صراع الذكاء الصناعي والذكاء البشري

عالم فرنسي يؤكد أهمية تكاملهما في العملية التعليمية

صراع الذكاء الصناعي والذكاء البشري
TT

صراع الذكاء الصناعي والذكاء البشري

صراع الذكاء الصناعي والذكاء البشري

بعد نشر مقاله الأول عام 2011 تحت عنوان «موت الموت... كيف يمكن للتقنية الدوائية إحداث ثورة في حياة البشرية» بدأ نجم ألكسندر لورون (Laurent Alexandre) في الظهور كأحد أهم الرواد والمحللين التكنولوجيين، لا سيما بعد تأكيده على إمكانية تجاوز الذكاء الصناعي القدرات البشرية، وكيف يمكن للعملية التعليمية مجابهة هذه الثورة الهائلة، الأمر الذي دفع لورون لأن يقتحم عالم الذكاء الصناعي والتحولات الكبرى المصاحبة له، التي تنعكس انعكاساً مباشراً على حياتنا اليومية، خصوصاً فيما يتعلق بمفهومنا وإدراكنا للعملية التعليمية.
يشير لورون إلى أن الذكاء الصناعي يتقدم بوتيرة أسرع من كل الخيارات المتقدمة، إذ إن سرعة تعلمه تتضاعف مائة مرة سنوياً، بينما تستغرق عملية تأهيل المهندس أو الطبيب 30 عاماً، فيما لا يستغرق الأمر سوى بضعة ساعات فقط للتدريب على الموضوعات نفسها من خلال الذكاء الصناعي. ومن وجهة نظر أخرى، فإن المدرسة التي لم يطرأ عليها أي تقدم منذ 250 عاماً على سبيل المثال، وتكتفي فقط بتعليم مهن محددة خلال فصل الشتاء، لا يمكن لها أن تشهد أي تطور حتمي، لأنه كان يجب عليها أن تتواكب مع عملية التقدم والتطور تماشياً مع الثورة الحتمية التي أحدثها الذكاء الصناعي في العملية التعليمية، ومن ثم في سوق العمل.
يوضح لورون كلَّ هذا في كتابه «حرب الذكاء الصناعي والذكاء البشري» الصادر مؤخراً عن دار النشر الفرنسية «جي سي لات» (JC Lattès).
ويكتسب الكتاب أهمية خاصة لأسباب عديدة، أبرزها يكمن في مدى أهمية الذكاء الصناعي في الحياة اليومية للفرد، وكذلك السبل والتدابير التي يجب أن نتخذها حتى تتمكن عقولنا البيولوجية من مجابهة ثورة الذكاء الصناعي، وكيف يمكن كذلك للتربية، غير الدارونية، (نسبة إلى دارون عالم الوراثة) أن تجد لها مكانة إلى جانب عقول أو أدمغة السليكون المنتشرة في الولايات المتحدة والصين.
إضافة إلى ذلك، يُشار إلى أن ألكسندر لورون جراح شهير، تخرج في واحدة من أعرق المدارس الفرنسية الطبية المتخصصة، وأنشأ شركات عديدة تعمل في مجال التكنولوجيا الطبية، كما يشغل اليوم منصب رئيس أحد أهم الكيانات الأوروبية في علم الوراثة. ويكتسب هذا الكتاب أيضاً بعداً آخر مهماً، نظراً لأن مؤلفه تعرض للسيناريوهات التي يجب على الإنسانية الاختيار فيما بينها، وهو اختيار صعب للغاية يكمن في «هل نقبل بالتطور الجيني الذي يُحدث انقلاباً وثورة في حياتنا اليومية؟ أم نظل مرتبطين بوضعنا الراهن ونحافظ على بشريتنا، ما يعني ضمنياً: هل نتقبل حظر ومنع الذكاء الصناعي العنيف الذي يفرض نفسه علينا بقوة أم لا»، الأمر الذي يمثل جوهر ولب الفكرة التي يسوقها لنا المؤلف عبر صفحات كتابه البالغة 250 صفحة من القطع المتوسط.
يرى المؤلف أن مرحلة الذكاء الصناعي قد بدأت بالفعل. ولذلك فإن البشرية أمام تحدٍ كبير، إما أن تقبل بهذا التحدي وتسير في ركبه وتتعامل معه، أو أن تتخلف عن ركب الثورة العلمية وتطوراتها المتلاحقة في هذا المجال الذي يشهد تطوراً مشهوداً على مدار الساعة. وكان علم الذكاء الصناعي، على مدى 15 عاماً، مُقتصراً على دائرة ضيقة من المتخصصين والباحثين فقط. ولم يكن هذا العلم يمثل للعوام سوى أنه ضرب من ضروب الخيال العلمي، حيث تدخل بعض الآلات في صراع وتنافس مع الإنسان البشري من وقت لآخر، ولكن لم يكن لأحد أن يتخيل أن الذكاء الصناعي يمكن أن يصبح فيما بعد علماً معاصراً، بعدما كان مقصوراً من ذي قبل على أفلام الخيال العلمي.
وكانت علوم البحث في الذكاء الصناعي قد بدأت على أرض الواقع، وبشكل رسمي، في صيف عام 1956 بعد مؤتمر «دارتموت كولدج» بالولايات المتحدة الأميركية، إذ اقتنع الباحثون والعلماء آنذاك بأن الوصول إلى عقول إلكترونية مساوية لعقول البشر قد أضحى وشيكاً، خصوصاً في ظل قناعة الكثيرين من العلماء بأن بعض الآلاف من خطوط الأكواد المعلوماتية قد سمحت بعد عشرين عاماً من العمل بالوصول إلى خلايا اصطناعية مساوية للخلايا المخية البشرية، أي ما يُشبه الكومبيوتر البسيط، الأمر الذي رفضه الكثيرون إلى أن ظهر الكومبيوتر البدائي عام 1975، وكان يمثل العقل البشري المعقد لدرجة أن الكثيرين لم يكونوا يتصورونه.
ثم توصل الباحثون عام 1970 إلى أن برنامج الذكاء الصناعي بحاجة ماسة إلى «ميكروبروسسور» دقيق للغاية وأكثر فاعلية مما لدينا، ليدخل العلماء بذلك في سباق محموم من الوعود غير الواقعية، بما في ذلك الرعاة الذين يتولونهم مالياً، سواء كانوا يمثلون القطاع العام أو الخاص، إلا أن الأمر انتهى بإقناعهم بأهمية التعاطي مع هذا التطور الجديد.
وفي البداية واجه الملف البحثي في مجال الذكاء الصناعي بعض الإشكاليات، خصوصاً فيما يتعلق بالشق التمويلي، ولكن بعد فترة من شتاء قارص جاء الربيع، فبداية من عام 1995، عادت أموال الرعاة والممولين تتدفق بشكل ملحوظ. وفي عام 1997 هزم الكومبيوتر بطل العالم في الشطرنج جاري كاس باروف، وفي عام 2011 هزم كذلك نظام الـ«IBM» المسمى بـ«واتسون» العنصر البشري في لعبة «جيباردي».
وبداية من عام 2015، أضحى بمقدور الذكاء الصناعي تحقيق تحليلات في أمراض السرطان في بضع دقائق فقط، وهي التحليلات التي كانت تأخذ في السابق حقباً زمنية عديدة.
لكن رغم هذا التطور، إلا أن البرامج المعلوماتية لم تكتسب الصفات الدقيقة للمخ، فأقوى وأفضل جهاز كومبيوتر لم يتمكن من الدخول في منافسة بسيطة مع الذكاء البشري، فالمخ هو الكومبيوتر البشري، ولكنه يتسم بالتعقيد الشديد، وله طبيعة مختلفة في دوائره المتنوعة، لأن العقل البشري له خصوصيته لما به من ملايين الأعصاب، فهو قادر على فهم المواقف غير المعلومة، وكذلك اختراع رد الفعل، والتصرف غير المتوقع، وأيضاً التأقلم مع المواقف المختلفة.
على ضوء ذلك، يوضح الكتاب أن الأمر يتطلب اختراع أو ابتكار طريقة تسمح للذكاء الصناعي بتسجيل خطى جديدة في اتجاه الذكاء البشري.


مقالات ذات صلة

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.