المعركة ضد الإرهاب العالمي لا تزال مشتعلة

بعد 17 عاماً من هجمات سبتمبر

قبل 17 عاما هزت هجمات سبتمبر أساسات الأمن والاستقرار العالميين
قبل 17 عاما هزت هجمات سبتمبر أساسات الأمن والاستقرار العالميين
TT

المعركة ضد الإرهاب العالمي لا تزال مشتعلة

قبل 17 عاما هزت هجمات سبتمبر أساسات الأمن والاستقرار العالميين
قبل 17 عاما هزت هجمات سبتمبر أساسات الأمن والاستقرار العالميين

قبل سبع عشرة سنة هز الإرهاب الأسود أساسات الأمن والاستقرار العالميين، وذلك حين أقدم تنظيم القاعدة على هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وضرب بجنون نيويورك وواشنطن. والشاهد أنه منذ ذلك التاريخ اشتعلت الحرب ضد الإرهاب، سواء من قبل الولايات المتحدة الأميركية بنوع خاص، أو من بقية دول العالم. ورغم أن واشنطن شنت حربين كبريين في أفغانستان والعراق، والكثير من العمليات السرية، ومع أن غالبية دول العالم قد بلورت خططا كثيرة للتحدي والتصدي، إلا أن طاعون القرن الحادي والعشرين، متمثلاً في العنف والقتل، بات متجاوزاً للأنساق التي عاشت في القرن الماضي، وتركت إرثاً سيئاً للذي يليه متخطيا الحدود.
هل يحق لنا والحال هذه التساؤل هل نجح العالم أم أخفق في مواجهة الإرهاب الصاعد والأصوليات الخبيثة في العقدين الماضيين؟
ليكن الجواب من خلال الحقائق الأحدث، وصولاً إلى التحليلات، وفي المقدمة من هذه وتلك ما نشره زعيم تنظيم القاعدة في الوقت الراهن أيمن الظواهري، على هامش ذكرى الحادي عشر من سبتمبر، من تسجيل مصور، يحث فيه أتباعه ومناصريه على شن هجمات أخرى على الولايات المتحدة الأميركية.
التسجيل الذي بلغت مدته 23 دقيقه، حث فيه الظواهري على إعلان حرب شاملة على أميركا، وتدمير اقتصادها وجيوشها، وواصفاً إياها بأنها «العدو الأول للمسلمين»، وخلال كلمته عدد الظواهري (14) نقطة عن الطريقة التي تخوض بها أميركا حروبها، في محاولة لتشجيع أتباعه على شن هجمات أخرى على واشنطن، ومضيفاً: «إخواني المسلمين، المعركة ضد أميركا أصبحت حتمية، فهي تضعنا أمام خيارين: إما شرف المواجهة بضراوة، أو الذل وقبول العار، ولن نقبل بحياة الذل بعون الله».
لم يتم سحق أو محق «القاعدة» بعد سبع عشرة سنة من الحرب الأميركية على عناصر تنظيمها في أفغانستان، وبقية دول العالم، فلا يزال الظواهري يتحدث وإن أعوزته كاريزما الخطاب الذي كان لبن لادن، فيما يشير أحد محللي شؤون الأمن القومي الأميركي «بيتر بيرغن»، والذي ينظر إليه كمرجعية في مطاردة الإرهاب، إلا أن «حمزة بن لادن»، في طريقه لأن يصبح زعيم الجيل القادم للقاعدة، ما يعني أن حلقات جديدة من الإرهاب في طريقها للظهور، ما يجعل العالم أقل أمناً وأماناً.
من رحم القاعدة المؤدلجة، خرج تنظيم أكثر توحشاً، في أعماله وأوسع رؤية في أهدافه، فكان تنظيم داعش، ورغم الهزائم الساحقة التي تعرض لها، إلا أنه في الأعم الأغلب، سيعود بشكل آخر... لماذا؟
هنا الكارثة وليست الحادثة، فلقد أصبح الإرهاب الجديد فكرة لها أجنحة تطير عبر وسائط الاتصال الحديثة، وتسخر التكنولوجيا المتقدمة لخدمتها، ولم يعد المشهد في حاجة لتراتبية تنظيمية، تستدعي إصدار بن لادن أوامره على سبيل المثال لخالد شيخ محمد، ومحمد عطا، لتنفيذ هجمات نيويورك وواشنطن.
نهار الثلاثاء الحادي عشر من سبتمبر الجاري كانت قناة «سي بي إس» الأميركية تستضيف مدير مكتب التحقيقات الاتحادية (إف بي آي) كريستوفر راي، والذي أقر بأن خطر الإرهاب أضحى يواجه العالم في كل مكان، ويمتد من الساحل إلى الساحل، ويخترق الكرة الأرضية من شرقها لغربها، ولم يعد مقتصراً على تهديد نيويورك فقط.
هل كان للحادي عشر من سبتمبر أن يتكرر من جديد خلال الأعوام الماضية؟ الثابت أنه كانت هناك محاولات دؤوبة ومستمرة من قبلي التنظيمات الإرهابية لتكرار الحدث، بل إن الخوف والرعب الأكثر هولا لدى الأجهزة الأمنية حول العالم، يتمثل في احتمالات حيازة تلك الجماعات أسلحة تدمير شاملة سواء نووية أو كيماوية، ورغم أن الكثير جداً من العمليات تم إبطالها إلا أن بعض المذابح البشرية، جرت بها المقادير، أميركياً، وأوروبياً، وعربياً.
وربما كان من الجائز أن يوقع الإرهاب ضحايا أكثر لولا الاكتشاف المسبق للكثير من العمليات الإرهابية، وإلقاء القبض على عدد وافر من الإرهابيين.
يشير كريستوفر راي، في حواره المتلفز المتقدم إلى أنه خلال العام الماضي وحده نفذ مكتب التحقيقات 120 حالة اعتقال تتعلق بالإرهاب، فضلاً عن إجراء الأجهزة الأمنية ما يقرب من خمسة آلاف تحقيق مع عدد من المتطرفين بينهم ألف من المواطنين المحليين.
لم يكن المشاهدون أميركياً وعالمياً يدرون بأن الحادي عشر من سبتمبر كاد أن يتكرر لسبب أو لآخر في الداخل الأميركي، فقد تم إحباط مخطط للهجوم على إحدى المناطق المكتظة بالأسواق في مدينة سان فرانسيسكو، بولاية كاليفورنيا، كان له أن يوقع عدة مئات من الضحايا، إضافة إلى مركز تسوق في مدينة ميامي السياحية بولاية فلوريدا.
أكثر من ذلك، فقد أدت يقظة الأجهزة الأمنية الأميركية إلى قطع الطريق على عمليات تجنيد وحشد كانت تقوم بها طالبة جامعية في ولاية مينيسوتا الأميركية، لحث زملائها في الصف الدراسي للالتحاق بتنظيم القاعدة، وحركة الشباب التي تتخذ من الصومال مقراً لها.
على أن القارعة التي يتحدث به الركبان هذه الأيام، هي الإرهاب الذي يمكن أن يضرب الفضاء السيبراني، ويوماً تلو الآخر تتكشف المجالات التي تعمل فيها الجماعات الإرهابية، عبر العالم الرقمي والإلكتروني، وبعيداً عن الوجوه المرئية، ما يعني إرهاب الأشباح، وهذا خطر أشد هولا، إذ يمكن للإرهابيين الولوج عبر الشبكات الإلكترونية والتلاعب بالبنى التحتية للدول، كشبكات الكهرباء والمياه، الطرق والمواصلات، الموانئ والمطارات، أما الكارثة فهي القدرة على اختراق الشبكات العسكرية، وقواعد الصواريخ، والمطارات الحربية، وأنظمة تسيير السفن والأساطيل، وجميعها اليوم باتت تتحكم فيها أجهزة استشعار لا سلكية وفضائية عن بعد.
هل يمكن القطع بأن إرهاب الحادي عشر من سبتمبر كان نسخة أولية غير مطورة عما هو حادث الآن حول العالم وبعد عقدين من الذكرى الأليمة تقريباً؟
الجواب يقتضي نظرة أكثر شمولية لكافة مناحي الحياة، والحقيقة تقتضي الإقرار بأن عقدين تغيرت فيهما أشكال الإرهاب المحتمل إلى الأخطر، في حين بقيت القوى المقاومة والمطاردة والولايات المتحدة الأميركية في مقدمها تتعامل مع الإرهاب والإرهابيين عبر المقاربات التقليدية، ومن دون إعادة قراءة للأسباب التي تدفع في طريق ارتكاب المزيد من الأعمال الإرهابية، وفي مقدمتها الخلط الواضح والفاضح بين ما هو ديني وما هو دنيوي... ماذا نعني بذلك الحديث؟
باختصار غير مخل يمكننا الإشارة إلى أن جزءاً كبيراً من أخطاء إدارة الرئيس الأميركي الأسبق «جورج ووكر بوش» في محاربته للإرهاب سيما بعد أحداث الثلاثاء الأسود، يعود إلى الخطاب السياسي والإعلامي الذي تناول به القضية، فعشية تلك الهجمات النكراء، كان بوش الابن يستحضر أشباحا وأرواحا لواحدة من أسوأ الحقب التاريخية بين الشرق والغرب التاريخي، وقبل أن تظهر القارة الأميركية على مسار الأحداث، حقبة الحروب الصليبية، وقد ذهب إلى تقسيم العالم تقسيماً مانوياً بين الذين معنا والذين علينا، أو دار السلم ودار الحرب.
كانت لغة خطاب بوش كارثية ولا شك، وربما زخمت العناصر المتطرفة والإرهابية بالمزيد من الوقود اللازم لإشعال الفتنة، وتعميق الشرخ الاجتماعي والديني، واستقطاب مزيد من العناصر التابعة للقاعدة في المستقبل.
لا ينكر المرء أن التاريخ لا يمكنه أن يكرر ذاته، لأنه لو فعل كما قال كارل ماركس لأضحى في المرة الأولى مأساة وفي الثانية ملهاة، لكن رغم ذلك فإن هناك بعض الأحداث تاريخياً تتشابه، ولا يتنبه للأمر إلا الذين يجيدون قراءة الأزمنة، ويحسنون مقاربات التاريخ.
جل القصد هنا الإشارة إلى بعض من الإجراءات التي اتخذها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، تلك التي استهل بها رئاسته الأولى، عندما منع دخول مواطني عدة دول، هي في مجملها دول إسلامية، وذلك بحجة توفير المزيد من الأمن لمواطني أميركا، وكأنه يضرب سوراً حول البلاد والعباد، في حين أن الموازنة بين الأمن والحريات الشخصية لا تمضي على هذا النحو بالمرة، ما وفر فرصة خبيثة لأولئك المعروفين باسم «الذئاب المنفردة» لإحداث خسائر في الأرواح الأميركية، لم تكن أجهزة الدولة برمتها قادرة على منعها، انطلاقاً من أنه لا يمكن بحال من الأحوال التفتيش في النفوس والعقول، ومعرفة خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
قبل عشرة أيام من فوزه برئاسة الولايات المتحدة الأميركية تحدث المرشح الديمقراطي باراك أوباما بالقول: «إن الولايات المتحدة الأميركية لن تنجح في هزيمة شبكات إرهابية تنشط في أكثر من ثمانين دولة عبر احتلالها العراق».
توقع العالم برمته أن أوباما القادم من بعيد، والذي يمثل «بوتقة الانصهار» الأميركية، سوف يقدر له أن يعيد الأمور إلى نصابها، وهو القريب فكرياً وأيديولوجيا من المجتمعات الشرقية والإسلامية، وقد استبشر الجميع به بالفعل.
لكن حصاد الحقل، كان مخالفاً طولاً وعرضاً، شكلاً وموضوعاً عن حساب البيدر، فخلال سنوات أوباما الثماني ربما عاشت جماعات الإسلام السياسي، والتي اعتبرت ولا تزال الحاضنة الأكبر والأهم لجماعات الإرهاب السياسي، أفضل أيام حياتها، وبعضها وصل مقاعد السلطة بدرجة أو أخرى من التواطؤ الأميركي المشبوه، لولا يقظة بعض شعوب المنطقة، وفي مقدمتها الشعب المصري الذي رفض إرهاب الإخوان المسلمين.
هل أخطأت الولايات المتحدة في محاربة الإرهاب، وباتت تلك الأخطاء مسارب تنفذ منها جماعات جديدة إرهابية تجعل نهار العالم قلقا وليله أرقا؟
يكاد المرء يقطع بأن الرئيس بوش الابن قد استعمل في هش الذباب، مطارق فولاذية تصلح لتفتيت الصخور، وفاته أن الإرهاب أفكار تطير عبر أجنحة الأثير.
ومن بوش الابن إلى ترمب، يمكن القطع والعهدة هنا على ورقة بحثية نشرتها مجلة الفورين بوليسي الأميركية ذائعة الصيت قبل فترة أشارت إلى أن العالم أصبح أقل أمناً عما كان عليه قبل عقدين من الزمن، بل إن 80 في المائة من الأميركيين باتوا يتوقعون هجمة قوية جديدة على بلادهم... ترى ما السبب؟
عند البروفسورة آن ماري، والتي شغلت من قبل عميدة جامعة برنستون الأميركية العريقة «إننا نخسر الحرب على الإرهاب لأننا نتعامل مع العرض وليس مع الأسباب الجوهرية وراء المرض».
هل شخصت السيدة آن ماري جزءا من الإشكالية الحقيقية التي تكسب مزيدا من الإرهابيين أرضاً واسعة لأعمال إرهابهم؟
لقد فعلت ذلك حين كشفت عن إصرار البعض في الداخل الأميركي إحلال الإسلام محل الشيوعية كعدو للغرب ما يغذي رؤية القاعدة و«داعش» وغيرهما، ومما يزيد من الدعم الذي يقدم لهما، ويدفع الكثيرين في نفس الوقت من خانة الاعتدال إلى خانة التطرف.
صوت أميركي آخر يوضح أن هناك عطبا كبيرا في مواجهة الإرهاب منذ ذلك الوقت المحزن، هو صوت آلان كوهين، الخبير الأميركي السابق في قسم مكافحة الاستخبارات الأجنبية، والذي يشير إلى أن مشروع الحرب على الإرهاب، على النحو الذي قادته بلاده منذ الحادي عشر من سبتمبر وحتى الآن، كان مشروعاً فاسداً، ذلك أن شن الحرب على الإرهاب أشبه ما يكون بشن الحرب على الغضب، وأنت لا تشن الحرب على الإرهاب بل على البشر.
يمكننا أن نتساءل في نهاية هذه السطور هل مقاومة الإرهاب هي فعل عسكري فقط أم طرح عقلاني أحياناً يحتاج إلى دعم عملياتي على الأرض؟
أقرب الأجوبة للصواب أن مقاومة الإرهاب والقضاء عليه يتطلبان منظومة متكاملة، لا توجه لجانب على حساب الآخر فحسب، فالعمليات العسكرية ضد المتمردين والإرهابيين هي أعمال أساسية ولا بد منها لإطفاء الحرائق المشتعلة، لكن الانتصار في الحرب على الإرهاب، هو فعل طويل المدى، والانتصار في معركة الأفكار هو المهدد الأول والحقيقي للإرهاب في حاضرات أيامنا.
مجابهة أيديولوجيات الإرهاب والتطرف تحتاج إلى حلول تقدم على أسس وركائز عقلانية وإيمانية واجتماعية، وتسعى لإحقاق العدالة، وإنصاف المظلومين، وإغلاق الملفات البكائية التاريخية، وهذا جهد جهيد، وأول ما يتطلب نوايا صادقة، لا تلاعب على المتناقضات، أي تسخير تلك الجماعات لخدمة الأهداف الاستراتيجية الكبرى لدول بعينها تترقب اللحظة الحاسمة لبسط سيادتها على الأرض ومن فيها.
الشرق والغرب مدعوان هذه الأيام للتفكير خارج الصندوق في المحددات والمهددات التي تجعل من الحياة البشرية رؤية غير يقينية ومسيرة غير آمنة، ولهذا إن لم يتركا وراءهما سوية نظريات الصدام، ويسعيان لعهود من الوفاق الأممي، سيبقى الإرهاب وحشاً أسطورياً، خلف الباب متشوقاً لالتهام المزيد من الضحايا الأبرياء.


مقالات ذات صلة

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)
أفريقيا جنود نيجيريون مع جنود من القوة الإقليمية المختلطة لمحاربة «بوكو حرام» (صحافة محلية)

​نيجيريا... مقتل 5 جنود وأكثر من 50 إرهابياً

سبق أن أعلن عدد من كبار قادة الجيش بنيجيريا انتصارات كاسحة في مواجهة خطر «بوكو حرام»

الشيخ محمد (نواكشوط)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.