بين رفض الزبونات دمقرطة الـ {هوت كوتير} ورغبة المصممين في عصرنتها

هل لا تزال «الهوت كوتير» ضرورية مقارنة بعدد زبوناتها التي تشير الأرقام أنهن في أحسن الحالات، لا يتعدين الألف في العالم؟. وهل يمكن تطويرها وتفكيكها من طقوس تجاوز عمرها الـ150 عاما؟. وهل يمكن إنزالها من برجها العاجي وإدخالها مناسبات الأيام العادية؟ هذه، وأسئلة كثيرة غيرها، طرحها أسبوع الـ«هوت كوتير» لخريف 2014 وشتاء 2015 في أسبوع الموضة، فالخميس الماضي، آخر أيام الأسبوع، لم يضع نقطة النهاية عليه؛ حيث لا تزال أصداؤه تتردد إلى حد الآن، خصوصا أن عرض «رالف آند روسو»، كان مسك الختام.
فما نجحت فيه هذه الدار، التي كانت أول دار أزياء بريطانية تشارك في الأسبوع الباريسي بدعوة من غرفة الموضة الفرنسية منذ نحو قرن، أنها ذكرتنا بما تعنيه كلمة الـ«هوت كوتير» من فنية عالية وتصاميم غير عادية مغزولة بالأحلام التي تغذيها الأساطير ورغبة امرأة مقتدرة أن تعيش الحياة بكل المتع التي تتيحها لها إمكانياتها. كانت التصاميم فخمة تعبق بسحر الخمسينات من القرن الماضي، تخاطب امرأة تحن إلى الزمن الجميل من دون أي رغبة لها في التنكر لحاضرها أو مستقبلها. كل ما في الأمر أن هذه المرأة ترفض مفهوم الديمقراطية رفضا تاما، بالتالي لن تقبل بأزياء عادية، مهما حاول البعض تسويقها لها باسم الحداثة أو التطوير لمواكبة العصر، هذا التناقض بين ما تريد هذه الزبونة ورغبة بعض المصممين في تطوير و«عصرنة» مفهوم الـ«هوت كوتير»، طرح نفسه بقوة هذا الموسم، لا سيما مع محاولات بعض كبريات بيوت الأزياء مثل ديور، أن تنزل هذا الجانب من برجه العاجي لتدخله إلى العادي واليومي من خلال أزياء مبتكرة وأنيقة، لكنها تفتقد جانب الحلم. هذه المحاولة بدأها آخرون في مواسم سابقة، مثل كارل لاغرفيلد، عندما أدخل قماش الدينم والجينز ثم الأحذية الرياضية إليه، لكن ما يحسب له أنه دائما ينجح في الحفاظ على رموز «شانيل» وصياغتها بلغة شابة وحيوية تجعل من الصعب انتقاده حتى من قبل الجدات، فهناك دائما تايور من التويد مخصص لهن يسكتهن أو فستان سهرة طويل يجمع أناقة أيام زمان برموز الدار، لكن ليس كل المصممين يتمتعون بقدرات كارل لاغرفيلد على التلون مع كل التغييرات الاجتماعية والثقافية والسياسية، وما ينجح فيه بسهولة، يجد آخرون صعوبة في ترجمته وإقناع المرأة به، فالمعادلة بين الكلاسيكي الحالم والعصري العملي تحتاج إلى الكثير من الإقناع والشجاعة، مثلما اكتشف راف سيمونز، مصمم دار ديور، الذي حاول أن يكسر الكليشيهات من خلال تشكيلة تعبق بروح مستقبلية مع نفحات خفيفة من الماضي. صمم متحف رودان، مكان عرضه، على شكل مستدير وكأنه مركبة فضائية بأرضية بيضاء نجحت الورود البيضاء التي غطت كل الجدران في التخفيف من برودتها المستقبلية والوظيفية وإضفاء بعض رومانسية زمان عليها، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن السيد ديور كان يعشق الورود ولا يستغنى عنها في عروضه.
بيد أن الديكور، ببساطته وبياضه، مؤشرا على أن الأزياء نفسها ستكتسب روحا مستقبلية، وهو ما كان، خصوصا فيما يتعلق بمجموعة مستوحاة من ركاب الفضاء بسحابات وجيوب كبيرة.
ما يحسب لراف سيمونز أنه لم يتنكر تماما للماضي فقد عاد إليه في مجموعة فساتين درامية افتتح بها العرض، أخذتنا إلى القرن الثامن عشر، ظهر أيضا في مجموعة من المعاطف أخذتنا إلى السبعينات من القرن الماضي، وهكذا، كان هناك تنوع كبير لم ينقذه من التشتت سوى التطريزات الدقيقة والقناعة بإمكانيات الدار، وبأن كل قطعة تمت بحرفية عالية في ورشاتها في أفينو مونتين، على يد أناملها الناعمة والمتمرسة. تخرج من العرض وأنت معجب بشجاعة راف سيمونز ورغبته المحمومة في التطوير، لا سيما وأن التشكيلة قد تجد هوى في نفوس الجيل الجديد من زبونات الـ«هوت كوتير»، لكنه إعجاب ممزوج ببعض القلق على مفهوم الـ«هوت كوتير» كجانب يثير الحلم وكمختبر للبحث عن الجمال والأناقة، وليس مجرد مختبر للتطوير والبحث عن الجديد، أو تعلم لغات عصرية تفهمها زبونات الأسواق النامية، رغم أن لا أحد ينكر أهميتهن وقوتهن الشرائية.
ما قدمه راف سيمونز، باستثناء المجموعة التي افتتح بها عرضه والمكونة من فساتين طويلة بتنورات ضخمة تستحضر بلاطات القرن الثامن عشر والملكة ماري أنطوانيت، كان أقرب إلى الأزياء الجاهزة، بما في ذلك المعاطف التي شدت الانتباه، فهي لم تخرج عن نطاق الأنيق العادي، في موسم لا يحتاج أن تكون فيه الأزياء عملية، بقدر ما تكون مترفة، فنية وفخمة كما كانت دائما، أزياء تبقى بالنسبة للعامة حلما بعيد المنال أو وسيلة ترفيهية يتابعونها بانبهار واستغراب، لا علاقة لها بواقعهم، لأنها تخص أشخاصا ينتمون إلى عالم آخر.
وحتى زبونات هذا القطاع، تشعر من خلال متابعة ملامحهن والانطباعات المرسومة على وجوههن، بأن لا الزمن غيّرهن ولا تسارع إيقاع الحياة، فهن لا يزلن يطمحن إلى أزياء فنية وفريدة من نوعها، أقرب إلى الجواهر، يستثمرن فيها، وليس مجرد فساتين عصرية تذهب موضتها بعد موسم أو موسمين.
هذه الرؤى والرغبات المتناقضة، تضع المصممين تحت ضغط كبير، فهم يدركون بأن زبونتهم تتوقع منهم الجديد والاستثنائي، الذي يخاطب عصرها من دون أن يتنصل من الماضي الجميل تماما، بينما هم يرغبون في التطوير وفرضه على الساحة عوض الاستكانة إلى أمجاد الماضي، وهذا ما يحاول البلجيكي راف سيمونز القيام به منذ عامين تقريبا، عندما التحق بدار «ديور»، كان المطلوب منه إجراء عملية تجميل تضفي عليها المزيد من الجمال والحيوية من دون أن يغير ملامحها الأصلية، بل العكس يبني عليها ويبرزها بأسلوبه، وهو ما نجح فيه إلى حد كبير، أو على الأقل فيما يتعلق بالأزياء الجاهزة والإكسسوارات والـ«كروز» والـ«بريفول» وغيرها، بينما لا يزال يتلمس طريقه في الـ«هوت كوتير»، مشكلته أنه ينتمي إلى المدرسة البلجيكية التي تؤمن بأن الأناقة تعني الهدوء وليس البهرجة، وربما هذا هو السبب الذي يجعله لم يتمكن بعد من التحكم في لغة الـ«هوت كوتير»، أو لا يتقن ممارسة طقوسها التقليدية التي تقوم على عنصري الإبهار والحلم.
ما يلفت الانتباه أكثر، أنه يصمم للدار التي أرست الكثير من جماليات ذلك الزمن، أي أن أرشيفها ورموزها الكثيرة تحت يديه، وكل ما عليه هو أن يغرف من إرثها وتجديده بشكل عصري، عوض محاولات تحديثها بشكل جذري وسريع. إذا كان هناك شيء يشفع له، فهو رغبته في أن يقدم للمرأة، بغض النظر عن عمرها، خزانة متكاملة لكل المناسبات، وإذا كان هناك شيء يؤاخذ عليه، فهو عدم فهمه سيكولوجية زبونة «الهوت كوتير»، فهي ليست مجرد امرأة مواكبة للموضة، وتجري وراء آخر صيحاتها، بل هي امرأة ترفض الديمقراطية ولا تقبل بالمنافسة، وبالتالي لا تريد أن يفقد هذا الجانب نخبويته، ويتحول إلى ناد تدخله أيا كانت، فهذه النخبوية هي ما تميزه وتبرر أسعاره وفنيته في عيونها.
إن رفضها للديمقراطية اتضحت معالمه منذ عام 2008، الذي تزامنت الأزمة الاقتصادية العالمية فيه مع انتعاش غير مسبوق للمنتجات المرفهة، بما فيها الأزياء الراقية التي تقدر أسعار القطعة فيها بمئات الآلاف من الدولارات، أو أكثر، السبب أن هذه الزبونة المقتدرة، لا تريد أن تظهر بفستان يمكن لغريمتها الوصول إليه بسهولة، بقدر ما تريد تحفا تثير الرغبة فيها من جهة، والحسد من جهة ثانية، فالتحدي بالنسبة لها أن تحصل على أزياء تجمع كل هذه العناصر.
دار «شانيل» فهمت هذا الاتجاه جيدا، وقدمت تشكيلة تضج بالبذخ الباروكي الممزوج بهندسية عملية وسهلة، لم يبخل فيها المصمم كارل لاغرفيلد بالتطريز السخي، ولا بأفكار جديدة تجسدت هذه المرة في استعماله قماش النيوبرين، الذي لم يستعمل من قبل في الأزياء الراقية، جاء اختياره لهذا القماش مثاليا لصياغة أشكال هندسية تليق بالمعماري السويسري الفرنسي، لو كوربوزييه، أحد رواد التصميم الوظيفي الحديث، الذي ألهم هذه التشكيلة، لأن هذا المعماري كان من مناصري الأسلوب الوظيفي العملي، فإن لاغرفيلد أخذه إلى قصر فرساي حتى يتيح لنفسه إمكانية التطريز السخي والبذخ الواضح في كل قطعة.
لاغرفيلد أكثر من يعرف بأن للـ«هوت كوتير» تقنيات وطقوس لا يمكن الخروج عنها باسم التجديد والتحديث، رغم أن الجيل الجديد من الزبونات بتن يفرضن أسلوبهن إلى حد ما، وإن كن لا يفرقن عن غيرهن من ناحية رغبتهن في تصاميم حالمة وفخمة تخضع لمقاييس الماضي، على أن يقتصر التحديث فيها على القصات والتفاصيل.
هذا يعني أن تطوير تقنيات هذا الفن مطلوب على أن تبقى الطقوس نفسها، لا تتأثر بالعولمة أو تسارع إيقاع الحياة وانفتاح أسواق جديدة، ولا بظهور زبونات شابات، فقد يكون هذا القطاع، هو الوحيد الذي لا يتطلب السرعة ويكمن سحره في البطء والتأني الذي تستغرقه القطعة الواحدة من الألف إلى الياء، من مقابلة المصمم للتوصل إلى صيغة مناسبة للتصميم، ثم التفصيل على المقاس إلى إجراء البروفات وغيرها من الخطوات اللازمة لاكتمال أي زي، إضافة إلى كل هذا، فإن عدم توافرها في المحلات، بل في معمل المصمم يعطي التجربة ككل خصوصية تجعل المرأة تشعر بالزهو، وبأنها عضو لا يمكن الاستغناء عنه في هذا النادي النخبوي.
لو لم يتغير إيقاع الأسبوع مع جيورجيو أرماني، إيلي صعب، رالف آند روسو، ستيفان رولان، لقلنا إننا نعيش فترة انتقالية لمفهوم الـ«هوت كوتير» مع راف سيمونز، مثلما حصل في الستينات والسبعينات من القرن الماضي مع إيف سان لوران مثلا، فقد كادت ديناميكية الأسبوع أن تتغير، بأن تتحول تصاميمه من الاستثنائي والدرامي إلى العملي، وربما الوظيفي، وهذا أمر لا يعيب راف سيمونز أو يقلل من شأنه، بل العكس، لأن مجرد المحاولة خطوة شجاعة، إضافة إلى أن الموازنة بين الحداثة والفخامة لا تزال من المعادلات الصعبة، لأن الأول يتطلب الكثير من الواقعية مع نظرة مستقبلية، والثاني يتطلب التشبث بالماضي وسحر أساطيره. أما الوصفة الناجحة فهي المزج بينهما بجرعات متوازنة، لأن أي شيء يخرج عن حد ينقلب إلى ضده، بدليل أن عرض دار «فالنتينو» الذي كان درسا في الحرفية الإيطالية العالية والدقة في التفاصيل والفنية، افتقد عنصر الإثارة، لأن صوت الماضي طغى على كل شيء فيه.
كان العرض رومانسيا وراقيا وفنيا ذكرنا بأن الدار الإيطالية تريد أن تحافظ على إرثها وتحتفل بفنية روما وتاريخها الغني، من خلال إيحاءات من أعمال الفنانة ألما تاديما، وصور آلهة روما القديمة ملفوفة بأقمشة مترفة ومنسابة تتماوه مع لون الجسم أحيانا، لكن، على الرغم من كل هذا افتقد العرض إلى عنصر الحلم، الذي كان من الممكن أن يضيف إليه الكثير من الحيوية.
اعترف المصممان غراتزيا تشيوري وبيير باولو بيكيولي أنهما استلهما من الفن الكلاسيكي قبل الرافائيلي وترجماه في خطوط بسيطة استحضرت أحيانا إلهات الإغريق، خصوصا في الفساتين التي زينتها زخرفات مطرزة بالذهب وانسدلت على أقمشة الموسلين والتل، وحددتها أحزمة عريضة. في الكثير من الأحيان، حافظت هذه الأقمشة على شفافيتها، عندما تعمد المصممان ألا يبطناها.
هذه الشفافية تناقضت بتناغم مع بعض القطع ذات الياقات العالية والأكمام الطويلة، ما يجعلها مناسبة جدا لنساء الشرق الأوسط، ومع ذلك فإن إغراقها في الفنية والاعتماد على فكرة واحدة لم يخدما الأزياء، لأنها بدت جامدة أحيانا مثل تماثيل روما، تبدو رائعة من بعيد أو لالتقاط صور تذكارية لها، لكنها لا تغري بامتلاكها. أما إذا كانت فكرة المصممين، التعبير عن ثقافة العصر باستضافة كيم كارداشيان، بفستانها الطويل والضيق وصدره المفتوح بشكل فاضح، فإنهما لم يتوفقا، لأنها بدت نشازا بين كل تلك الأزياء التي تقطر بالفنية وعبق التاريخ والحشمة.