الثري الصيني جاك ما يترك المليارات ليعود إلى مهنة التدريس والأعمال الخيرية

حَلُم بتعلم الإنجليزية وحاز درجات دكتوراه عدة وجوائز عالمية... وحقق 420 مليار دولار لمجموعة «علي بابا»

الثري الصيني جاك ما يترك المليارات ليعود إلى مهنة التدريس والأعمال الخيرية
TT

الثري الصيني جاك ما يترك المليارات ليعود إلى مهنة التدريس والأعمال الخيرية

الثري الصيني جاك ما يترك المليارات ليعود إلى مهنة التدريس والأعمال الخيرية

أعلن «جاك ما» Jack Ma الصيني، مؤسس مجموعة «علي بابا» للتجارة الإلكترونية، عن خطته للانسحاب التدريجي من الشركة بحلول العام 2020. ولقد نجح «جاك» – وهذا هو التحوير لاسمه الأصلي باللغة الصينية – بتطوير الموقع ليصبح من أكبر المواقع في التجارة الإلكترونية عبر الإنترنت، حيث إنه يخدم حاليا أكثر من 79 مليون مستخدم من حول العالم، يخدمهم 66 ألف موظف يعملون بدوام كامل في الشركة التي تبلغ قيمتها السوقية نحو 420.8 مليار دولار. وللعلم، تقدّم مجموعة «علي بابا» خدمات تقنية متنوعة على مستوى العالم، في حين قدّرت ثروة جاك ما نحو 38.6 مليار دولار أميركي في شهر أغسطس (آب) الماضي، ما يجعله أحد أغنى أغنياء العالم.

قرّر جاك ما، الملياردير الصيني ومؤسس مجموعة «علي بابا» للتجارة الإلكترونية، في وقت سابق من سبتمبر (أيلول) الحالي التفرغ للعمل الخيري في المجال التعليمي كونه معلماً سابقاً وشغوفاً في هذا الجانب. ووضع خطة للانسحاب التدريجي من الشركة تاركاً المجال للرئيس التنفيذي الحالي دانييل زانغ لخلافته عبر انتقال قيادة المجموعة خلال الفترة المقبلة. ومن جهة ثانية، شدّد جاك على أنه سيبقى جزءاً من الشركة خلال هذه الفترة، بيد أنه سيقلص دوره ومسؤولياته بشكل تدريجي إلى حين إتمام عملية الانتقال الإداري، وفي حينه سيتخلى عن منصب رئيس مجلس الإدارة في 10 سبتمبر 2019. وسيكمل فترته الحالية في مجلس إدارة «علي بابا» لغاية موعد الاجتماع السنوي العام للشركة في العام 2020. ثم إنه لم يترك قيادة المجموعة لأبنائه، كما هو مألوف في الشركات الصينية العائلية، بل فضل تركها للشخص المناسب من حيث المؤهلات وليس الوراثة، ليعكس منهجية الحوكمة والشفافية.
يذكر أن جاك كان قد تخلّى عن منصب الرئيسي التنفيذي للشركة عام 2013. ويأتي قراره الأخير اللافت مع مرور 19 سنة على تأسيس مجموعة «علي بابا» القابضة. ويرى رغم الأعمال اللامع أن من واجبه السماح للجيل الأصغر سناً والأكثر موهبة بتولي أدوار قيادية لإكمال رسالته المتمثلة بتسهيل أداء الأعمال في أي مكان. وأكد أن المعلم داخله يشعر بالفخر الشديد بفريق المجموعة وثقافتهم الغنية، رغبة منه بتجاوز الطالب للمعلم. وبذا يسير جاك ما على خطى بيل غيتس، مؤسس شركة «مايكروسوفت»، الذي ودّع إمبراطوريته التقنية بالتدريج بدءا من العام 2006 إلى العام 2014. من أجل التركيز على الأعمال الخيرية العالمية.

نشأته وحياته

جاك ما من مواليد 16 أكتوبر (تشرين الأول) 1964 – أي يبلغ عمره الآن 54 سنة – في مدينة هانغتشو في مقاطعة جيجيانيغ بشرق الصين. ومنذ طفولته أظهر رغبة جامحة في تعلم اللغة الإنجليزية، إذ كان يركب دراجته كل صباح لمدة 45 دقيقة باتجاه فندق لإرشاد السياح الأجانب حول المنطقة. ومن ثم، تعلم اللغة الإنجليزية واستخدمها معهم لمدة 9 سنوات، وصار صديقاً بالمراسلة لأحد السياح الذي أطلق عليه اسم «جاك» بسبب صعوبة نطق اسمه الصيني الأصلي.
درس «جاك» التربية والتعليم في جامعة هانغتشو لإعداد المعلمين، وتخرج فيها في العام 1988 حاصلاً على شهادة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية، بعد فشله مرتين في تجاوز امتحانات القبول فيها. ومن ثم، عمل محاضراً في اللغة الإنجليزية والتجارة الدولية في جامعة هانغتشو ديانزي، ومن ثم انضم إلى جامعة تشونغ كونغ لدراسات الأعمال، وتخرّج فيها عام 2006 بدرجة ماجستير في إدارة الأعمال.
بعد ذلك تقدم جاك لأكثر من 30 وظيفة مختلفة لكنه ووجه بالرفض في كل منها. وكان بين الوظائف التي تقدم لها قسم الشرطة حيث تم قبول 4 متقدمين من أصل 5، وشركة «كي إف سي» KFC لبيع الدجاج المقلي التي تقدم للعمل بها 24 شخصاً وكان الوحيد الذي رفض طلبه أيضاً. وتقدم كذلك إلى كلية الأعمال بجامعة هارفارد الأميركية 10 مرات ولكن طلبه رفض في كل مرة. بل حتى عندما تقدم مع ابن عمه لوظيفة نادل في فندق، وانتظر تحت أشعة الشمس الحارقة لنحو الساعتين، حصل ابن عمه على الوظيفة رغم حصوله على تقييم أقل من تقييم جاك في امتحان القبول!
من كل هذه التجارب تعلمّ جاك درساً مهماً في حياته، وهو أن عليه ألا يستسلم أبدا للفشل، بل يجب التعلم منه. وانتهى مشوار خيبات الأمل، عندما عمل أخيراً في جامعة محلية كمدرس للغة الإنجليزية لقاء 12 دولاراً في الشهر.

محطة الإنترنت المفصلية

عام 1994 سمع جاك عن الإنترنت، وسافر إلى الولايات المتحدة الأميركية مع مجموعة من الأصدقاء الذين ساعدوه في التعرف عليها. وهناك فوجئ بأنه عثر على الكثير من المعلومات في الإنترنت، ولكن ليس من شركات صينية. وهكذا، قرّر جاك مع مجموعة من الأصدقاء تأسيس موقع يسمح لمصدّري المنتجات وضعها في الإنترنت لتمكين المشترين من اختيارها مباشرة من دون الحاجة إلى وسيط. وحقاً، أطلق الموقع في الساعة التاسعة و40 دقيقة صباحا، لتبدأ رسائل البريد الإلكتروني من المستثمرين الصينيين بالوصول في حدود الساعة 12 ونصف ظهرا. وكانت تلك هي اللحظة التي خبِر فيها جاك ما، فعلاً، القدرات الهائلة الكامنة للإنترنت. من هذه المحطة، بدأ له أن مشواره العملي سيكون كفاحاً شاقاً من أجل النجاح، تماماً مثل مشواره التعليمي، وحقاً، كان من أوائل من فكروا بتأسيس شركة إنترنت من الصين، التي كانت تتأهب في حينه لدخول العصر الرقمي.

انطلاق «علي بابا»

وبعد سنة، عام 1995، جمع جاك مع زوجته وصديق له مبلغ 20 ألف دولار لتأسيس أول شركة لهم، وهي شركة متخصصة بإيجاد موقع للشركات الصينية سماها «صفحات الصين». وفي غضون 3 سنوات فقط، حصلت الشركة على عوائد بقيمة 5 ملايين يوان صيني، أي ما يعادل 800 ألف دولار أميركي في ذلك الوقت. ثم ترأس جاك شركة تقنية المعلومات التابعة لمركز الصين الدولي للتجارة الإلكترونية التابع لقسم وزارة التجارة والتعاون الاقتصادي بين العامين 1998 و1999.
وبعد ذلك أسّس موقع «علي بابا» بصحبة 18 صديقاً، وشغل منصب الرئيس التنفيذي للمجموعة التي تشمل موقع «علي بابا»، وموقع «إي تاو»، وخدمات «علي بابا» للحوسبة السحابية، وموقع «تي مول»، وموقع «جوهواسوان»، وموقع «1688 دوت كوم» وموقع «علي إكسبريس» المتخصص ببيع المنتجات بأسعار الجملة للأفراد والتجار حول العالم، وخدمة «علي بابا» للدفع المسماة «علي باي» AliPay. كذلك أسس موقع «تاو باو» الذي عرض موقع «إي باي» eBay أن يشتريه، لكن جاك ما رفض ذلك وحصل على استثمار مالي من الشريك المؤسس لـ«ياهو» بقيمة مليار دولار.
اختار جاك اسم «علي بابا» للموقع معتمداً على رواية «علي بابا والأربعون لصاً» من منطلق استخدام شخصية «علي بابا» ككلمة سر تفتح أبواباً لكنوز تفوق الوصف، وفي ذلك تعبير واضح عن قدرة شركته على فتح أبواب الثراء للشركات الصغيرة والمتوسطة حول العالم.
ومن ثم، حصلت مجموعة «علي بابا» على تمويل أجنبي بقيمة 25 مليار دولار في نهاية العام 1999 وبداية العام 2000، من أجل تطوير التجارة الإلكترونية المحلية وإيجاد منصة تجارة إلكترونية متقدّمة للشركات الصينية الصغيرة والمتوسطة. واستطاعت المجموعة دخول سوق الأسهم في بورصة نيويورك بنهاية العام 2014 وجنت أكثر من 25 مليار دولار في الاكتتاب، وهي أكبر قيمة اكتتاب في تاريخ سوق الأسهم الأميركي. وفي العام 2012، تجاوز حجم التعاملات التجارية في موقع «علي بابا» تريليون يوان صيني (نحو 146 مليار دولار أميركي).
في ضوء هذا النجاح المبهر، تحدث جاك ما مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب في بداية العام 2017 حول كيفية إيجاد مليون وظيفة جديدة في الولايات المتحدة خلال 5 سنوات، مع أنه في الوقت نفسه يعارض سياسات ترمب التجارية، ويعتقد أنه إذا توقفت التجارة... ستبدأ الحرب. وهنا نشير إلى أن جاك ما كان قد أعلن في العام 2010 عن قراره تخصيص 0.3 في المائة من العوائد السنوية لمجموعة «علي بابا» لصالح مشاريع حماية البيئة في مجالي تطوير نقاء المياه والهواء، وذلك بهدف مساعدة المزيد من الناس على جني المال بصحة أفضل، وأن يكون المال مفيداً لأولئك الأشخاص وللمجتمع ككل. ونبع هذا الاهتمام بعد مرض أحد أفراد عائلة زوجته بسبب التلوث البيئي.
وفي هذا السياق العائلي، نذكر أن جاك أبٌ لـ3 أولاد من زوجته كاثي جانغ ينغ، وله أخ أكبر منه وأخت أصغر منه. ومن اهتماماته أنه استثمر في محمية طبيعية في الصين تبلغ مساحتها 27 ألف فدان. وبلغ عدد ساعات الطيران التي أمضاها في الجو 800 ساعة خلال العام 2016. وازدادت إلى 840 ساعة في العام 2017. ويتوقع أن يمضي أكثر من 1000 ساعة في الجو هذا العام للترويج لمزايا التجارة الحرة والعولمة.

جوائز وتكريم

يعتبر جاك ما أول شخصية من الصين تتصدّر غلاف مجلة فوربس» الأميركية. ولقد حصل على جوائز كثيرة، وجرى تكريمه في الكثير من المناسبات، كإضافته إلى قائمة «أكبر 10 شخصيات اقتصادية» للعام 2004 من قبل التلفزيون المركزي الصيني، واختيار المنتدى الاقتصادي العالمي إياه في العام 2005 كقائد عالمي شاب، واختيار مجلة «فورتشن» إياه ليكون من ضمن «أكبر 25 شخصية أعمال مؤثرة في آسيا» عن العام 2005، ووقوع مجلة «بيزنز ويك» عليه كـ«شخصية الأعمال» للعام 2007، واختياره من قبل «بارونز» ضمن قائمة «أفضل 30 رئيساً تنفيذياً في العالم»، وإدراج اسمه في مجلة «تايم» كواحد من أكثر 100 شخصية مؤثرة، وذلك بعد تجاوز مزاد «تاوباو» الإلكتروني في الصين انتشار مزاد «إي باي»، ثم أعادت المجلة اختياره ليكون في هذه القائمة مرة أخرى في العام 2014.
أيضاً اختارت مجلة «بيزنز ويك» جاك ما واحداً من «أكثر الناس قوة في الصين»، وفي العام 2005 اختارته مجلة «فوربس الصين» واحداً من «أكثر 10 رواد الأعمال احتراماً في الصين». كذلك حصل على جائزة «شخصية العام الاقتصادية» و«قيادي العقد» من التلفزيون المركزي الصيني، كما اختير في العام 2010 واحداً من أبطال آسيا في الأعمال الخيرية بسبب مساهماته الكثيرة في جهود إغاثة الأزمات والفقر.
وراهناً، جاك عضوا في مجلس إدارة مصرف «سوفت بانك» الياباني للاستثمار، وشركة «الإخوة هواييه» للإعلام، ويعمل قيّماً لبرنامج الطبيعة في الصين في العام 2009. ولقد انضم في العام 2020 إلى مجلس الإدارة العالمي للبرنامج، وأصبح رئيس مجلس إدارة البرنامج في العام 2013. ثم إنه حصل في العام نفسه على المرتبة 30 بين أقوى شخصيات العالم وفق تقييم «فوربس» السنوي، وحصل على «جائزة ريادي الأعمال للعام على المستوى الآسيوي» في 2013. وحقق المرتبة الثانية في قائمة «فورتشن» لأعظم 50 شخصية قيادية في العام 2017.
وبالنسبة للشهادات الأكاديمية الفخرية، منح جاك دكتوراه فخرية من جامعة هونغ كونغ للعلوم والتكنولوجيا في العام 2013، تلتها دكتوراه فخرية أخرى في العلوم والريادة التقنية من جامعة دي لا سال في الفلبين، ودكتوراه فخرية ثالثة في العلوم الاجتماعية بسبب مساهماته في قطاعي التقنية والمجتمع من جامعة هونغ كونغ، وأخيراً، دكتوراه فخرية من جامعة تل أبيب في فلسطين المحتلة.

دروس «المعلم» جاك

ختاماً، من قصة حياة جاك ما، وعمله، درس أول للأجيال الشابة فحواه أن أي شيء ممكن مع الإرادة، ذلك أنه بدأ من الصفر وأصبح مليارديراً، بغياب عائلة غنية من حوله تدعمه أو تعليم من أفضل الجامعات، أو حتى سيارة تنقله من مكان لآخر. وثمة درس ثان هو أنه يمكن بناء إمبراطورية في مرحلة الشباب إذ أن جاك انطلق في عالم النجاح عندما كان في الثلاثينات من عمره، وحصل على الكثير من الجوائز عندما كان في الأربعينات. وأما الدرس الثالث فهو أن وجود الموارد المسبقة ليس عنصراً أساسيا عندما يكون للمرء حلم كبير جداً ولديه الرغبة الأكيدة بتحقيقه... وطرق جميع الأبواب للبدء بتنفيذه.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.