من دائرة الخضوع لقيم المؤسسة الثقافيّة البريطانيّة التقليديّة المنحازة في لا وعيها للذكوريّة والعنصرية وسلطان كبار تجار الكتب.
بقيت الجائزة منذ تأسيسها عام 1968 وإلى وقت قريب قلعة محكمة الإغلاق لا يحظى بشرف دخولها غالبا إلا روائيون إنجليز رجال رغم أنها نظرياً مفتوحة لأي أعمال روائيّة من بريطانيا وأيرلندا ودول مجموعة الكومنولث – أي الفولكلور السياسي والثقافي الموروث من أيّام الإمبراطوريّة التي تقاعدت - حتى ضاقت نساء بريطانيا الأديبات بعنصريتها الظاهرة وانحيازها وأطلقن لمواجهتها جائزة مستقلة للرواية النسائيّة المكتوبة باللغة الإنجليزيّة دون النظر إلى جنسيّة كاتبتها وهي مستمرة إلى اليوم في عامها الثاني والعشرين (منحت لأول مرّة 1996). ومع ذلك فإن بوكر بقيت جائزة بريطانيا الأهم فيما خص مجال الرواية وحظيت بقيمة عالميّة بالنظر إلى المكانة المتزايدة للغة الإنجليزيّة سواء في الاتحاد الأوروبي أو دول العالم الثالث، واستمرت الكتب الفائزة بها وحتى تلك المرشحة لقوائمها الطويلة والقصيرة تضمن للروائيين الفائزين ثروة صغيرة على الأقل من وراء انفجار أرقام المبيعات، إن لم يكن تقاعدا مبكراً مريحا.
تغيّرت المناخات الثقافيّة في الغرب مع انصرام القرن العشرين، ولم تعد تقاليد الجائزة المتكلّسة تتناسب وروح العصر مع انتصار العولمة النهائي وتشظي استعمال الإنترنت وتوسع نضالات المجموعات المهمشة سواء النساء أو الشباب أو الأقليات أو الأعراق. وقد وجدت الجهة القائمة عليها أنّه لا بدّ من الاستجابة بشكل أو بآخر لهذي التحولات أو التعرّض للتهديد بالتحول إلى مشروع غير ذي صلة يقتصر على دوائر نخبوية مغلقة مما قد يفقدها قيمتها تدريجياً عند ناشري الكتب الكبار الذين يعتبرونها موسماً ممتازاً لتحقيق أرقام مبيعة.
كانت إحدى الاستراتيجيات الراديكاليّة التي اعتمدتها مان بوكر لتطوير ذاتها الإعلان عام 2013 توسيع نطاقها ليشمل الأعمال الروائية المكتوبة باللغة الإنجليزيّة بغض النظر عن جنسيّة كاتبها، إلى جانب توجه مقصود لمنح فرص أكثر للأعمال النسائيّة والرّوايات الأولى للكتّاب الشباب. وبالفعل فإن كاتبات بريطانيات بدأن بالفوز بها– وإن كن غالباً من قلب المؤسسة الثقافية المحافظة ذاتها - كما تسربت عدة روايات أولى إلى قوائم الترشيح دورة تلو الأخرى، ومُنحت الجائزة أحيانا لكتاب أميركيين من خارج فضاء الجزر البريطانيّة وتوابعها الفولكلورية رغم المعارضة العلنيّة من قبل دور النشر اللندنية التي طالب بيان توافقت على إصداره ثلاثون منها في فبراير (شباط) الماضي بإرجاع الجائزة إلى سياستها الجغرافيّة القديمة ما قبل 2013.
حاولت لجنة التحكيم جاهدة في اختياراتها للقائمة الطويلة لدورة العام - التي أعلنت في لندن قبل أسابيع قليلة – أن تظهر بلبوس عصري وثوري ملتزم بعكس تطورات العالم وأزماته الفكريّة والروحيّة الكبرى، فضمت 13 عملاً من أصل 171 تقدمت للجائزة، كان منها ولأول مرة في تاريخها رواية رسوم غرافيكيّة (Sabrena) لـ(نك درناسوا). وباستثناء أعمال لاثنين من الروائيين المخضرمين، فإن البقية كانت لكتاب مغمورين نسبياً ومنهم من ينشر للمرة الأولى، كما ضمت عدداً قياسيا من الرّوايات التي خطّتها أنامل نسائيّة تمحور أغلبها حول معاناة المرأة في الغرب، إلى جانب مشاركات أميركيّة (3 روايات) بموازاة البريطانيّة (5 روايات) والأيرلندية (3 روايات) بالإضافة إلى روايتين من كندا. لكن الخيط المشترك الذي بدأ يجمع كل هذي الخيارات المتنوعة هو اشتراكها جميعاً بالتعبير عن الخبرة المعاصرة للعيش في زمان الأزمات المتلاحقة وتصاعد صراعات الهويّة وعودة الفاشيات، فانتهت وكأنها تلوينات على سرديّة ألم ومعاناة تنطق بحزن دفين وكآبة متحكمة.
لكن هذي الخيارات مع مظهرها الراديكالي لم تُرض جميع الأطراف وتعرضت الجائزة من أجلها لمزيد من الانتقادات. فالرواية الغرافيكيّة المرشحة أثارت استغراب صاحبها نفسه الذي وإن لم يمانع بالشهرة الزائدة المفاجئة التي أصيب بها عمله - وانعكس تضاعفاً غير متوقع في كميّات البيع دفع بناشره لإعادة طبعها عدة مرات – لكنّه عبّر عن دهشته الشديدة من قرار اللجنة إذ أنه فنان غرافيكي كان يطمح لو كان تكريمه في مجال عمله لا مع الرّوايات المكتوبة التقليديّة. وقد شنّ عدد من خبراء الفن الغرافيكي هجومات كاسحة على اختيار (Sabrena) تحديداً بوصفها مجرد رواية لا بأس بها في خضم أكوام أعمال مبهرة في فئتها، واعتبروا أن إدراجها ضمن القائمة الطويلة لبوكر كان لمضمونها السياسي المحض فيما يتعلق بأجواء ما بعد ترمب لا لإبداع استثنائي فيها.
لكن أقوى الانتقادات تركزت أساساً على النطاق الجغرافي، إذ بدا الأمر مخجلاً لجهة اختصار الأعمال المرشحة بين روائيين من أوروبا وأميركا الشماليّة مع غياب كلّي لأي تمثيل ولو محدود لمن يتعاطون كتابة الرواية بالإنجليزيّة من بقيّة العالم بما فيها الهند (ثاني أكبر ناشر للكتب الإنجليزيّة بعد بريطانيا) وأستراليا ونيوزلندا وكثير الدول الأفريقيّة والآسيوية وجزر الكاريبي ذات الثقافة الأنغلوفونيّة. وبدت الهموم التي يحملها مجموع الأعمال المرشحة وكأنها مجرّد أوجاع نفسيّة وقلق عند السيّد الأبيض المتوزع على جانبي الأطلسي وحده، دون أن تمتلك أي منها شرعية مخاطبة التجربة الإنسانيّة الأرحب أو أن تصدح بصوت الآخر الذي يقتسم مع الإنجليز رغيف لغتهم ويشرب من أقداح ثقافتهم لظروف تاريخيّة ارتبطت بالتجربة الاستعماريّة البريطانيّة في عصر الإمبراطوريّة.
وهكذا بدا أن الجائزة في خيارات عيدها الذّهبي أغضبت الكثيرين سواء من ناشري الكتب البريطانيين أو المثقفين خارج فضاء أوروبا – أميركا الشماليّة وأخفقت مجددا في محاولتها الظهور كجائزة عالميّة للرواية باللغة الإنجليزيّة.
البدائل المطروحة أمامها في القادم من السنين تبدو وكأنها تعبير عن أزمة المؤسسة الثقافيّة البريطانيّة التي أصيبت بالارتباك نتيجة التحولات المفصليّة الكبرى في عالم الاتصالات، وصعود التيارات اليمينية الصاعق والصراعات المجتمعيّة الأفقيّة، وأيضاً في ذات الوقت ضغوط الناشرين الرأسماليين الكبار القاهرة، التي تريد تنصيب فائزين محليين كي تتضاعف أرقام المبيع داخل السوق البريطانيّة بدلاً من استفادة ناشرين في أقاليم جغرافية أخرى. إذ هي إما تقرر المضي في عولمتها إلى أقصاها فتمنح نوعاً من كوتا ضمن القائمة الطويلة لأعمالٍ من (ما وراء البحار)، وربما للناشرين الصغار الذين يخاطرون بنشر محاولات تجريبيّة مختلفة لا تجرؤ عليها دور النشر الكبيرة، أو أنها تعود إلى قواعدها المغلقة كما في العقود الأولى من حياتها لإرضاء كبار الحيتان.
مهما يكن خيار هيئة جائزة مان بوكر النهائي، فإن جدل الأسابيع الماضية كان يوشوش لها بأن الرقص على حبال الثقافة رياضة خطرة غالباً ما تودي بصاحبها إلى السقوط، وربما حان الوقت لها بعد الخمسينيّة لتتخذ تموضعاً واضحاً الانكفاء إلى الجزيرة البريطانيّة الصغيرة أو الانفتاح على العالم، إذ لم يعد يليق بها قضاء وقتها معلقة على أسوار القلعة بين الجهتين.



إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر
TT

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

أعلنت لجنة الجائزة العالمية للرواية العربية (المعروفة بـ«البوكر العربية») صباح اليوم القائمة الطويلة لدورة عام 2026. وتم اختيار الـ16 المرشحة من بين 137 رواية، ضمن 4 روايات من مصر، و3 من الجزائر، و2 من لبنان، ورواية واحدة من السعودية، والعراق، والمغرب، وسوريا، واليمن، وتونس، وعمان. وتنوعت الموضوعات والرؤى التي عالجتها هذه الروايات كما جاء في بيان اللجنة، وهي:

«ماء العروس» للسوري خليل صويلح، و«خمس منازل لله وغرفة لجدتي» لليمني مروان الغفوري، و«الاختباء في عجلة الهامستر» للمصري عصام الزيات، و«منام القيلولة» للجزائري أمين الزاوي، و«عمة آل مشرق» لأميمة الخميس من السعودية، و«عزلة الكنجرو» لعبد السلام إبراهيم من مصر، و«أيام الفاطمي المقتول» للتونسي نزار شقرون، و«البيرق» للعُمانية شريفة التوبي، و«فوق رأسي سحابة» للكاتبة المصرية دعاء إبراهيم، و«في متاهات الأستاذ ف. ن.» للمغربي عبد المجيد سباطة، و«الرائي: رحلة دامو السومري» للعراقي ضياء جبيلي، و«غيبة مي» للبنانية نجوى بركات، و«أصل الأنواع» للمصري أحمد عبد اللطيف، و«حبل الجدة طوما» للجزائري عبد الوهاب عيساوي، و«الحياة ليست رواية» للبناني عبده وازن، و«أُغالب مجرى النهر» للجزائري سعيد خطيبي.

وستُعلَن القائمةُ القصيرة للجائزة في فبراير (شباط) المقبل، والرواية الفائزة في التاسع من أبريل (نيسان) 2026 في احتفالية تُقام في العاصمة الإماراتية أبوظبي.


متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»