11 سبتمبر... العيد الحركي لتنظيم «القاعدة»

الظواهري محاولاً بيع إرث بن لادن في أسواق العنف المزدحمة

الظواهري وابن لادن
الظواهري وابن لادن
TT

11 سبتمبر... العيد الحركي لتنظيم «القاعدة»

الظواهري وابن لادن
الظواهري وابن لادن

خرج أيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة، دون أن يفاجئ أحداً على مستوى التوقيت، فالكل مترقب؛ الأتباع والمناصرون ووسائل الإعلام والمحللون الاستراتيجيون، إذ جرت العادة أن يستثمر التنظيم الإرهابي مناسبة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، للتأكيد على تسيده المشهد العنفي، في سنوات خلت، ثم على بقائه على قيد الحياة إبان صعود تنظيم داعش، واليوم على وقع انكسارات الخلافة «الداعشية» تنبعث «القاعدة» مجدداً في مناطق متعددة، وتحاول أن تأتي بالجديد لملء الفراغ الذي سببه خفوت الصوت «الداعشي» وانحساره.

بعد سبعة عشر عاماً على «حدث الأحداث»، كما تحرص الولايات المتحدة أن تبقيه في صدارة الذاكرة الجمعية، باعتباره حدثاً كونياً، وبالجذوة والحماسة نفسها يحرص تنظيم القاعدة على إعادة الاعتبار لغزوته الأضخم في مسيرته الطويلة، وتحولاته من تنظيم جمع شتات العرب وميّزهم عن الأفغان إلى ابتلاع لتيارات جهادية مسلحة محلية، ثم لقاء بن لادن والظواهري، والاتفاق مع قادة عسكريين على تصدير الثورة «القاعدية»، وجعلها تياراً معولماً يستهدف جغرافيا العالم، ويعبر انتحاريوه الحدود ويتمركزون في شكل تنظيمات صغيرة ومعسكرات تجنيد في كل قارات العالم.
تنظيم القاعدة بعد رحيل بن لادن خسر رمزية الشخصية، ليعود الظواهري ويحقنها في الحدث (11 سبتمبر) ليتحول إلى ما يشبه العيد الحركي للتنظيم، كما هو الحال في أعياد مشابهة لتنظيمات راديكالية ثورية، لكنها سرعان ما تحيلها إلى أعياد استقلال وطنية، في حين أن تنظيم القاعدة يستلهمه كمحرك لإعادة شرعيته في الساحة العنفية «الجهادية»، خصوصاً في مناطق التوتر في العراق وسوريا التي ساهم بقاء تفجر الأوضاع فيها في ولادة تنظيمات عديدة محلية تحاول النأي عن «القاعدة» و«داعش»، كي لا تدخل بوابة الشهرة وهو ما يعني الاستهداف والتوصيف القانوني بالإرهاب. زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري يجتهد في تعويض كاريزما بن لادن وكلماته المرتجلة ذات التأثير النفسي البالغ على أنصاره، بأن يصور فيديوهات يقرأ فيها من شاشة أمامه، حيث تفضحه عيناه وهو يحاول التحديق في الكلمات، لكن محتوى هذه الكلمات، سنة بعد سنة، وبحسب وضعية تنظيم القاعدة على الأرض، يتصاعد على مستوى دقة الرسائل التي يوجهها ودخول شرائح جديدة من المستهدفين بخطابه، كما رأينا في هذا العام.
كلمة الظواهري هذه السنة، ربما كانت أهم كلماته وأكثرها تضميناً للرسائل المبطنة، فهو خطاب حركي نموذجي على مستوى اللغة بتقديم رسائل مزدوجة وإيصال رسائل متنوعة لشرائح مختلفة، إضافة إلى أنه بُني على استراتيجية واضحة في اختيار المفردات والخطاب، وهو ما يرقى به من مجرد خطاب ردة الفعل إلى خطاب تأسيس الفعل والتحريض على اتخاذ موقف، كما هو الحال في خطابات زعيم التنظيم السابق أسامة بن لادن، وإن كان الظواهري يفتقد الكثير من الرمزية والكاريزما على مستوى الإلقاء واللغة الجسدية.
الظواهري في خطاب هذه السنة استبدل ذكر أحداث 11 سبتمبر بالتذكير بالهجمات الأميركية على أفغانستان في استثمار لحالة التردي في الحالة الأفغانية، الذي ما زال مستمراً مع فشل في السيطرة على حركة طالبان، أو تقليم أظافرها، وجرها إلى طاولة الحوار.
وحين عرج على تحليل العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب، لجأ إلى استخدام مفردات الخطاب الأصولي السياسي، مذكراً بصدام الحضارات، وأن الحرب دينية صليبية، وليست سياسية أو اقتصادية، وأنه يجب أن يتضافر الجميع حتى من لا يؤمن بـ«القاعدة» في التصدي لهذه الحملة الشرسة ضد الإسلام، حسب قوله، داعياً ولأول مرة زعماء المسلمين، وهي لفظة هجينة على خطاب «القاعدة»، الذي لا يعترف بشرعية أي دولة إسلامية، وربما هذا الإبهام هو محاولة لفتح باب التأويل تجاه تحول موقف «القاعدة» من إردوغان تحت ضغط الشعبية الكبيرة داخل الإسلام السياسي وجماعة «الإخوان» الأم الرؤوم لـ«القاعدة» والتنظيمات العنفية التي انشقت عنها، لا سيما أن إشارة الحرب الاقتصادية تحيل إلى تحليلات إسلاموية مجنحة تجاه أزمة «الليرة التركية».
في الخطاب ذاته، دعا الظواهري «المجاهدين» إلى الانتقال إلى شمال غربي أفريقيا، وليس أفغانستان، ولفظة «المجاهدين» عادة ما يشير بها الظواهري إلى شريحة «العائدين من أفغانستان»؛ هذه الشريحة التي تعتبر رأس مال «القاعدة»، بعد أن أخفقت في تجنيد الأجيال الجديدة من المتعاطفين مع التنظيمات الإرهابية، التي عادة ما تميل إلى منافس «القاعدة»، تنظيم داعش الأكثر وصولاً إلى هذه الفئة، عبر قدرته على الاستقطاب الرقمي، وقطيعته مع مفهوم «المرجعية» أو حتى رمزية قادة «الجهاد»، طلب الظواهري منها السفر إلى المنطقة الجديدة التي تستثمرها «القاعدة»، وهي شمال غربي أفريقيا بشكل أساسي.
اللافت في كلمة الظواهري أنه لم يتحدث عن أحداث سياسية، أو قضايا تحشيدية متصلة بنشاط تنظيم القاعدة في مناطق التوتر، أو التعليق على جديد الأزمات المتصلة بتلك المناطق في العراق وسوريا وشمال غربي أفريقيا، بل أشار إلى حدثين أساسيين لا يتماسان مع تأثير التنظيمات الإرهابية، وهما: أزمة نقل السفارة إلى القدس، وأزمة الروهينغا، ويعود ذلك في هذا التوقيت إلى استثمار كل الأحداث الساخنة التي تحظى بتعاطف عدد أكبر من الشرائح يتجاوز حتى العالم الإسلامي، باعتبار أنها مظالم؛ لكثيرٍ من الدول والأحزاب والجمعيات الحقوقية موقفٌ أخلاقيٌ وإنسانيٌ منها.
الظواهري، في كلمته، خالف السائد لدى تنظيم القاعدة من عدم التعرض لملالي طهران التي تحتضن قيادات التنظيم الشابة، ومنها نجل بن لادن، فقام بالهجوم على إيران عبر نقد مشروع الحوثيين باعتباره جزءاً من المشروع الصفوي، كما وصفه، لكنه عاد ليحمل الولايات المتحدة الأميركية السبب في بقاء الحوثيين في اليمن، وأنها تدعمهم رغم عداء الحوثيين لهم، وترديدهم «الموت لأميركا»، وأبعد من ذلك اعتبر أن الأزمة السورية هي أيضاً مخطط أميركي، وما إيران وروسيا و«حزب الله» إلا أدوات للمخطط الصليبي في المنطقة الذي تقوده أميركا حصراً. ورغم سذاجة مثل هذا التناول السياسي وسطحيته، لكن الظواهري وغيره من قيادات ومنظري «القاعدة» يصرّون عليه لأسباب استراتيجية تتصل بتركيز الاستهداف، وتوحيد الجهود ضد الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، واعتبارهم عدوها الأول، كما أن توحيد منطق «الاستعداء» والتركيز على استهداف أميركا أكثر تأثيراً عند أنصار «القاعدة» وأجدى في استقطاب المقاتلين والكوادر الجديدة.
على مستوى اللغة، استخدم أيمن الظواهري، في كلمته المكتوبة والمعدة سلفاً، لغة مغايرة للغة «القاعدة» أو منافسه تنظيم داعش، فهو يبتعد عن العبارات اليقينية والحاسمة، ويحاول استخدام الأسلوب الحجاجي الفكري أو التحليلي، وتتكرر عبارات وأساليب غير مألوفة، فالعنوان يطرح سؤال: كيف نواجه أميركا؟ وفي المتن نعثر على عبارة «فهم طبيعة عداء الكفار».
خطاب الظواهري يعكس محاولة حثيثة منه لإبقاء جذوة «القاعدة» مشتعلة على مستوى الإعلام الذي يرى، كما قال ذات مرة، أن نصف معركة «المجاهدين» تكمن فيه، وهو بهذا التنقل بين القضايا والمواقف والرسائل المزدوجة واللغة ذات الطابع السياسي يريد أن يقدم تنظيم القاعدة ككيان مستقل له رأيه في الأحداث السياسية معلقاً وشارحاً ومحذراً، معتمداً على إرثه التاريخي الذي كانت ذروته تفجير برجي التجارة، في محاولة لبيع تلك الصورة التي ما زالت عالقة في الأذهان ودلالاتها المكثفة في سوق العنف المزدحم جداً بالتنظيمات ومناطق التوتر وبؤر الفوضى.


مقالات ذات صلة

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أفريقيا أنصار مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي يحضرون مسيرة حاشدة في أثناء فرز نتائج الانتخابات الرئاسية (إ.ب.أ)

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

مباحثات جرت، الجمعة، بين الرئيس الروسي ونظيره السنغالي، وتم خلالها الاتفاق على «تعزيز الشراكة» بين البلدين، والعمل معاً من أجل «الاستقرار في منطقة الساحل»

الشيخ محمد (نواكشوط)
شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.