مع أن اليمين الإسرائيلي الحاكم، نجح في إطلاق رصاصة القتل على ما تبقى من بنود تحتاج إلى تطبيق في «اتفاقيات أوسلو»، وتمكن من وضع عراقيل جمة في طريق تسوية الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، في مقدمتها مضاعفة عدد المستوطنين أربع مرات (من 100 ألف مستوطن سنة 1992، أي قبل أوسلو، إلى 400 ألف اليوم)، فقد احتفل بالذكرى المئوية الخامسة والعشرين لهذه الاتفاقيات، شاكياً من أنها ما زالت تلحق أضراراً بمصالح إسرائيل، ويطالب بإلغائها. وبالمقابل، لا يسمع في أوساط المجتمع الإسرائيلي صوت القيادات السياسية التي ما زالت تؤمن بمبادئ تلك الاتفاقيات. وهي تشكو تبعات سياسة اليمين على عملية السلام ومستقبل الأجيال القادمة، وتولول بأن استمرار الوضع الحالي سيؤدي إلى تحول اليهود إلى أقلية في دولتهم. لكن هذا التيار، لا ينجح في وضع قضية السلام على أجندة المجتمع، ويبدو عاجزاً كسولاً، وحتى نائماً في هذا المجال، لدرجة أن رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، لم يعد يشعر بوجود معارضة.
لقد تجاهل نتنياهو، في جلسة حكومته، أمس (الأربعاء)، اليوبيل الفضي لاتفاقيات أوسلو، واختار الترحيب بقرار الإدارة الأميركية إغلاق مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، علماً بأن إسرائيل، اعترفت بموجب تلك الاتفاقيات، بمنظمة التحرير لأول مرة. فكأنه يغلق هذه الدائرة ويحتفي بالضربة الأميركية المعنوية للمنظمة وما تمثله.
لكن مجلس المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، حليف نتنياهو في الحكم، لم يتجاهل المناسبة، وأصدر بياناً خاصاً ذكّر فيه الجمهور بأن اتفاقيات أوسلو مرت بأكثرية ضئيلة في حينها (61 مؤيداً مقابل 51 معارضاً في البرلمان الإسرائيلي)، و«قسمت الشعب اليهودي ومزقته إرباً». واعتبرها «أسوأ اتفاقيات وقّعتها إسرائيل عبر تاريخها». و«ثبت فيها أن العرب لم يقصدوا حقاً أن يطبقوا هذه الاتفاقيات ويجنحوا إلى السلام، بل رأوا فيها خطوة في مسيرة طويلة لتدمير إسرائيل. فقد اقترح عليهم إيهود باراك أن يقيموا دولة على 91 في المائة من الأرض فرفضوا. واقترح عليهم إيهود أولمرت كل المناطق تقريباً ورفضوا، وضاعفوا عمليات الإرهاب. وأقاموا سلطة تدير شؤونهم كلها تقريباً، فكانت سلطة فاشلة بكل المقاييس، تمول عائلات الإرهاب». وقال بيان المجلس «عندما انسحبنا من قطاع غزة اختاروا سلطة (حماس)، التي لا تكترث لأحوالهم المعيشية. وبدلاً من ذلك تهتم بشراء الأسلحة وبناء الأنفاق العسكرية». وأضاف مجلس المستوطنات، إن «اتفاقيات أوسلو لم تعد قائمة اليوم». واستخلص بأن المستوطنات «هي الحل». وأنها «المفتاح لتحقيق الهدوء وتطور المنطقة». فالعرب برأي المجلس «يستطيعون العيش في المكان من دون دولة. لم تعد هناك مناطق (أ) و(ب) و(ج)، وعلى إسرائيل أن تدخل كل المناطق. وينبغي أن نجد آليات وأنظمة تتيح إدارة شؤونهم اليومية».
وقال مئير ادور، رئيس «لجنة مصابي الإرهاب - المغور»، إن «اتفاقيات أوسلو مجرد وهم، وهي لم تعد قائمة. مناطق السلطة الفلسطينية هي مجرد مسخ مدجج بنحو 20 ألف مقاتل فلسطيني حملناهم البنادق والمجنزرات. وقد حان الوقت لتصحيح الأضرار التي نجمت عن هذه الاتفاقيات. يجب أن نزوّد المبعوثين الأميركيين جارد كوشنير وجيسي غرينبلات، بالمعلومات عن حدود قدرتنا على التحمل كي لا يتم تكرار التجربة. محظور توسيع الإدارة الذاتية للسلطة ومحظور تحويلها إلى دولة. بل يجب سحب مسؤولية الأمن من السلطة في المنطقة (أ). وينبغي أن لا ينسى أحد أنه منذ حرب 1967 وحتى أوسلو، قتل 415 إسرائيلياً، ومنذ أوسلو قتل 1700 إسرائيلي. فمع سلام كهذا، لا نحتاج إلى أعداء».
ونشرت منظمة «قيادة يهودية» اليمينية، دراسة جاء فيها، إن اتفاقيات أوسلو تسببت بخسائر كبيرة لإسرائيل، على النحو التالي: 88 مليار شيقل (الدولار يساوي 3.6 شيقل) تحويلات للسلطة الفلسطينية، 37 ملياراً زيادة ميزانية الشاباك (جهاز المخابرات العامة)، 300 مليار زيادة موازنة الجيش، 112 ملياراً زيادة مصاريف وزارة الأمن الداخلي وسرقة السيارات، 220 ملياراً مصاريف وضع حراس في الأماكن العامة والمطاعم والبنوك، وغيرها من المواقع التي تم استهدافها بالعمليات المسلحة، 4.7 مليار بناء الجدار العازل، 12 ملياراً تعويضات دفعت لذوي العائلات الثكلى، 150 ملياراً خسائر إسرائيل من السياحة في فترات العمليات، 9.5 مليار تكلفة إخلاء قطاع غزة من المستوطنات والمستوطنين. المجموع 933 مليار شيقل. عملياً، فإن 11.4 في المائة من موازنة الدولة يذهب خسائر بسبب اتفاقيات أوسلو.
وكتب المحرر العسكري في «هآرتس»، عاموس هرئيل، إن اتفاقيات أوسلو انهارت في المقام الأول؛ لأنها لم تنجح في أن توفر للإسرائيليين مستوى الأمن الشخصي الذي وعدتهم به حكومة رابين - بيرس أثناء التوقيع عليها. سلسلة أحداث قاتلة، مثل المذبحة التي نفذها باروخ غولدشتان ضد المصلين المسلمين في الحرم الإبراهيمي، وموجة العمليات الانتحارية لـ«حماس» في الحافلات، واغتيال إسحق رابين، كل ذلك أغرق حلم أوسلو بالدم والنار والدخان. كلما زادت العمليات قل تأييد الاتفاقيات، وكذلك تأييد الجمهور الإسرائيلي لإخلاء مناطق أخرى، التي من دونها لم يكن بالإمكان التوصل إلى اتفاق نهائي. في عام 2000، عندما بذل كلينتون وإيهود باراك جهوداً أخيرة لإعادة العملية إلى مسارها في مؤتمر كامب ديفيد، وبعد ذلك في مفاوضات طابا، حدث انفجار أكبر: الانتفاضة الثانية. الأمل دفن عميقاً أكثر تحت الأنقاض. نحو 1500 إسرائيلي وأكثر من 7 آلاف فلسطيني قتلوا في السنوات التي مرت منذ مراسيم التوقيع على العشب الأخضر في البيت أبيض. هكذا تلاشت الثقة بين الطرفين ودمرت تقريباً كل احتمالية للعودة والدفع بالمفاوضات. وانتقد هرئيل اليسار الإسرائيلي الذي ينشر مقالات الرثاء، لكنه يقلل من الأهمية الكبيرة للعنصر الأمني في الاتفاق. رابين اختار مسار أوسلو بدرجة غير قليلة من الشك الشخصي، بسبب ترابط أسباب عدة. لقد أدرك، ربما متأخراً، الضرر الأخلاقي الذي يسببه استمرار الاحتلال للجيش الإسرائيلي والمجتمع الإسرائيلي. «الجيش الإسرائيلي يجب أن يتوقف عن كونه جيش احتلال والعودة ليكون جيش الدفاع»، قال لمراسلين بعد سنة تقريباً من توقيع الاتفاق الأول. لكن العمليات الانتحارية تفاقمت، «ومن هنا فصاعداً، لا يوجد زعيم إسرائيلي يثق بحلم أوسلو بدرجة تمكن من التقدم نحو اتفاق دائم. بنيامين نتنياهو انسحب من مناطق في الضفة تحت ضغط أميركا، في اتفاق الخليل وفي اتفاق واي (الأمر الذي يحاول أن يتم نسيانه الآن)؛ انسحب اريئيل شارون بشكل أحادي الجانب من قطاع غزة ومن شمال السامرة. لكن مسيرة أوسلو نفسها تجمدت. حدث هذا بالأساس لأن معادلة بسيطة وواضحة، حسب عدد كبير من الإسرائيليين، كانت قد ترسخت: في كل مرة تنسحب فيها إسرائيل من منطقة صغيرة ستتحول إلى خشبة قفز مستقبلية لعمليات إرهابية ضدها».
ويتطرق هرئيل إلى الدور الإسرائيلي في إفشال أوسلو فيقول «لقد كان لفشل أوسلو بالطبع مساهمة إسرائيلية بارزة. فأيضاً عندما سارت الأمور بشكل جيد، لم تسارع إسرائيل إلى التقدم في المفاوضات مع الفلسطينيين، وطوال الوقت واصلت إسرائيل استيطان الضفة والأحياء المقدسية شرق الخط الأخضر وشماله. أكثر من الـ800 ألف إسرائيلي الذين يعيشون الآن خلف الخط الأخضر يصعّبون التوصل إلى اتفاق دائم، حتى لو كانت أغلبيتهم الحاسمة موجودة في الأحياء المقدسية وفي الكتل الاستيطانية. قبل نحو شهرين تحدثت مجلة (نيويوركر) عن القلق الذي أظهره زعماء إدارة أوباما عندما نظروا في 2015 إلى الخريطة التي تجسد إلى أي درجة نجحت المستوطنات والبؤر الاستيطانية في القضاء على خيط تواصل جغرافي للدولة الفلسطينية العتيدة. كان هذا استيقاظاً متأخراً جداً. ضباط الإدارة المدنية شخّصوا التوجه الكامن خلف مد (أصابع) المستوطنات في الضفة شرقاً قبل سنوات كثيرة من ذلك. وكما سبق وحلل الوف بن، يمكن الافتراض أن الحلم الحقيقي لنتنياهو هو شن حرب استنزاف دبلوماسية وأمنية هدفها نهاية آمال الحركة الوطنية الفلسطينية».
ولكن أحد المهندسين الأساسيين لاتفاقيات أوسلو، أوري سفير، الذي شغل منصب مدير عام ووزارة الخارجية وكان مفاوضاً رئيساً، يرى حتى اليوم أن «اتفاقيات أوسلو كانت حدثاً تاريخياً، ويقول إن اليمين يحاربها لأنها أحدثت تحولاً سياسياً وآيديولوجياً يتناقض مع عقيدته التي تخلد الحروب. فاليمين يؤمن بضرورة الحفاظ على أرض إسرائيل كلها، بما فيها الضفة الشرقية للأردن، للسيادة الإسرائيلية، ونحن جئنا بحل يؤدي لقيام دولة فلسطينية. هو لم يحسب حساباً للعرب ونحن تقاسمنا البلاد مع العرب. هو لم يخجل من كونه محتلاً شعباً آخر ونحن قررنا وقف هذه الحالة المخجلة. نحن انطلقنا من منطلق أننا أقوياء بما يكفي لنصنع السلام وهم كانوا وما زالوا أضعف من أن يصنعوا السلام. أوسلو كان انتصاراً لنا وهزيمة لهم، فلم يتقبلوا هذا الحسم».
7 آلاف قتيل فلسطيني و800 ألف مستوطن يغلقون الطريق إلى حل الدولتين
نتنياهو يريد حرباً دبلوماسية وأمنية تنهي حلم الحركة الوطنية الفلسطينية
7 آلاف قتيل فلسطيني و800 ألف مستوطن يغلقون الطريق إلى حل الدولتين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة