جائزة «مان بوكر»... الانكفاء إلى الجزيرة البريطانية أم الانفتاح على العالم؟

خيارات عيدها الذهبي أغضبت الكثيرين

أغلفة بعض الروايات المرشحة للجائزة في دورات سابقة
أغلفة بعض الروايات المرشحة للجائزة في دورات سابقة
TT

جائزة «مان بوكر»... الانكفاء إلى الجزيرة البريطانية أم الانفتاح على العالم؟

أغلفة بعض الروايات المرشحة للجائزة في دورات سابقة
أغلفة بعض الروايات المرشحة للجائزة في دورات سابقة

احتفلت جائزة مان بوكر البريطانيّة للرّواية هذا العام بمرور نصف قرن على إطلاقها في الفضاء الأدبي الأنغلوفوني. لكن عيدها الذهبي الذي تزامن مع إعلانها لقائمتها الطويلة من الأعمال المرشحة لدورة 2018 غرق في لجة جدلٍ غير مسبوق حول فشلها المزمن الخروج من دائرة الخضوع لقيم المؤسسة الثقافيّة البريطانيّة التقليديّة المنحازة في لا وعيها للذكوريّة والعنصرية وسلطان كبار تجار الكتب.
بقيت الجائزة منذ تأسيسها عام 1968 وإلى وقت قريب قلعة محكمة الإغلاق لا يحظى بشرف دخولها غالبا إلا روائيون إنجليز رجال رغم أنها نظرياً مفتوحة لأي أعمال روائيّة من بريطانيا وأيرلندا ودول مجموعة الكومنولث – أي الفولكلور السياسي والثقافي الموروث من أيّام الإمبراطوريّة التي تقاعدت - حتى ضاقت نساء بريطانيا الأديبات بعنصريتها الظاهرة وانحيازها وأطلقن لمواجهتها جائزة مستقلة للرواية النسائيّة المكتوبة باللغة الإنجليزيّة دون النظر إلى جنسيّة كاتبتها وهي مستمرة إلى اليوم في عامها الثاني والعشرين (منحت لأول مرّة 1996). ومع ذلك فإن بوكر بقيت جائزة بريطانيا الأهم فيما خص مجال الرواية وحظيت بقيمة عالميّة بالنظر إلى المكانة المتزايدة للغة الإنجليزيّة سواء في الاتحاد الأوروبي أو دول العالم الثالث، واستمرت الكتب الفائزة بها وحتى تلك المرشحة لقوائمها الطويلة والقصيرة تضمن للروائيين الفائزين ثروة صغيرة على الأقل من وراء انفجار أرقام المبيعات، إن لم يكن تقاعدا مبكراً مريحا.
تغيّرت المناخات الثقافيّة في الغرب مع انصرام القرن العشرين، ولم تعد تقاليد الجائزة المتكلّسة تتناسب وروح العصر مع انتصار العولمة النهائي وتشظي استعمال الإنترنت وتوسع نضالات المجموعات المهمشة سواء النساء أو الشباب أو الأقليات أو الأعراق. وقد وجدت الجهة القائمة عليها أنّه لا بدّ من الاستجابة بشكل أو بآخر لهذي التحولات أو التعرّض للتهديد بالتحول إلى مشروع غير ذي صلة يقتصر على دوائر نخبوية مغلقة مما قد يفقدها قيمتها تدريجياً عند ناشري الكتب الكبار الذين يعتبرونها موسماً ممتازاً لتحقيق أرقام مبيعة.
كانت إحدى الاستراتيجيات الراديكاليّة التي اعتمدتها مان بوكر لتطوير ذاتها الإعلان عام 2013 توسيع نطاقها ليشمل الأعمال الروائية المكتوبة باللغة الإنجليزيّة بغض النظر عن جنسيّة كاتبها، إلى جانب توجه مقصود لمنح فرص أكثر للأعمال النسائيّة والرّوايات الأولى للكتّاب الشباب. وبالفعل فإن كاتبات بريطانيات بدأن بالفوز بها– وإن كن غالباً من قلب المؤسسة الثقافية المحافظة ذاتها - كما تسربت عدة روايات أولى إلى قوائم الترشيح دورة تلو الأخرى، ومُنحت الجائزة أحيانا لكتاب أميركيين من خارج فضاء الجزر البريطانيّة وتوابعها الفولكلورية رغم المعارضة العلنيّة من قبل دور النشر اللندنية التي طالب بيان توافقت على إصداره ثلاثون منها في فبراير (شباط) الماضي بإرجاع الجائزة إلى سياستها الجغرافيّة القديمة ما قبل 2013.
حاولت لجنة التحكيم جاهدة في اختياراتها للقائمة الطويلة لدورة العام - التي أعلنت في لندن قبل أسابيع قليلة – أن تظهر بلبوس عصري وثوري ملتزم بعكس تطورات العالم وأزماته الفكريّة والروحيّة الكبرى، فضمت 13 عملاً من أصل 171 تقدمت للجائزة، كان منها ولأول مرة في تاريخها رواية رسوم غرافيكيّة (Sabrena) لـ(نك درناسوا). وباستثناء أعمال لاثنين من الروائيين المخضرمين، فإن البقية كانت لكتاب مغمورين نسبياً ومنهم من ينشر للمرة الأولى، كما ضمت عدداً قياسيا من الرّوايات التي خطّتها أنامل نسائيّة تمحور أغلبها حول معاناة المرأة في الغرب، إلى جانب مشاركات أميركيّة (3 روايات) بموازاة البريطانيّة (5 روايات) والأيرلندية (3 روايات) بالإضافة إلى روايتين من كندا. لكن الخيط المشترك الذي بدأ يجمع كل هذي الخيارات المتنوعة هو اشتراكها جميعاً بالتعبير عن الخبرة المعاصرة للعيش في زمان الأزمات المتلاحقة وتصاعد صراعات الهويّة وعودة الفاشيات، فانتهت وكأنها تلوينات على سرديّة ألم ومعاناة تنطق بحزن دفين وكآبة متحكمة.
لكن هذي الخيارات مع مظهرها الراديكالي لم تُرض جميع الأطراف وتعرضت الجائزة من أجلها لمزيد من الانتقادات. فالرواية الغرافيكيّة المرشحة أثارت استغراب صاحبها نفسه الذي وإن لم يمانع بالشهرة الزائدة المفاجئة التي أصيب بها عمله - وانعكس تضاعفاً غير متوقع في كميّات البيع دفع بناشره لإعادة طبعها عدة مرات – لكنّه عبّر عن دهشته الشديدة من قرار اللجنة إذ أنه فنان غرافيكي كان يطمح لو كان تكريمه في مجال عمله لا مع الرّوايات المكتوبة التقليديّة. وقد شنّ عدد من خبراء الفن الغرافيكي هجومات كاسحة على اختيار (Sabrena) تحديداً بوصفها مجرد رواية لا بأس بها في خضم أكوام أعمال مبهرة في فئتها، واعتبروا أن إدراجها ضمن القائمة الطويلة لبوكر كان لمضمونها السياسي المحض فيما يتعلق بأجواء ما بعد ترمب لا لإبداع استثنائي فيها.
لكن أقوى الانتقادات تركزت أساساً على النطاق الجغرافي، إذ بدا الأمر مخجلاً لجهة اختصار الأعمال المرشحة بين روائيين من أوروبا وأميركا الشماليّة مع غياب كلّي لأي تمثيل ولو محدود لمن يتعاطون كتابة الرواية بالإنجليزيّة من بقيّة العالم بما فيها الهند (ثاني أكبر ناشر للكتب الإنجليزيّة بعد بريطانيا) وأستراليا ونيوزلندا وكثير الدول الأفريقيّة والآسيوية وجزر الكاريبي ذات الثقافة الأنغلوفونيّة. وبدت الهموم التي يحملها مجموع الأعمال المرشحة وكأنها مجرّد أوجاع نفسيّة وقلق عند السيّد الأبيض المتوزع على جانبي الأطلسي وحده، دون أن تمتلك أي منها شرعية مخاطبة التجربة الإنسانيّة الأرحب أو أن تصدح بصوت الآخر الذي يقتسم مع الإنجليز رغيف لغتهم ويشرب من أقداح ثقافتهم لظروف تاريخيّة ارتبطت بالتجربة الاستعماريّة البريطانيّة في عصر الإمبراطوريّة.
وهكذا بدا أن الجائزة في خيارات عيدها الذّهبي أغضبت الكثيرين سواء من ناشري الكتب البريطانيين أو المثقفين خارج فضاء أوروبا – أميركا الشماليّة وأخفقت مجددا في محاولتها الظهور كجائزة عالميّة للرواية باللغة الإنجليزيّة.
البدائل المطروحة أمامها في القادم من السنين تبدو وكأنها تعبير عن أزمة المؤسسة الثقافيّة البريطانيّة التي أصيبت بالارتباك نتيجة التحولات المفصليّة الكبرى في عالم الاتصالات، وصعود التيارات اليمينية الصاعق والصراعات المجتمعيّة الأفقيّة، وأيضاً في ذات الوقت ضغوط الناشرين الرأسماليين الكبار القاهرة، التي تريد تنصيب فائزين محليين كي تتضاعف أرقام المبيع داخل السوق البريطانيّة بدلاً من استفادة ناشرين في أقاليم جغرافية أخرى. إذ هي إما تقرر المضي في عولمتها إلى أقصاها فتمنح نوعاً من كوتا ضمن القائمة الطويلة لأعمالٍ من (ما وراء البحار)، وربما للناشرين الصغار الذين يخاطرون بنشر محاولات تجريبيّة مختلفة لا تجرؤ عليها دور النشر الكبيرة، أو أنها تعود إلى قواعدها المغلقة كما في العقود الأولى من حياتها لإرضاء كبار الحيتان.
مهما يكن خيار هيئة جائزة مان بوكر النهائي، فإن جدل الأسابيع الماضية كان يوشوش لها بأن الرقص على حبال الثقافة رياضة خطرة غالباً ما تودي بصاحبها إلى السقوط، وربما حان الوقت لها بعد الخمسينيّة لتتخذ تموضعاً واضحاً الانكفاء إلى الجزيرة البريطانيّة الصغيرة أو الانفتاح على العالم، إذ لم يعد يليق بها قضاء وقتها معلقة على أسوار القلعة بين الجهتين.



لاركن... شاعر أحبه الناس واختلف عليه النقاد

لاركن... شاعر أحبه الناس واختلف عليه النقاد
TT

لاركن... شاعر أحبه الناس واختلف عليه النقاد

لاركن... شاعر أحبه الناس واختلف عليه النقاد

مرت قبل أيام الذكرى الأربعون لرحيل الشاعر الإنجليزي فيليب لاركن عن ثلاث وستين سنة (1922-1985). وهو يعتبر من أحب الشعراء الإنجليز شعبياً، لكن النقد ما زال منقسماً حول شعره، وشخصه أيضاً، كما أن الدراسات النقدية عنه، سلباً وإيجاباً، لم تتوقف منذ رحيله، وهناك دورية منتظمة تحمل اسمه، وكذلك ينتصب تمثال له في كنغستن أبون هول، حيث عمل ومات.

كل هذا الحضور الكبير في المشهد الشعري البريطاني، والعالمي أيضاً، وهو لم يصدر سوى أربع مجموعات شعرية في حياته، ويمكن اعتبارها ثلاثاً، فمجموعته الأولى لم تنل أي اهتمام يذكر، ولم يلفت الانتباه النقدي إلا بعد مجموعته الثانية «الأقل انخداعاً»، التي اعتبرت على نطاق واسع من أهم المجموعات الشعرية الصادرة في سنة 1955.

ومع ذلك، لم يختلف نقاد حول شاعر كما اختلفوا حول لاركن. في كتابه الصادر 2011، «فيليب لاركن: قصائد»، يقول الروائي مارتن آمس، ابن الشاعر والروائي كينغسلي آمس، الذي كان صديقاً حميماً للاركن:

«كانت هناك محاولات للتقليل من مكانة لاركن، لكنه لا يزال هنا، ولا تزال أعماله تُقرأ، ولا يزال عنصرياً وكارهاً للنساء بشكل واضح (وإن لم يكن في القصائد)». وهو محق. فكثيراً ما يحاول الناقد والشاعر توم بولين، مثلاً، تشويه سمعة لاركن الشعرية استناداً إلى عدد قليل من رسائله الخاصة، بينما يرى غراهام هولدرنس أن شعر لاركن «شعر بسيط»، ويذهب أبعد من ذلك معتبراً إياه «شعراً تمثيلياً مستنداً إلى فلسفة الشعر الإنجليزي المميزة: التجريبية».

وبالتالي، يستنتج خطأً أن لاركن «يكتفي برؤية سطح الحياة ومحاكاته، رافضاً التعمق في الفكر أو في بنية لغوية جديدة لاستكشاف أعماق وتعقيدات التجربة أو الكلمات». ويجادل والين بأن لاركن «شاعرٌ مباشر»، لكنه، يناقض كلامه بعد قليل، ناسباً لشعره بعض العناصر الميتافيزيقية الغامضة. وهاجمت جيرمين غرير، الكاتبة «النسوية» الأسترالية، لاركن بشدة بعد نشر رسائله المختارة، قائلة إن شعره «بسيط، وشعبي وعامي»، وإن «الموقف الذي يعبر عنه» معادٍ للفكر، وعنصري، وجنساني، وذو وعي طبقي فاسد».

أما بالنسبة لجيمس وود، فلاركن «سجل صغير للإحباط... بيروقراطي الإحباط»، بينما يعتبره كل من برايان أبليارد وبيتر أكرويد شاعراً إقليمياً.

من جانبه، كتب أندرو دنكان أن لاركن «محبط، بارد، ممل، يفتقر إلى الموهبة الأدبية، ولم ينجح أبداً في كتابة قصيدة جيدة».

يمكن تسمية هذا النقد بـ«نقد السيرة الذاتية»، إذا استخدمنا مصطلح جون أوزبورن، الذي «يفترض أن حقيقة الأدب تكمن في إخلاصه للتجربة المعاشة للكاتب». ويشير أوزبورن أيضاً إلى أنه من بين عشرين إلى ثلاثين كتاباً نقدياً ونحو ستين مقالاً قيّماً عن لاركن، فإن أكثر من تسعين في المائة منها يستخدم منهج السيرة الذاتية.

على مستوى النقد الأدبي، يمكننا تقسيم هذا النقد إلى نوعين رئيسيين: يرى النوع الأول أن لاركن شاعر مفتون بالحرمان والوحدة والخسارة، التي تقترب من العدم أو السلبية على الأقل. ويفشل هذا النقد في رؤية أن الحرمان بالنسبة للاركن، كما قال مرة، هو ما كانت عليه أزهار النرجس بالنسبة لوردزورث. إنه مفروض ذاتياً كوسيلة للتسامي، كما سنبين، والهروب من عالم الاستهلاك، ومحاولة لفصل الفن عن المجتمع، والذات عن الآخرين. إنه ليس نتاجاً لاضطراب نفسي، ولا كراهية للنساء، أو مرض نرجسي أو عدم ارتياح يشعر به تجاه شكله الجسماني، كما يوحي بعض النقاد، بل هو نتاج تأمل في الذات، وفي تدهور مجتمع وثقافة ما بعد الحرب، والشيخوخة والموت.

النوع الثاني من النقد ينظر إلى شعر لاركن على أنه غامض ومتناقض، ويشير إلى وجود «شخصيتين» عند لاركن.

والحقيقة، أن لاركن الناضج لم يختلف جوهرياً عن المراهق والشاب، إذ واصل، بطرق مختلفة، تجربة الطفولة، التي هي «ملل منسي»، كما يقول في قصيدته «قادم». والشعور بالغربة والاغتراب عن العالم الخارجي ميزا الكثير من شعره المبكر واللاحق. في قصيدة تعود إلى عام 1938، كتب لاركن: «شبكة من الضباب العائم فوق الغابة والأرض القفر/ هادئة كالموت/ يتسلل الليل المظلم، ويترك العالم وحيداً»، (الأعمال الكاملة ص 225) أو: «في الخارج، ستلسعك الغابة، تذوب، ثم تعود/ في الداخل، ستحترق الشمعة». (CP الأعمال الكاملة، 233).

وفي عام 1946، بعد ثمان سنوات، كرر المضمون نفسه تقريباً: «أرى أن الجدران قتلت الشمس/ والضوء مات» (الأعمال 12). وبعد ما يقرب من ثلاثين عاماً، عبر عن الشعور نفسه بالوحدة والقلق الوجودي وبالصور نفسها تقريباً: «في دهاليز خاوية، تحترق الأضواء/ كم هي معزولة، مثل الحصن/ الورقة المعدة لكتابة رسائل المنفى إلى الوطن/ (إذا كان الوطن موجوداً) (الأعمال 163)». وعكس هذا الإحساس عندما كتب أن «دي إتش لورنس مهم بالنسبة له مثل شكسبير بالنسبة لكيتس»، لأن الرسالة الحقيقية للورنس هي أن: «كل شخص وحيد... الجميع غير قادرين على فعل أي شيء أكثر من لمس بعضهم البعض».

في هذه الفترة، كان هناك انسجام بين لاركن الشاعر وشخصيته، سواء في الشعر أو النثر. في روايتيه «جل» و«فتاة في الشتاء»، تسحق الشخصيات الرئيسية مشاعر الاغتراب والغربة. في «جل»، يلتحق جون كيمب بأكسفورد للدراسة، لكنه سرعان ما يشعر بالغربة. ملاذه الوحيد كانت غرفته. تدريجياً، تتحول أكسفورد إلى «مدينة وهمية، حتى تُشبه مدينة تي. إس. إليوت في «الأرض اليباب». وفي رواية «فتاة في الشتاء»، نلتقي بكاثرين، وهي لاجئة طردتها الحرب من بلدها. كلا البطلين «يُتركان في حالة استسلام مطلق، بلا مكان يذهبان إليه». كلاهما متردد في البقاء في أي مكان، ربما باستثناء غرفتهما الخاصة، لأنهما لا يستطيعان «إيجاد مكانهما المناسب»، مثل لاركن نفسه، كما يقول في قصيدة «الأماكن، أيها الأحباء»: «لا، لم أجد قط/ المكان الذي يمكن أن أقول عنه/ هذا مكاني المناسب/ سأبقى هنا». (الأعمال، 99)

لا يقصد لاركن هنا بالمكان موقعاً جغرافياً معيّناً. وقد أكد ذلك عندما سُئل عن مدينة هول، حيث عاش لمدة ثلاثين عاماً، في مقابلة مع صحيفة الأوبزرفر عام 1979: «أنا لا أعي حقاً أين أعيش».

يمكن إحالة الخلاف حول شعر وشخصية لاركن إلى سببين رئيسين: السبب الأول أن لاركن كتب شعراً مختلفاً تماماً عن شعر مجايليه منذ مجموعته الثانية «الأقل انخداعاً»، التي برزت فيها السمة الأساسية التي ميزت شعره: اللاانتماء بالمعنى الوجودي. وهي ظاهرة غريبة على الشعر الإنجليزي الذي عرف عموماً بنزعته الواقعية، فلم تزدهر فيه ظاهرة الدادائية ولا السريالية مثلاً كما في الأدب الفرنسي - باستثناء ديفيد غاسكوين الذي عاش لفترة في فرنسا- وذلك لأسباب اجتماعية وثقافية مختلفة لا مجال هنا للخوض فيها. ولعل هذا يفسر عدم وجود دراسات نقدية تتناول هذه الظاهرة، باستثناء كتاب «اللامنتمي» لكولن ويلسون، الذي نُشر عام 1956 وركز فيه فقط على الكُتّاب الأجانب، باستثناء ت. إ. لورانس، مؤلف كتاب «أعمدة الحكمة السبعة»، وهربرت جورج ويلز، الذي عرف بأدب الخيال العلمي.

لم نقرأ في الأدب البريطاني نقداً يتناول لاركن، إنساناً وشاعراً، باعتباره لا منتمٍ، ما عدا بعض الإشارات إلى حياته الشخصية كشخص منعزل وأعزب، وهي إشارات ليست لها أية علاقة بظاهرة اللاانتماء، كتوجه أدبي وفلسفي. إن عدم النظر إليه من هذا المنظور، دفع نقاده إلى اعتبار شعره غامضاً ومتناقضاً، وإلى القول بوجود «لاركنين» أو «جانبين» له. ولكن من خلال النظر إلى لاركن كشاعر وإنسان لا منتمٍ، بالمعنى الوجودي، سنرى أنه كان في انسجام مع نفسه. منذ البداية، كانت لديه آراؤه الوجودية الخاصة فيما يتعلق بالحياة والفن، والذات والآخر، والقلق والاغتراب وحرية الاختيار، كما لو أن جميع أعماله مجرد قصيدة واحدة، يتأمل فيها تلك القضايا الكبرى التي شغلت البشرية في القرن العشرين.

والسبب الثاني، هو موقفه من المرأة، اعتماداً على حياته الخاصة، إذ يرى منتقدوه أنه كان يعاني من عقدة النقص، ومن مظهره الجسدي. لكن بتحليل قصائده، وبعض رسائله الشخصية، سنجد أن مشاكله مع النساء كانت جزءاً من صراعه الأوسع مع الحياة كإنسان لا منتمٍ، وهي تنسجم مع موقفه الوجودي تجاه المجتمع والحياة والالتزام. إنه متردد دائماً، عاجز عن الفعل، بل حتى مجرد رد فعل.

ولهذا السبب، كان يجد مهربه، وعزاءه أيضاً، في عملية التسامي، مستخدماً أنواعاً مختلفة من التقنيات، في قصائده الرئيسية على الأقل، لخلق هذه العملية، التي تساعد الشاعر على تجاوز الأشياء التي يواجهها، والأفكار التي يتأملها، والبيئة المحيطة به، ورفعها إلى مستوى التجريد، حيث نشعر بالسعادة والتحرر من واقعنا الكئيب وتناقضات وجودنا. وهكذا، يبني لاركن عالماً خيالياً، تندمج فيه الذات والموضوع في وحدة واحدة. يستخدم لاركن المواد المادية للواقع، التي يجمعها بوعي، كجسر إلى عالم خيالي، يشعر فيه بالانتماء، ويمكنه أن يقول «هذا مكاني المناسب». لهذا السبب، فإن شعر لاركن يبدو أكثر تعقيداً مما يظنه بعض نقاده، لأنه، أولاً، يعمل على مستويات وجودية مختلفة، وثانياً، بسبب عملية إعادة الخلق والتسامي المتطورة التي يستخدمها في محاولاته لإيجاد إجابات للأسئلة الأساسية التي شغلت عصره، ولا تزال تشغل عصرنا.


«الملك فولتير» في مواجهة «ملك الشمس» لويس الرابع عشر

«الملك فولتير» في مواجهة «ملك الشمس» لويس الرابع عشر
TT

«الملك فولتير» في مواجهة «ملك الشمس» لويس الرابع عشر

«الملك فولتير» في مواجهة «ملك الشمس» لويس الرابع عشر

عندما تطبِق الظُلمة الظلماء على أمة من الأمم في لحظة ما من لحظات تاريخها، فإنه لا يعود في الساحة إلا فلاسفة الدرجة الأولى لكي يضيئوا لها الطريق. ولكنهم عندئذ قد يخاطرون بأنفسهم ويدفعون الثمن باهظاً. عندما شعر أرسطو بالخطر يقترب من رقبته أكثر مما يجب قال هذه العبارة البليغة: «لن أدعهم يرتكبون جريمة أخرى ضد الفلسفة. يكفي أنهم قتلوا سقراط». ثم غادر أثينا مسرعاً تحت جنح الظلام. ومعلوم أن سقراط كان بإمكانه أن ينجو بجلده لو أراد. ولكنه رفض الهرب في آخر لحظة على الرغم من إلحاح تلامذته وأصدقائه الشديد عليه. لقد توسلوا إليه وبكوا على ركبتيه وكانوا جاهزين لتهريبه بكل سهولة ولكنه رفض بإصرار. وفضل بذلك أن يواجه مصيره المحتوم ويتجرع السم الزعاف. وكان بذلك أول شهيد في تاريخ الفلسفة ولكنه لن يكون الأخير. وذلك لأن تهديد المثقفين، بل واغتيالهم على مدار العصور أمر شائع لدى مختلف الأمم والشعوب. بل إنهم المستهدف الأول بالاغتيال حتى قبل رؤساء الدول وقادة الجيوش. لماذا؟ لأن جيوش الفكر أخطر على الظلاميين والرجعيين بكثير. فالتغيير الحقيقي وتبديد حلكات الظلام يتم أول ما يتم على أيدي الفلاسفة والمثقفين الكبار. في البدء كانت الكلمة. الكلمة أخطر من الرصاصة. بعدئذ يأتي الفعل والتغيير العملي. الفكر يسبق السياسة ويعلو عليها وليس العكس. ولكن الفكر بهذا المعنى نادر جداً على عكس ما نتصور. كم هو عدد الفلاسفة الذين غيروا وجه التاريخ البشري؟ يعدون على أصابع اليد الواحدة أو اليدين. بعد الثلاثي سقراط وأفلاطون وأرسطو نقفز قفزة كبرى ألفي سنة لكي نصل إلى ديكارت، وسبينوزا، ولايبنتز، وكانط، وهيغل، ونيتشه وهيدغر... ولكن هل يمكن أن ننسى فولتير، وجان جاك روسو وديدرو الذين تصدوا للظلامية الكاثوليكية بكل قوة؟ بالطبع لا. هذا ما يشرحه لنا أستاذ جامعة بروكسل البروفسور ريمون تروسون في كتابه الضخم عن فولتير (798 صفحة من القطع الكبير). على أي حال، هناك شيء لافت للانتباه هو أنه كلما ازدادت حلكة الظلام اسوداداً اقترب موعد الفجر. كلما احتدت واحتدمت انبجس الفكر المنقذ كفلق الصبح. ما أجمل تلك اللحظة. اشتدي أزمة تنفرجي.

ولكن الشيء الملاحظ أيضاً هو أن التغيير الفكري أصعب أنواع التغيير. إنه أصعب من التغيير المادي. وذلك لأنه يصطدم بعقليات قديمة راسخة منذ مئات السنين رسوخ الجبال. من يستطيع أن يقاوم الشيوخ التقليديين المهيمنين على عقول عامة الشعب؟ من يستطيع أن ينتزع الشعب من براثنهم؟ ولكن التغيير الفكري هو الذي يمهد للتغيير المادي المبتغى. دونه لا تغيير سياسياً حقيقياً ولا من يحزنون. ولذلك قال فلاسفة الأنوار في أوروبا ما فحواه: «شعارنا المقبل هو تغيير الفكر والعقليات أولاً». ينبغي تهذيب الجنس البشري وتنويره وتثقيفه وتخليصه من براثن الطائفية والطائفيين. وبعدئذ يصبح كل شيء ممكناً. بعدئذ يجيء التغيير السياسي تحصيل حاصل. يقول لنا ريمون تروسون ما يلي: «كان هناك ملك جبار في القرن السابع عشر هو لويس الرابع عشر. إنه الملقب بـ(الملك الشمس) باني قصر فرساي العظيم. وكان هناك شخص آخر يتربع على عرش الفكر والآداب الفرنسية في القرن الثامن عشر هو: الملك فولتير. وملك الفكر لم يكن يقل أهمية عن ملك السياسة إن لم يزد». ثم يضيف أستاذ جامعة بروكسل الحرة قائلاً: لا تعتقدوا أن زعيم الأنوار الفرنسية كان ملحداً كارهاً للدين في المطلق. انزعوا من أذهانكم هذه الصورة الخاطئة التي شاعت عنه. لقد كان مؤمناً كل الإيمان بالله والقيم المثالية والأخلاقية العليا للدين. وكان يقول حرفياً لا مخلوق من دون خالق، ولا مصنوع من دون صانع. ولكنه لم يكن مؤمناً على طريقة المتعصبين الطائفيين. كان فولتير يفرق بين شيئين لا يستطيع الشعب الفقير الأمي الجاهل أن يفرق بينهما: الدين/ والطائفية. ولكن معظم الناس بمن فيهم عديد المثقفين لا يستطيعون التفريق بينهما. إنهم يعتقدون أنهما شيء واحد. وعن هذا الاعتقاد الخاطئ تنتج المشاكل والمجازر. فالدين في سموه وعلوه وتعاليه غير الطائفية الضيقة المنغلقة على ذاتها داخل جدران التعصب الفئوي الأعمى. وللتعصب حلاوة في القلب لا تعادلها حلاوة. وبما أن المسيحية في عصره كانت لا تزال أصولية متطرفة، فإن الأكثرية الكاثوليكية كانت تضطهد الأقلية البروتستانتية وتكفرها وتبيح إبادتها شرعاً. كان يبرر ذلك شخص لاهوتي كهنوتي خطير يدعى جاك بوسويه (1627 - 1704). وهو أكبر أصولي فرنسي في ذلك العصر وربما في كل العصور. وكان خطيباً مصقعاً لا يشق له غبار. حتى لويس الرابع عشر كان يخشاه أشد الخشية ويحسب له ألف حساب. وقد هيج الملك على البروتستانتيين في خطبة نارية قائلاً له ما فحواه: «هؤلاء البروتستانتيون الزنادقة لا مكان لهم على أرض المملكة الكاثوليكية الطاهرة. فإما أن يتخلوا عن مذهبهم وعقائدهم الخاطئة ويعتنقوا المذهب الكاثوليكي فوراً، وإما أن يبادوا عن بكرة أبيهم. فالمذهب الكاثوليكي البابوي الروماني هو وحده الفرقة الناجية في المسيحية. وهو وحده المذهب الصحيح المرضي عنه عند الله. وكل ما عداه كفر وهرطقة وخروج على شرع الله. المسيحي الحقيقي الشرعي لا يمكن أن يكون إلا أكثرياً كاثوليكياً» (بين قوسين: نقول ذلك على الرغم من أن الأقلية البروتستانتية كانت هي الأقرب إلى المفهوم العقلاني والحداثي المتسامح للدين وأن الأغلبية الكاثوليكية كانت هي الأقرب إلى المفهوم التكفيري الرجعي الشديد التعصب والعدوانية. ولكن الحق دائماً مع الأقوى. كان ذلك عصر الظلمات الفرنسية...). ينبغي العلم أن الشعب الفرنسي كان كاثوليكياً بنسبة 80 في المائة والباقي أقليات بروتستانتية. وقد نفذ الملك الجبار كلامه حرفياً واجتاح المناطق البروتستانتية وحصلت أكبر حرب أهلية في تاريخ فرنسا. ولا يزال الفرنسيون يخجلون بها ويتأسفون عليها ويعتذرون عنها حتى اللحظة. في ذلك الوقت لم يكن هناك رأي عام دولي يحمي سكان الأقليات ويمنع المتطرفين من الاختلاء بهم وإعمال المجازر فيهم... نحن في القرن السابع عشر لا في القرن الحادي والعشرين.

هذا التعصب الأصولي التكفيري الأعمى هو الذي نهض فولتير ضده بكل قوة وحاربه طيلة حياته كلها. كانت تلك هي قضيته المركزية الأولى التي لا قضية بعدها أو قبلها. قضية التنوير كانت أعز عليه من روحه. نقول ذلك على الرغم من أنه كان أكثرياً كاثوليكياً مثل جاك بوسويه ولا يعاني عقدة الاضطهاد على عكس مثقفي الأقليات. وهنا تكمن عظمته. فلا شيء كان يجبره على محاربة أساطين مذهبه وطائفته القوية الجبارة المعتدة بعددها وعديدها. لا شيء كان يجبره على التصدي لهم وبخاصة أنهم كانوا قادرين على اغتياله بكل سهولة. يكفي أن يرسلوا إليه أحد الجهلة المهووسين بالتعصب لكي يرديه قتيلاً. ولهذا السبب كان يتخفى عن الأنظار لبعض الوقت عندما تحمّر عليه الأعين أكثر مما يجب. كان «ينزل تحت الأرض» كما يقال ثم سرعان ما يعود إلى السطح بعد شهرين أو ثلاثة لكي يناوشهم مجدداً ويواصل المعركة ضدهم. ولا شيء كان يجبره على الدفاع عن الأقليات اللهم إلا ضميره الأخلاقي بصفته مثقفاً عالمياً يكره الطائفية والطائفيين. لهذا السبب ظل اسمه لامعاً على صفحة التاريخ. وذلك لأنهم حتى في الصين، حتى في الهند واليابان، يعرفون من هو فولتير هذا، ناهيك عن العالم العربي. إنه لشيء ممتع أن يغطس المرء في كتاب البروفسور ريمون تروسون الضخم هذا. نقول ذلك وبخاصة أنه مكتوب بأسلوب ناصع وتبحر علمي مكين. فهو من أعظم الأكاديميين المتبحرين في العلم. أنا شخصياً أغطس فيه بكل استمتاع في نهايات هذا العام المنصرم. كما وأغطس في كتبه الأخرى لأنه مختص كلياً بفلسفة الأنوار في القرن الثامن عشر. لماذا أركز كل هذا التركيز على تلك الفترة من تاريخ أوروبا؟ لأني أعتقد أن العالم العربي يعيش في ذلك الحز الفاصل بين العصور الوسطى والعصور الحديثة. إنه يعيش في عصر فولتير لا في عصر سارتر، وفوكو وبورديو وبقية مثقفي فرنسا الحاليين، حيث اختفت المشكلة الطائفية نهائياً. فلم يعد هناك كاثوليكي واحد يحقد على بروتستانتي أو العكس. هذه هي بعض جوانب المعركة الكبرى التي يشرحها لنا البروفسور ريمون تروسون بكل تمكن واقتدار. نسيت أن أقول إن كتابه الآخر عن جان جاك روسو يشمل ثلاثة مجلدات كبرى. مئات الصفحات، آلاف الصفحات، كنز الكنوز.


إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر
TT

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

أعلنت لجنة الجائزة العالمية للرواية العربية (المعروفة بـ«البوكر العربية») صباح اليوم القائمة الطويلة لدورة عام 2026. وتم اختيار الـ16 المرشحة من بين 137 رواية، ضمن 4 روايات من مصر، و3 من الجزائر، و2 من لبنان، ورواية واحدة من السعودية، والعراق، والمغرب، وسوريا، واليمن، وتونس، وعمان. وتنوعت الموضوعات والرؤى التي عالجتها هذه الروايات كما جاء في بيان اللجنة، وهي:

«ماء العروس» للسوري خليل صويلح، و«خمس منازل لله وغرفة لجدتي» لليمني مروان الغفوري، و«الاختباء في عجلة الهامستر» للمصري عصام الزيات، و«منام القيلولة» للجزائري أمين الزاوي، و«عمة آل مشرق» لأميمة الخميس من السعودية، و«عزلة الكنجرو» لعبد السلام إبراهيم من مصر، و«أيام الفاطمي المقتول» للتونسي نزار شقرون، و«البيرق» للعُمانية شريفة التوبي، و«فوق رأسي سحابة» للكاتبة المصرية دعاء إبراهيم، و«في متاهات الأستاذ ف. ن.» للمغربي عبد المجيد سباطة، و«الرائي: رحلة دامو السومري» للعراقي ضياء جبيلي، و«غيبة مي» للبنانية نجوى بركات، و«أصل الأنواع» للمصري أحمد عبد اللطيف، و«حبل الجدة طوما» للجزائري عبد الوهاب عيساوي، و«الحياة ليست رواية» للبناني عبده وازن، و«أُغالب مجرى النهر» للجزائري سعيد خطيبي.

وستُعلَن القائمةُ القصيرة للجائزة في فبراير (شباط) المقبل، والرواية الفائزة في التاسع من أبريل (نيسان) 2026 في احتفالية تُقام في العاصمة الإماراتية أبوظبي.