العالم مفخخ بأزمات متنقلة ذات خطر على النظام الدولي

بمناسبة مرور 10 سنوات على إفلاس «ليمان براذرز»

العالم مفخخ بأزمات متنقلة ذات خطر على النظام الدولي
TT

العالم مفخخ بأزمات متنقلة ذات خطر على النظام الدولي

العالم مفخخ بأزمات متنقلة ذات خطر على النظام الدولي

يصادف اليوم ذكرى مرور 10 سنوات على انهيار بنك «ليمان براذرز» الأميركي الذي شكل بداية اندلاع أزمة مالية عالمية تستمر بعض تداعياتها إلى يومنا هذا. وقبل أيام حذر رئيس الوزراء الأسبق في بريطانيا، جوردن براون، والذي كان في الحكم وقت وقوع أزمة 2008 من أن العالم في الوقت الراهن أشبه بالسائر وهو نائم صوب أزمة جديدة، لأن الحكومات لم تعالج أسباب الأزمة الماضية.
وقال إن الاقتصاد العالمي فشل في إنشاء نظام إنذار مبكر لمواجهة مثل هذه الأزمات، ونظام مراقبة للتدفقات المالية يجعل من الممكن معرفة أين تم إقراض الأموال وبأي شروط.
وعلق في حديث لـ«الغارديان» بقوله إن الجزاءات الخاصة بالتصرفات التي تؤدي للأزمة لم تتم زيادتها بشكل كاف، ولم تكن هناك رسالة قوية بالشكل الكافي بأن الحكومة لن تنقذ المؤسسات التي لم تصلح من نفسها.

ما الذي تغير إذن منذ وقوع الأزمة؟ وهل تعافى الاقتصاد الدولي من آثارها؟ وإلى أي مدى استفاد من دروس الأزمة بما يُجنب الأسواق والمصارف والحكومات حصول أزمة مماثلة؟؟
«الشرق الأوسط» استطلعت آراء خبراء واقتصاديين ومصرفيين، واطلعت على جملة تقارير ومقالات وتحقيقات، ودققت في إنذارات مبكرة لتقف عن كثب على إجابات أو توقعات تلقي بعض الضوء على ما حصل وما قد يحصل.
بداية تتعين الإشارة إلى أن الأزمة كانت الأعتى منذ الكساد الكبير الذي عم العالم في 1929، وسببها الأساسي هو الديون وتراكمها على نحو جعل الاقتصاد العالمي هشاً أمام الصدمة. لكن وبعد 10 سنوات نجد أن تلك الديون تراكمت أكثر، لا بل زادت بنسبة 40 في المائة. إذ يبلغ الدين العالمي حالياً نحو 170 تريليون دولار وهي ديون دول وشركات وأسر وأفراد، ولا يشمل هذا الرقم ديون المؤسسات المالية. ومع شموله يرتفع الرقم إلى 137 تريليون دولار، حيث زاد الدين العالمي منذ سبتمبر (أيلول) 2008 نحو 72 تريليون دولار، حتى بلغت نسبته إلى إجمالي الناتج الاقتصادي العالمي 337 في المائة، أي أعلى من النسبة التي كانت قبل 10 سنوات، ومن دون حساب ديون المؤسسات المالية تبلغ نسبة الدين العالمي إلى الناتج أكثر من 225 في المائة.
سرعة نمو القروض أكبر من وتيرة النمو الاقتصادي. إنها ظاهرة عالمية شاملة مع تفاوت في الخصائص مقارنة بالوضع السابق. فالديون الحالية في قطاعات التمويل المعقد (المشتقات والتوريق...) أقل من السابق، علماً بأن ذلك الدين كان مركز زلزال الأزمة. في المقابل، ارتفع دين الحكومات في الدول الصناعية والمتقدمة على نحو كبير بسبب برامج التيسير الكمي التي أطلقت لشراء الأصول المتعثرة وتحفيز النمو الاقتصادي. ووصلت نسبة ذلك الدين إلى 105 في المائة من الناتج، وهو أعلى مستوى تاريخي.
وفي الاقتصادات الناشئة انفجرت ديون الشركات على نحو هائل، ففي الصين وحدها تضاعفت القروض 5 مرات خلال 10 سنوات لتبلغ 250 في المائة من الناتج.
وأبرز أسباب ارتفاع جبل الديون عالمياً الحصول على مال رخيص بفعل هبوط معدلات الفوائد إلى المستويات الأدنى تاريخياً، فضلاً عن ضخ البنوك المركزية تريليونات من الدولارات لزوم معالجة الأزمة. فهل العالم اليوم على مشارف أزمة جديدة كما يحذر البعض ويدق جرس الإنذار منذ أشهر؟ فهناك مراقبون ينبهون إلى أن حجم الديون وصل إلى حد يصبح عنده الاقتصاد العالمي هشاً أمام أي صدمة جديدة، ويذهب خبراء إلى القول إن الأزمة الجديدة ستطل برأسها لا محالة، ولا يبقى إلا أن نعرف من أين ستنطلق الشرارة الأولى.
البعض يرى في ديون الصين خاصرة رخوة خطرة تُذكر بالوضع الياباني الذي ساد أوائل الثمانينات من القرن الماضي، لكن معظم الديون الصينية بالعملة المحلية (اليوان) والجزء الأكبر ممسوك داخلياً، والغالب الأعم من تلك الديون عبارة عن قروض من بنوك عامة منحت وتمنح إلى شركات عامة أيضاً، ما يعني أنها تحت السيطرة الحكومية، كما أن سوق المال الصينية صغيرة نسبياً مقارنة بالأسواق الأميركية والأوروبية، وبالتالي فإن أي خلل فيها لن يكون ذا أبعاد دولية كبيرة.
أما الدول المتقدمة، فالكم الأكبر من الديون ممسوك لديها من الحكومات والبنوك المركزية، بيد أن خبراء الأسواق يحذرون من اتجاهات رفع الفوائد بسرعة صادمة ما يعيد إلى الأذهان أزمة الديون السيادية الأوروبية التي لم تنته فصولها بعد، وما يحصل في إيطاليا حالياً أفضل دليل.
وإذا تسارع التضخم في الولايات المتحدة الأميركية حيث تعمل الماكينة الاقتصادية هناك بوتيرة مزدهرة بفضل منشطات خفض الضرائب وزيادة الإنفاق العام، فإن الاحتياطي الفيدرالي سيرفع الفوائد بوتيرة أسرع لكبح التضخم في حال تفاقمه. ذلك الرفع سيؤثر حتماً في الاقتصادات الناشئة التي راكمت شركاتها ديوناً هائلة بالدولار في مرحلة الفوائد المتدنية.
وتشير الإحصاءات إلى تضاعف الديون في الأسواق الناشئة قياساً بمستواها في 2008 لتبلغ 27 تريليون دولار. واندلعت منذ الربيع الماضي شرارات أزمات متنقلة في الدول الناشئة أودت بقيم عملات تلك الدول، وخرج مستثمرون أجانب بأموالهم، لا سيما باتجاه الولايات المتحدة حيث الفرص تبدو أفضل، وتلك الأزمات شملت تركيا، لا سيما في ديون الشركات والأرجنتين المثقلة بالدين العام، ووصلت الأزمة إلى جنوب أفريقيا ومرت في البرازيل وإندونيسيا. ويسأل المتابعون عن الدولة الناشئة المقبلة على أزمات مماثلة، بحيث لا يقتصر الأمر على هبوط قيم العملات بل يتعداه إلى الاقتصاد الحقيقي بما ينذر بأزمة تتجاوز حدود تلك الدول، لأن الاقتصادات الناشئة تساهم بثلثي معدل النمو الاقتصادي العالمي، وبالتالي فإن أزماتها ستؤثر حتماً في الاقتصاد الدولي عموماً.
ويذكر أن الديون في الدول المتقدمة (خارج الولايات المتحدة) ارتفعت من 95 تريليون دولار في 2007 إلى 109 تريليونات في 2017، وفي الولايات المتحدة من 51 إلى 65 تريليوناً، وارتفعت في الصين من 9 إلى 36 تريليونا خلال الفترة نفسها، وفي الدول الناشئة تضاعفت مرتفعة من 15 إلى 27 تريليون دولار في 10 سنوات، وفقا لإحصاءات بنك التسويات الدولية.
- خطورة الأوضاع
على صعيد آخر، لا يقلل مصرفيون غربيون من خطورة الأوضاع، ويقول أحدهم: «عندما تسير الأمور بازدهار ينسى معظمنا حساب المخاطر». ويشير هؤلاء إلى أن هناك رغبة في فك بعض القيود التي فرضت على البنوك غداة الأزمة العالمية الماضية. فإفلاس «ليمان براذرز» ألقى الضوء على هشاشة المصارف خصوصاً ضحالة رساميلها مقابل المخاطر الائتمانية والاستثمارية التي تقع على عاتقها، وتبين كيف أن رؤوس الأموال المصرفية كانت قليلة ولا تتحمل الخسائر، فتدخلت الحكومات للإنقاذ.
وأممت بنوك وزيدت رساميل أخرى حول العالم. ووضعت قواعد جديدة لتعزيز الرساميل والتحوط بالسيولة، وفقاً لمعايير «بازل 3» لتستطيع المصارف مواجهة الالتزامات في حالات الطوارئ. أجل، حصل تقدم كبير على هذا الصعيد وتجرى اختيارات ضغط سنوية للتأكد من المناعة، لكن حد الأمان الكامل غير واضح المعالم بعد، لأن رؤوس مصارف كثيرة حول العالم تحتاج إلى مزيد من التعزيز ولا تحتمل الخسائر الكبيرة في حال اندلاع أزمة جديدة بحجم التي اشتعلت في 2008.
ويضيف مصرفيون: «تبين في 2008 أن رؤساء المصارف وكبار المديرين فيها كانوا يجهلون كم تشكل الرهون العقارية في ميزانيات بنوكهم. ويذكر أن تلك الرهون كانت من أسباب الأزمة أيضاً لا بل في صلبها. وسبب ذلك الجهل أو عدم المعرفة الدقيقة أن القروض العقارية الأميركية الرديئة تجمعت في رزم وخلطت مع أخرى أكثر جودة ثم قسّموها في شرائح حتى اختلط حابلها بنايلها. كان ذلك عبارة عن ابتكارات مالية مبنية على رياضيات مخاطر من نوع معين. فهل هذه الممارسات انتهت أم هي مستمرة؟»، يجيب المصرفيون المحايدون بأن البنوك تواصل الابتكارات التي تجعل الخدمات والمنتجات المالية أكثر تعقيداً، وربما مظلمة أيضاً بحيث لا تراها السلطات الرقابية جيداً.
إلى ذلك كشفت أزمة 2008 عن مسألة التوريق القائمة على تقنية مالية تنقل حمل مخاطر الديون من جهات إلى أخرى. فتعثر المقترضين الأميركيين لشراء مساكنهم بدأ في 2006 وليس في 2008، لكن القروض كانت «مورقة» ومبيعة لمستثمرين، لذا توسعت دوائر التأثر بالتعثر لتشمل مصارف وصناديق وشركات تأمين ومستثمرين أفراداً. فهل انتهى التوريق؟ الجواب أن العمل به متواصل لكن السلطات الرقابية تسعى لجعل تلك الممارسة بسيطة وشفافة وموحدة المعايير من دون الوصول إلى كل تلك الأهداف بعد. علماً بأن تلك السلطات تشجع المصارف أحيانا على ممارسة توريق الديون لتستطيع البنوك إخراجها من ميزانياتها وتكتسب مساحة إقراضية جديدة ولتحافظ على جدارتها الائتمانية.
- بنوك الظل
على صعيد متصل، ساهم ما يسمى بنوك الظل في مُفاقمة تداعيات الأزمة، فتلك «البنوك» لا تعمل بالأساليب المصرفية التقليدية، وهي عبارة عن صناديق وشركات رأس مال مغامر قدمت وتقدم تمويلات موازية خارج الرقابة اللصيقة نسبياً. ومع ذلك انتعش هذا النشاط منذ 2008 وبلغ حجمه 99 تريليون دولار في آخر إحصائية ترقى إلى عام 2016، بعدما اشترت تلك الجهات من البنوك التقليدية محافظ تمويلية أرادت المصارف التخلص منها لتنظيف ميزانياتها.
وبُذلت جهود حول العالم، لا سيما أميركيا وأوروبيا لضبط أنشطة صناديق التمويل الموازي، لا سيما صناديق التحوط وشركات رأس المال المغامر، إلا أن ذلك العمل لم ينجز بالكامل بعد، وهناك صعوبات في ضبطه على نحو شامل. ويرى متشائمون أن الأزمة المقبلة ستنطلق من بنوك الظل التي باتت تسيطر على حصة هائلة من التمويل خارج المصارف التقليدية وشركات التأمين والبنوك المركزية، لدرجة أن بحوزتها وحوزة الوسطاء خارج النظام التقليدي ثلث إجمالي الأصول المالية العالمية مقابل 40 في المائة لدى البنوك والباقي لدى صناديق التقاعد وشركات التأمين والبنوك المركزية والمؤسسات العامة.
- خلط الاستثمار بالتجزئة المصرفية
ومصرفياً أيضاً، تبين أن مخاطر كمنت في مصارف جمعت بين نشاطي التجزئة والاستثمار، ودعت السلطات إلى الفصل بين النشاطين كما فعلت بريطانيا التي تسعى لتفرض على البنوك رساميل خاصة بخدمات التجزئة المصرفية وأخرى خاصة بالأنشطة الاستثمارية المحملة بمخاطر أكبر تبعاً لتقلبات الأسواق المالية. والهدف ضمان عدم انتقال عدوى الأزمات من الأسواق إلى ودائع العملاء. هذا المسعى البريطاني يكاد يكون يتيماً عالمياً ولا تحتذي به دول أخرى بحجة أن التعثر حصل أيضا في بنوك استثمارية لا تمارس التجزئة كما حصل في مصارف تجزئة لا تمارس الاستثمار.
- تفكيك القيود
وأميركياً، نزولاً على رغبة الرئيس ترمب أطلقت ورشة لتفكيك قيود فرضت على البنوك أيام الرئيس السابق باراك أوباما فيما عرف بقانون «دود فرانك»، لأن ترمب يرى في ذلك القانون لجماً للبنوك ولطاقتها على التوسع في تمويل الاقتصاد والمستثمرين. لكن دون ذلك التفكيك أو التسهيل مقاومة من المشرعين الأميركيين حتى الآن.
- مشتقات التحوط
ومن بين أسباب الأزمة أيضاً مشتقات التحوط، خصوصا ضد تقلبات العملات والأسواق، التي كانت تعقد باتفاقات تراضٍ وبلا شفافية كاملة. ولجأت السلطات منذ 2009 إلى جعلها تمر في غرفة مقاصة ضامنة بين البائع والشاري، لكن يسأل المتشائمون: ماذا لو تعثرت المقاصة نفسها تحت ضغط مخاطر الإفلاس الكثيف في حال صدمة أزمة عالمية جديدة؟ يقول أصحاب الاختصاص إنه لا أحد يعلم اليوم كيف سيتم التعامل مع سيناريو كارثي كهذا، جل ما نعلمه أن لتعثر تلك المقاصة مخاطر نظامية لا نعلم مداها!
- أدوات الربح السريع
رهون، توريق، مشتقات، منتجات مالية مهيكلة... كلها أدوات استخدمها المصرفيون بغرض الربح على المدى القصير ليستطيعوا من خلال أرباحها السريعة الساخنة الحصول على مكافآت وبونصات خيالية أحياناً. كانوا يقللون من حسابات المخاطر لتعظيم ثرواتهم الخاصة. وكانت تلك البونصات بلغت في «وول ستريت» 33 مليار دولار في 2007 ثم هبطت إلى النصف في 2008 بعد انكشاف جملة ألاعيب. لكنها عادت لتصعد تدريجياً، وفي ربيع هذه السنة بلغت البونصات عن أعمال 2017 أكثر من 31 مليار دولار ويُتوقع لها مع نهاية 2018 أن تتجاوز تلك القمة التي كانت بلغتها عشية الأزمة! وفي هذا المجال اختلاف كبير بين الممارسات الأميركية ونظيرتها الأوروبية. ففي الاتحاد الأوروبي حالياً قواعد صارمة للمكافآت بحيث لا تتجاوز سقوفاً معينة. أما أميركياً فعاد الحبل إلى غاربه في موازاة ازدهار «وول ستريت» والنزعة الربحية التي يشجعها الرئيس دونالد ترمب.
- ملاحظات أخرى
ويضيف منتقدو النظام المالي العالمي أنه لا يمكن تعلم الدروس من الأزمة الماضية كما يجب، لأن جملة ممارسات أخرى قائمة على قدم وساق علماً بأنها من أسباب الأزمة أيضاً. فقد ساد نقاش حول الحؤول دون أن تكبر المصارف والمؤسسات المالية لتصبح عملاقة بحيث إذا تعثرت يتحول خطرها نظاميا بحيث يتعداها ويتعدى المساهمين فيها إلى قطاعات أخرى. وكان هناك اتجاه للتخلي عن مقولة «أكبر من أن تقع». لكن الحاصل باستمرار هو تشجيع الاندماجات والاستحواذات وتحفيز قيام كيانات كبيرة عابرة للقارات. فإذا تكرر سيناريو التعثر فسنجد أن الحكومات ستهب للإنقاذ مرة أخرى وذلك على حساب عموم الناس من دافعي الضرائب الذين لا ذنب لهم فيما يقترفه المصرفيون والمستثمرون من أخطاء مدمرة مالياً. وهذا ما حصل في إيطاليا هذه السنة عندما أنقذت الحكومة أحد البنوك الكبيرة الذي تعرض للتعثر.
ويضيف المنتقدون أنه لا دروس مستفادة كما يجب، لأننا لم نشهد تطبيق عقوبات صارمة تصل إلى حد السجن. فعلى الرغم من خسارة عشرات التريليونات من الدولارات لم نشهد على معاقبة المسؤولين عن ذلك على نحو دقيق يُحمل المسؤوليات لمرتكبي الأخطاء ويساهم في إدخالهم السجون بكثافة.



ترمب يدرس خصخصة خدمة البريد وسط خسائر مالية ضخمة

يقوم أحد عمال البريد الأميركي بتفريغ الطرود من شاحنته في مانهاتن أثناء تفشي فيروس كورونا (رويترز)
يقوم أحد عمال البريد الأميركي بتفريغ الطرود من شاحنته في مانهاتن أثناء تفشي فيروس كورونا (رويترز)
TT

ترمب يدرس خصخصة خدمة البريد وسط خسائر مالية ضخمة

يقوم أحد عمال البريد الأميركي بتفريغ الطرود من شاحنته في مانهاتن أثناء تفشي فيروس كورونا (رويترز)
يقوم أحد عمال البريد الأميركي بتفريغ الطرود من شاحنته في مانهاتن أثناء تفشي فيروس كورونا (رويترز)

يبدي الرئيس المنتخب دونالد ترمب اهتماماً بالغاً بخصخصة خدمة البريد الأميركية في الأسابيع الأخيرة، وهي خطوة قد تُحْدث تغييرات جذرية في سلاسل الشحن الاستهلاكي وتوريد الأعمال، وربما تؤدي إلى مغادرة مئات الآلاف من العمال الفيدراليين للحكومة.

ووفقاً لثلاثة مصادر مطلعة، ناقش ترمب رغبته في إصلاح الخدمة البريدية خلال اجتماعاته مع هاوارد لوتنيك، مرشحه لمنصب وزير التجارة والرئيس المشارك لفريق انتقاله الرئاسي. كما أشار أحد المصادر إلى أن ترمب جمع، في وقت سابق من هذا الشهر، مجموعة من مسؤولي الانتقال للاستماع إلى آرائهم بشأن خصخصة مكتب البريد، وفق ما ذكرت صحيفة «واشنطن بوست».

وأكد الأشخاص الذين طلبوا عدم الكشف عن هويتهم نظراً للطبيعة الحساسة للمحادثات، أن ترمب أشار إلى الخسائر المالية السنوية لمكتب البريد، مشدداً على أن الحكومة لا ينبغي أن تتحمل عبء دعمه. ورغم أن خطط ترمب المحددة لإصلاح الخدمة البريدية لم تكن واضحة في البداية، فإن علاقته المتوترة مع وكالة البريد الوطنية تعود إلى عام 2019، حيث حاول حينها إجبار الوكالة على تسليم كثير من الوظائف الحيوية، بما في ذلك تحديد الأسعار، وقرارات الموظفين، والعلاقات العمالية، وإدارة العلاقات مع أكبر عملائها، إلى وزارة الخزانة.

وقال كيسي موليغان، الذي شغل منصب كبير الاقتصاديين في إدارة ترمب الأولى: «الحكومة بطيئة جداً في تبنِّي أساليب جديدة، حيث لا تزال الأمور مرتبطة بعقود من الزمن في تنفيذ المهام. هناك كثير من خدمات البريد الأخرى التي نشأت في السبعينات والتي تؤدي وظائفها بشكل أفضل بكثير مع زيادة الأحجام، وخفض التكاليف. لم نتمكن من إتمام المهمة في فترتنا الأولى، ولكن يجب أن نتممها الآن».

وتُعد خدمة البريد الأميركية واحدة من أقدم الوكالات الحكومية، حيث تأسست عام 1775 في عهد بنيامين فرنكلين، وتم تعزيزها من خلال التسليم المجاني للمناطق الريفية في أوائل القرن العشرين، ثم أصبحت وكالة مكتفية ذاتياً مالياً في عام 1970 بهدف «ربط الأمة معاً» عبر البريد. وعلى الرغم من التحديات المالية التي يفرضها صعود الإنترنت، فإن الخدمة البريدية تظل واحدة من أكثر الوكالات الفيدرالية شعبية لدى الأميركيين، وفقاً لدراسة أجراها مركز «بيو» للأبحاث عام 2024.

ومع مطالبات الجمهوريين في الكونغرس وآخرين في فلك ترمب بخفض التكاليف الفيدرالية، أصبحت الخدمة البريدية هدفاً رئيسياً. وأفاد شخصان آخران مطلعان على الأمر بأن أعضاء «وزارة كفاءة الحكومة»، وهي لجنة غير حكومية يقودها رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا إيلون ماسك وفيفيك راماسوامي، أجروا أيضاً محادثات أولية بشأن تغييرات كبيرة في الخدمة البريدية.

وفي العام المالي المنتهي في 30 سبتمبر (أيلول)، تكبدت الخدمة البريدية خسائر بلغت 9.5 مليار دولار، بسبب انخفاض حجم البريد وتباطؤ أعمال شحن الطرود، على الرغم من الاستثمارات الكبيرة في المرافق والمعدات الحديثة. وتواجه الوكالة التزامات تقدّر بنحو 80 مليار دولار، وفقاً لتقريرها المالي السنوي.

من شأن تقليص الخدمات البريدية أن يغير بشكل جذري صناعة التجارة الإلكترونية التي تقدر قيمتها بتريليون دولار، ما يؤثر في الشركات الصغيرة والمستهلكين في المناطق الريفية الذين يعتمدون على الوكالة بشكل كبير. وتُعد «أمازون»، أكبر عميل للخدمة البريدية، من بين أكبر المستفيدين، حيث تستخدم الخدمة البريدية لتوصيل «الميل الأخير» بين مراكز التوزيع الضخمة والمنازل والشركات. كما أن «التزام الخدمة الشاملة» للوكالة، الذي يتطلب منها تسليم البريد أو الطرود بغض النظر عن المسافة أو الجوانب المالية، يجعلها غالباً الناقل الوحيد الذي يخدم المناطق النائية في البلاد.

وقد تؤدي محاولة خصخصة هذه الوكالة الفيدرالية البارزة إلى رد فعل سياسي عنيف، خصوصاً من قبل الجمهوريين الذين يمثلون المناطق الريفية التي تخدمها الوكالة بشكل غير متناسب. على سبيل المثال، غالباً ما يستدعي المسؤولون الفيدراليون من ولاية ألاسكا المسؤولين التنفيذيين في البريد للوقوف على أهمية الخدمة البريدية لاقتصاد الولاية.

وفي رده على الاستفسارات حول خصخصة الوكالة، قال متحدث باسم الخدمة البريدية إن خطة التحديث التي وضعتها الوكالة على مدى 10 سنوات أدت إلى خفض 45 مليون ساعة عمل في السنوات الثلاث الماضية، كما قللت من الإنفاق على النقل بمقدار 2 مليار دولار. وأضاف المتحدث في بيان أن الوكالة تسعى أيضاً للحصول على موافقة تنظيمية لتعديل جداول معالجة البريد، وتسليمه لتتوافق بشكل أكبر مع ممارسات القطاع الخاص.

كثيراً ما كانت علاقة ترمب مع وكالة البريد الأميركية متوترة، فقد سخر منها في مناسبات عدة، واصفاً إياها في المكتب البيضاوي بأنها «مزحة»، وفي منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، وصفها بأنها «صبي التوصيل» لشركة «أمازون».

وفي الأيام الأولى لجائحة فيروس «كورونا»، هدد ترمب بحرمان الخدمة البريدية من المساعدات الطارئة ما لم توافق على مضاعفة أسعار الطرود 4 مرات. كما أذن وزير خزانته، ستيفن منوشين، بمنح قرض للوكالة فقط مقابل الحصول على وصول إلى عقودها السرية مع كبار عملائها.

وقبيل انتخابات عام 2020، ادعى ترمب أن الخدمة البريدية غير قادرة على تسهيل التصويت بالبريد، في وقت كانت فيه الوكالة قد مُنعت من الوصول إلى التمويل الطارئ الذي كان يحظره. ومع ذلك، في النهاية، تمكنت الخدمة البريدية من تسليم 97.9 في المائة من بطاقات الاقتراع إلى مسؤولي الانتخابات في غضون 3 أيام فقط.

وعند عودته إلى منصبه، قد يكون لدى ترمب خيارات عدة لممارسة السيطرة على وكالة البريد، رغم أنه قد لا يمتلك السلطة لخصخصتها بشكل أحادي. حالياً، هناك 3 مقاعد شاغرة في مجلس إدارة الوكالة المكون من 9 أعضاء. ومن بين الأعضاء الحاليين، هناك 3 جمهوريين، اثنان منهم تم تعيينهما من قبل ترمب. ولدى بايدن 3 مرشحين معلقين، لكن من غير المرجح أن يتم تأكيدهم من قبل مجلس الشيوخ قبل تنصيب ترمب.

ومن المحتمل أن يتطلب تقليص «التزام الخدمة الشاملة» بشكل كبير - وهو التوجيه الذي أوصى به المسؤولون خلال فترة ولاية ترمب الأولى - قانوناً من الكونغرس. وإذا تم إقرار هذا التشريع، فإن الخدمة البريدية ستكون ملزمة على الفور تقريباً بتقليص خدمات التوصيل إلى المناطق غير المربحة وتقليص عدد موظفيها، الذين يقدَّر عددهم بنحو 650 ألف موظف.

وقد تؤدي محاولات قطع وصول الوكالة إلى القروض من وزارة الخزانة، كما حاولت إدارة ترمب في السابق، إلى خنق الخدمة البريدية بسرعة، ما يعوق قدرتها على دفع رواتب موظفيها بشكل دوري وتمويل صيانة مرافقها ومعداتها. وقال بول ستيدلر، الذي يدرس الخدمة البريدية وسلاسل التوريد في معهد ليكسينغتون اليميني الوسطي: «في النهاية، ستحتاج الخدمة البريدية إلى المال والمساعدة، أو ستضطر إلى اتخاذ تدابير قاسية وجذرية لتحقيق التوازن المالي في الأمد القريب. وهذا يمنح البيت الأبيض والكونغرس قوة هائلة وحرية كبيرة في هذا السياق».

وقد حذر الديمقراطيون بالفعل من التخفيضات المحتملة في خدمة البريد. وقال النائب جيري كونولي (ديمقراطي من فرجينيا)، أحد الداعمين الرئيسيين للوكالة: «مع مزيد من الفرص أمامهم، قد يركزون على خصخصة الوكالة، وأعتقد أن هذا هو الخوف الأكبر. قد يكون لذلك عواقب وخيمة، لأن القطاع الخاص يعتمد على الربحية في المقام الأول».

كما انتقدت النائبة مارغوري تايلور غرين (جمهورية من جورجيا)، رئيسة اللجنة الفرعية للرقابة في مجلس النواب، الخدمة البريدية في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، وكتبت: «هذا ما يحدث عندما تصبح الكيانات الحكومية ضخمة، وسوء الإدارة، وغير خاضعة للمساءلة».

وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، تعرضت الوكالة لانتقادات شديدة، حيث خضع المدير العام للبريد، لويس ديغوي، لاستجواب حاد من الجمهوريين في جلسة استماع يوم الثلاثاء. وحذر رئيس لجنة الرقابة في مجلس النواب، جيمس كومر (جمهوري من كنتاكي)، ديغوي من أن الكونغرس في العام المقبل قد يسعى لإصلاح الخدمة البريدية.

وسأل الجمهوريون مراراً وتكراراً عن استعادة التمويل لأسطول الشاحنات الكهربائية الجديد للوكالة، والخسائر المالية المتزايدة، وعن الإجراءات التنفيذية التي قد يتخذها ترمب لإخضاع الخدمة.

وقال كومر: «انتهت أيام عمليات الإنقاذ والمساعدات. الشعب الأميركي تحدث بصوت عالٍ وواضح. أنا قلق بشأن الأموال التي تم تخصيصها للمركبات الكهربائية، والتي قد يجري استردادها. أعتقد أن هناك كثيراً من المجالات التي ستشهد إصلاحات كبيرة في السنوات الأربع المقبلة... هناك كثير من الأفكار التي قد تشهد تغييرات كبيرة، وإن لم تكن مفيدة بالضرورة لخدمة البريد».