تبدو قاعة المحاضرات ذات الإضاءة الخافتة أشبه بفصل دراسي داخل إحدى المدارس الثانوية. على الجهة المقابلة من الشارع، والذي يبلغ اتساعه تقريباً اتساع ملعب كرة قدم، يوجد متجر «ألدي» الشهير، الأمر الذي يعزز من الشعور بكون المنطقة عادية تماماً لا يميزها شيء عن أي ضاحية حضرية أخرى. إلا أن هذا المكان في حقيقته ليس بيئة مدرسية تقليدية، فهنا يكمن قلب «لا ماسيا»، الأكاديمية الحديثة لنادي «برشلونة» والتي عاونت في رعاية وتنمية مواهب الجيل الذهبي من اللاعبين في تاريخ النادي. هنا، ترعرعت مواهب ليونيل ميسي وتشافي هيرنانديز وتشارلز بويل وأندريس إنييستا وباقي ما يعرف باسم «فرقة تيكي تاكا» والتي تمرس أبناؤها في فن خنق لاعبي الفريق الخصم عبر مناورات لا نهاية لها بالكرة.
في هذا الصدد، أكد مارك كارمونا، رئيس شؤون التثقيف التدريبي داخل برشلونة، أن «هذا الأمر ليس مجرد ضربة حظ، لكن الحقيقة أننا نملك كثيراً من النجوم في ذات الوقت. لقد فاز المنتخب الإسباني بثلاث بطولات متعاقبة بين عامي 2008 و2012 وتزامن ذلك مع العصر الذهبي لبرشلونة».
وفي أثناء جلوسه داخل قاعة المحاضرات الرئيسية في «لا ماسيا» بعد يومين من بداية إسبانيا الفوضوية ببطولة كأس العالم عندما تعادلت بنتيجة 3 - 3 أمام البرتغال، استفاض كارمونا في شرح واحدة من أبرز اللحظات في تاريخ أكاديمية «لا ماسيا»، والتي أنشئت عام 1979 بناءً على إصرار من جانب يوهان كرويف. جاءت هذه اللحظة عام 2010 عندما هيمن تسعة من أبناء «لا ماسيا» على المنتخب الإسباني الذي كتب التاريخ بفوزه بأول بطولة كأس عالم في تاريخ إسبانيا. وخلال العام ذاته، انضم اثنان من هؤلاء اللاعبين (تشافي وإنييستا) إلى خريج آخر من «لا ماسيا»، وهو أرجنتيني قصير القامة، في قائمة أبرز المرشحين لجائزة الكرة الذهبية.
وكانت تلك المرة الأولى والوحيدة التي ترشح فيها ثلاثة لاعبين من نفس النادي لهذه الجائزة. في نهاية الأمر، كانت الجائزة من نصيب ميسي -وكانت المرة الثانية بالنسبة إليه من بين إجمالي خمس مرات حتى الآن. واللافت كذلك أن النادي دائماً ما يشارك بلاعب واحد على الأقل في قائمة المرشحين لنيل هذه الجائزة الرفيعة، منذ عام 2004. من ناحيته، قال كارمونا: «نعمل اليوم على تكرار هذه الفترة، لكنه أمر صعب للغاية».
وقد تجلت هذه الصعوبة على نحو خاص في السنوات الأخيرة. جدير بالذكر أنه في غضون 12 شهراً فقط من افتتاح «لا ماسيا» عام 2011، دخل المدرب تيتو فيلانوفا التاريخ باختياره التشكيل الأساسي بأكمله من خريجي «لا ماسيا». إلا أنه منذ ذلك الحين لم يتمكن سوى سيرجيو روبرتو من تثبيت وجوده بالفريق الأول.
وبعد ما يزيد قليلاً على عامين، أقر النادي «لا ماسيا 360»، والتي جاءت بمثابة محاولة لإنتاج الموجة التالية من اللاعبين الأفذاذ في وقت يتطور وجه كرة القدم ويتغير. الآن، يعمل النادي على توسيع نطاق توجهه الشمولي لتنمية مهارات اللاعبين المقيمين، البالغ عددهم اليوم 76 لاعباً صغير السن، ليشمل 550 لاعباً آخر تقريباً داخل برنامج الأكاديمية عبر 5 رياضات احترافية: كرة القدم (رجال ونساء)، وكرة السلة، وكرة القدم الخماسية، وكرة اليد، وهوكي الجليد.
وقال كارمونا: «هناك ما يقرب من 70 لاعباً صاعداً يعيشون هنا وينامون هنا ويأكلون هنا ويذاكرون دروسهم هنا ويتدربون هنا. ذات يوم، قرر قسم شؤون الاستراتيجيات أنه إذا كنا نولي الرعاية لهؤلاء الرياضيين الـ70 في شتى النواحي، فلماذا لا يفعل برشلونة الأمر ذاته مع جميع اللاعبين الناشئين المحترفين؟ وعليه، نحاول اليوم تقديم ذات المستوى من الاهتمام للاعبين غير المقيمين داخل الأكاديمية. ورغم أنهم لا يعيشون هنا، فإننا نحاول السيطرة على ظروفهم الأسرية والدراسية أيضاً».
وتبدو فلسفة النادي واضحة وكذلك التزامه بها. من جهته، يركز «برنامج 360» على الطفل بكامل ما يتعلق به وكذلك الخصال النفسية والاجتماعية الواجب توافرها كي يصبح مؤهلاً لأن يكون عضواً في برشلونة: التواضع والاجتهاد والطموح والاحترام والالتزام بالعمل الجماعي.
وشدد كارمونا على أنه «بالنسبة إلينا، يحمل السلوك أهمية كبيرة للغاية. يجب أن تحقق الفوز من خلال احترامك للخصم والحكم وقواعد اللعب، وكذلك احترام كنوزنا الكروية الثلاثة: الاستحواذ على الكرة، وموقع الكرة، والضغط على الخصم بعد فقدان الكرة. ويبدو هذا واضحاً لدى مشاهدة أي مباراة لبرشلونة».
من ناحية أخرى، يتألف مبنى الأكاديمية من خمسة طوابق واسمه الكامل «لا ماسيا سنتري دي فورماسيو أوريول تورت»، ويقع في قلب المجمع التدريبي للنادي، «سيوتات إسبورتيفا خوان غامبر»، الواقع على بعد قرابة ثلاثة أميال إلى الشرق من ملعب «كامب نو». وقد تحولت هذه الأكاديمية إلى ما يشبه الجهاز العصبي المركزي لنادي برشلونة.
يؤدي الطرف الخلفي من الممر الأرضي إلى مطعم قبل أن يمهد باب الطريق أمام ساحة لعب خارجية تجسد التركيز على كل من التعلم واللعب. وبجوار طاولة كرة قدم تقف طاولة كبيرة الحجم لتنس الطاولة تتميز بشكل بيضاوي وتحمل علامات لملعب كرة قدم ويمكن أن تشهد مباريات بين اثنين على كل طرف. وعن ذلك، قال كارمونا: «هذا شبيه تماماً بما تراه في المتنزهات العامة في برشلونة».
من ناحية أخرى، فإن الاستثمارات التي وجهها ريال مدريد بقيمة 100 مليون يورو إلى أكاديميته، ناهيك بهيمنة فريقه الأول خلال الفترة الأخيرة على الساحة الأوروبية، تثير سؤالاً صعباً حول ما إذا كانت كرة القدم بوجهها الحديث خلّفت وراءها توجه برشلونة القائم على المثالية. من ناحيته، سارع كارمونا للدفاع عن الفلسفة التي يعتمد عليها النادي في التعامل مع تدريب الفئات العمرية المختلفة داخل «لا ماسيا»، بدءاً من أقل من 10 سنوات حتى الفريق الأول.
وقال: «خلال الموسم، يمكنك مشاهدة جلسة التدريب لفريق أقل من 10 سنوات، ثم جلسة تدريب أقل من 16 عاماً ثم الفريق الثاني لدى برشلونة، وستجد أنها جميعاً متشابهة. تختلف التدريبات فقط لاختلاف الفئات العمرية للاعبين، لكن الفكرة الرئيسية التي تدور حولها جلسة التدريب واحدة، بجانب أن أنماط التدريبات تتشابه للغاية. يمكنك أن تشم ذلك وأن ترى ذلك خلال التدريبات، هذا باختصار الحامض النووي لنادينا».
وأضاف: «يتعلق الأمر برمّته بمباريات داخل مساحات صغيرة، والكثير من المقطوعات والمباريات المعتمدة على الاستحواذ، وكثير من المباريات بأربعة لاعبين في مواجهة أربعة، وخمسة في مواجهة خمسة. وبذلك، يمكنك ترى أن الكرة مهمة للغاية. ويتركز الاهتمام على مهارات تمرير الكرة والسيطرة عليها والتحرك بها... هذا هو الحامض النووي بالنسبة إلى كرة القدم. ويحاول المدربون من جانبهم نقل إدراك ماهية هذا الحامض النووي إلى اللاعبين من جميع الأعمار».
وفي أثناء الحديث، تطرقنا إلى مسألة الفوز الذي حققه ريال مدريد أمام ليفربول في نهائي بطولة دوري أبطال أوروبا في مايو (أيار). وكان السؤال: هل بمقدور برشلونة تغيير أسلوب لعبه كي يحقق الفوز؟ أقر كارمونا بأنه: «أعتقد في بعض الأحيان ربما نحتاج نحن إلى لاعب مثل سيرجيو راموس لدينا. على مدار المواسم الخمسة الأخيرة، خرج برشلونة من دور ربع النهائي لأبطال أوروبا. لذا، يتعين علينا النظر في فكرة أن أسلوب لعبنا يشكل خياراً جيداً داخل بطولة الدوري الإسباني، فقد فاز برشلونة بسبع بطولات للدوري الإسباني من إجمالي الـ10 الأخيرة. ومع هذا، فإنه ربما لا يكون كافياً للمنافسة في أوروبا لأن خصومنا يضمون في صفوفهم لاعبين كباراً للغاية».
جدير بالذكر أن كارمونا كان مدرباً ناجحاً للغاية لفريق برشلونة للكرة الخماسية، قبل أن يتولى مسؤولية ضمان التزام جميع المدربين العاملين مع الناشئين داخل برشلونة بالحفاظ على «الحامض النووي» أو البصمة المميزة للنادي. والمعروف أن فوائد الكرة الخماسية جرى تأكيدها من جانب ميسي وتشافي وإنييستا وعدد من اللاعبين الكبار الآخرين. ومن الواضح أن برشلونة يحاول كذلك النجاح على صعيد الكرة الخماسية. وعن هذا، قال كارمونا: «في الكرة الخماسية يزيد معدل لمس الكرة والمشاركة والاتصال بالكرة. في بعض الأحيان في كرة القدم يمكن أن تلمس الكرة مرة كل ثلاث دقائق. هذا أسلوب جيد للغاية للعب الكرة الخماسية».
من ناحيته، شرح خوردي توراس، نجم برشلونة والمنتخب الإسباني السابق للكرة الخماسية والذي يتولى حالياً قيادة تدريب الناشئين على الكرة الخماسية داخل النادي، كيف أن تنفيذ سيناريوهات واقعية للمباريات أمر حيوي للغاية بالنظر إلى أهمية البطولة القادمة. وقال: «في هذه المرحلة من البطولة، سنعمل أكثر على الجوانب الاستراتيجية والكثير من المواقف الواقعية التي يمكن أن تواجهنا في أثناء المباريات. وتبقى الفلسفة التي نلتزمها واحدة وهي تلك التي يفرضها النادي: ضرورة الفوز من خلال العمل كقدوة في كل شيء، وهذا تحديداً ما يجعلنا مختلفين».
ويبدو هذا الالتزام بكرة القدم الخماسية للمحترفين واحدة من نقاط الاختلاف الأخرى بين برشلونة وريال مدريد. كان الأخير قد داعبته فكرة اقتحام مجال الكرة الخماسية في منتصف ثمانينات القرن الماضي، لكن لم يكن لديه فريق محترف.
وقال كارمونا: «يرغب ريال مدريد في أن يكون أفضل نادي كرة قدم في أوروبا، وحقق هذا بالفعل. هنا في برشلونة لدينا شعور خاص واضح على مستوى جميع الفئات العمرية وأقسام الهواة كذلك، وهذا الشعور يمثل هويتنا. وتمثل جميع الرياضات بمختلف أنواعها جزء من هويتنا».
وأضاف: «الحامض النووي المميز لريال مدريد هو الفوز، أما الحامض النووي المميز لبرشلونة فهو التألق في الأداء، لكن تبقى الحقيقة أنه يتعين علينا الفوز أيضاً».
«لا ماسيا» مركز صناعة المواهب يستعد لإطلاق الجيل الذهبي الثاني لبرشلونة
داخل الأكاديمية التي قدمت أسماء لامعة مثل ميسي وإنييستا وتشافي
«لا ماسيا» مركز صناعة المواهب يستعد لإطلاق الجيل الذهبي الثاني لبرشلونة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة